وجهة نظر

الأرشيف ذاكرة الأمم.. الغائب الأكبر في برامج حكوماتنا

الأرشيف هو ذاكرة الأمم، و هو تراثها الذي يحمل إنتاج حركيتها و يعبر بصدق عن طرق تدبيرها لنفسها، و لتعاملها مع محيطها و مع الحياة بشكل عام.

للأمم و الدول و المؤسسات ذاكرة بمثابة خزان لقيمها و اختياراتها، شأنها في ذلك شأن الأفراد العاديين، و أنه كلما فقدت ذاكرتها أو اعترضتها عوامل الإتلاف و الإهمال فقدت القدرة على التوازن في سلوكاتها لتدخل مرحلة سكيزوفرينا، فيضيع منها ذاك الخيط الرفيع بين الذاكرة و السلوك، فتتصرف كالمعتوه أو المختل الذي نسي ماضيه القريب و البعيد ليتيه في إنشاء قواعد و حياة جديدة غير منسجمة مع جذوره.

معظم الدراسات التي أنجزت في مادة الأرشيف في المغرب، ركزت على الجانب التقني، و أنجزت من وجهة نظر إعلامية داخل مؤسسات تعنى بتدريس علوم الإعلام والتواصل أو من وجهة نظر تاريخية من قبل الدارسين والباحثين في تاريخ المغرب، هذا رغم أهمية الموضوع البالغة في بلورة تصور لتحديث الإدارة المغربية و البحث في حكامة جيدة لتدبير تراكم المعلومات و جعلها خزانا للخبرات و تسهيل الولوج إليها كحق من الحقوق الإنسانية سواء من أجل البحث العلمي أو في إطار الرقابة على عمل المسؤول العمومي. يرجع سبب هذا “التهميش” للبحث في الموضوع إلى النظرة التحقيرية السائدة في إدارتنا العمومية للأرشيف وللعاملين به.

ففي نظر الكثيرين، يعتبر الأرشيف مجرد أوراق بالية، صدرت عن زمن و أناس لا يعنونهم في شيء، أوراق طالتها أغبرة الأزمنة البائتة فلم تعد لها أي قيمة، و أنه يتعين في نظرهم إتلافها أو بيعها بالجملة لكل غاية تجارية. و يؤكد نظرة الإدارة لثراتها الأرشيفي هو أن معظم العاملين في مستودعات الأرشيف بمختلف القطاعات هم في معظمهم من الموظفين أو المستخدمين المرتبين في السلالم الدنيا ولا نجد أطرا عليا تقوم بهذهالمهنة ذات البعد الاستراتيجي، وأكثر من ذلك نجد عددا كبيرا من المسؤولين غالبا ما يعينون العاملين في الأرشيف من بين الموظفين المغضوب عليهم كإجراء تأديبي، أو أولئك القليلي المردودية داخل إداراتهم.

الأرشيف ثروة لا مثيل لها..

يعتبر الأرشيف ثروة لا مادية تجسد الإنتاج الوثائقي للنشاط البشري في كل الميادين. وهو يمثل شهادات عن أحداث الماضي وعن طريقة عمل المجتمعات، كما يكشف عن هوية الأفراد والجماعات ولكنها في نفس الوقت أشياء سهلة الضياع والإتلاف، لذلك أبدع الفكر البشري وسائل لحمايتها وصيانتها. فالأرشيف والوثائق المكتوبة تحمل قيم الحضارة المنتجة لها، ولا يمكن بأي حال من الأحوال رصد عوامل تطورها وتوجهاتها العامة دون اللجوء إلى البحث في أرشيفها العمومي، خصوصا الصادر عن مرافقها ومؤسساتها، لكونها تشكل “منجما” للمعلومات والخبرات.

وقد اعتبرته لجنة القانون الدولي التابعة للجمعية العمومية للأمم المتحدة من أهم ممتلكات الدولة، بل مرتبط بوجودها، و لايمكن الاستغناء عنه لإدارة التجمعات و أعطته هذه اللجنة مكانة متميزة لا تقل عن باقي ممتلكات الدولة جاعلة منه جزءا من الممتلكات الثقافية لكل بلد.

الأرشيف علم قائم الذات له نظريته و مناهجه..

منذ ظهور الأرشيف، أي تلك الوثائق المكتوبة والمحفوظة لأغراض معينة بهدف منفعة خاصة او عامة، وذلك أزيد من ثلاثة آلاف سنة على الأقل، منذ ذلك الحين، تطورت مهنة الأرشفة L’archivage عبر الزمن مع تطور المجتمعات ومع تطور الوثائق المحفوظة نفسها وكذلك مع تطور المعلومات المضمنة بها.
وشيئا فشيئا أنتجت البشرية قواعد ومعايير عدة للعمل الأرشيفي، غير أنه منذ القرن السابع عشر، بدأ الأرشيفيون يكتبون عن مهنتهم، يكتبون حول ممارستهم المهنية، ليستنبطوا القواعد والمبادئ العامة واضعين له أسس نظرية و تقنية و قانونية لتنظيم وتدبير عملهم في أحسن الأحوال، ليصبح الأرشيف بذلك علما يدرس في أعتى الجامعات، و حلقة لا يمكن أن يتناساها السياسيون في برامجهم الإنتخابية أو ممارستهم الإنتدابية في الشأن العام.

فأنتجت عشرات الكتب العلمية و النظرية و برز منظرون و باحثون و مهنيون أثروا أيما تأثير على القرارت الإدارية و التدبيرية، و ساهموا بشكل فاعل في السياسات العمومية المعنية بإدارة الأرشيف و المعلومة.

و أصبح للدول الكبرى مؤلفين ومختصين في الأرشيف يعملون على ترقية أرشيف بلدانهم و إشعاعه عبر العالم.

وحدد للأرشيف عمرا ينقسم إلى ثلاث مراحل، يبتدئ من يوم ولادة الوثيقة إلى يوم نهاية منفعتها الإدارية لتلقى مصيرها النهائي، سواء بإتلافها أو صيانتها للأبد لأهداف علمية أو تاريخية.

إن تدبير الأرشيف مرتبط أساسا بالبنيات القانونية والهياكل الإدارية لكل بلد، وهو مرتبط في نفس الوقت بمدى إستعمال التكنولوجيات الحديثة، كما يرتبط أيضا بأعراف وتقاليد البحث العلمي من قبل الباحثين والمثقفين و مرتبط أيضا بالنسق السوسيوثقافي و مدى ميله إلى إعتبار الحجج المكتوبة أعلى رتبة من الثقافة الحججية الشفوية.

وبذلك فقد تحولت مهنة الأرشيفي التي تعتبر من أقدم المهن، من مهنة بسيطة تعمل على جمع الأوراق القديمة والمخطوطات إلى مهنة متعددة الاختصاصات والتقنيات وذلك مع ظهور آلات التصوير والمعلوميات ودخول التكنولوجيات الرقمية في العمل الإداري. فأصبح دوره يتسع شيئا فشيئا ليشمل العمل على تسهيل ممارسة حق الولوج إلى المعلومة خصوصا مع تحول الأرشيف من ورقي إلى إلكتروني من خلال شبكات الانترنيت.

الأرشيف في صلب الإهتمام العلمي و المهني والحقوقي..

كما أصبح للأرشيف عدة هيئات ومنظمات دولية تعمل على صيانته وتوحيد مساطر وطرق تدبيره. ومن أهم هذه المنظمات، منظمة اليونسكو التي تصدر بشكل منتظم عدة دراسات لفائدة الدول المنضوية تحت لوائها، تعنى بمساعدتها في وضع سياسة عامة للعناية بالأرشيف.

غير أن أهم هيئة على المستوى الدولي، هي المجلس الدولي للأرشيف le conseil international des archives وهو منظمة غير حكومية تعمل تحت مظلة اليونسكو تعمل على توحيد المؤسسات والمهنيين العاملين في الأرشيف عبر العالم للدفاع عنه والحفاظ عليه عبر تدبير فعال من خلال خلق قواعد ومساطر لهذا الغرض. و يضم المحلس حاليا أزيد من 1500 عضوا وافدين من 195 دولة. تأسس هذا المجلس بتاريخ 9 يونيو 1948، ليصبح هذا اليوم منذ ذلك الحين، يوما عالميا للأرشيف. و تعتبر هذه المنظمة إمتدادا للجنة الدائمة للأرشيف le comité permanent des archives التي تأسست سنة 1931 تحت لواء عصبة الأمم. و لها عدة شعب جهوية وإقليمية عبر القارات.

من أهم أهداف هذا التنظيم الدولي أيضا الضغط على السلطات العمومية من خلال مؤتمراتها وتوصياتها لاتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية الأرشيف.

ومن بين أهم إصدارات هذه المنظمة : ” الإعلان العالمي للأرشيف” الذي تم تبنيه في 17 شتنبر2010 خلال جمعيتها العمومية بأوسلو. ويؤكد هذا الإعلان على خصوصيات الأرشيف وأهميته كتراث ومصدر معلومات موثوق به من أجل تطوير المجتمعات وتنمية المعارف، كما أكد الإعلان على عدة إلتزامات من بينها العمل على اكتساب كل دولة لسياسات وقوانين خاصة بالأرشيف وكذلك لتثمين وظيفة تسيير الأرشيف ولاستغلال الأرشيف بصفة تساهم في ترقية المواطن و المسؤول.

الأرشيف معلومات ذات أبعاد متعددة..

يعد الأرشيف مصدرا مهما للمعلومة و أن التدبير الجيد للمعلومات يعد أحد أهم مقومات الحكامة الجيدة ودعامات دولة الحق والقانون.

فالتدبير الحكيم للأرشيف يسمح بمراقبة مدى شرعية أنشطة الإدارة، كما يمكن من وضع اليد على القرارات المتخذة ومدى مطابقتها للقانون وبذلك يمكن من توطيد قواعد الشفافية في تعامل الإدارة مع المرتفقين، كما يعد وسيلة لمحاربة الفساد الإداري والمالي وأداة لتخليق الحياة العامة ومحاربة استغلال النفوذ وخرق القانون.

وكل إهمال للأرشيف قد يضيع فرصا لإثبات حقوق الأفراد والجماعات، وقد يغلق الأبواب أمام الباحث في محاولة تحليل وفهم تطور الإدارة والمجتمع عموما.

وبإيجاز يمكن إجمال أبعاد العناية بالأرشيف وحمايته في ثلاث أبعاد:

1- بعد إداري من خلال تسهيل عملية إتخاذ القرارات اليومية والإستراتيجية على المدى القريب والبعيد، كما يساهم الأرشيف في جودتها وتفادي الوقوع في أخطاء التجارب السابقة.

ونظرا لتزايد الإنتاج الإداري من وثائق وملفات ولكون مستودعات حفظها بالإدارات لم تعد تسمح بمزيد منها، فإن وضع إستراتيجية لتدبير الأرشيف من طرف الإدارة يؤدي حتما إلى تدبير جيد للمجال داخل الإدارة وربح الوقت في الحصول على المعلومة و توفيرا للموارد المالية، وحماية من الأخطار المتنوعة كالفيضانات والحريق، وذلك باعتماد طرق علمية لترتيبه وفرزه وإتلاف ما ينبغي إتلافه عند الاقتضاء. كما يسمح باستغلال المعلومة المفيدة داخل الإدارة بشكل يلبي حاجاتها، و أن أي تدبير سليم للأرشيف داخل الإدارة يساهم في تحديثها من وجهة نظر تقنية وعلمية من خلال إدخال التكنولوجيا الحديثة في تدبير المعلومة.

2- بعد قانوني بحيث يمكن التدبير الجيد للأرشيف من ضمان وصيانة حقوق الأفراد والجماعات خصوصا عند اللجوء إليه كحجج تثبت حقوق معينة أو وقائع أثناء وجود نزاعات معروضة على القضاء، كما انه يمكن من تحديد التقادم القانوني للحقوق والواجبات (مثال: واجب أداء ضريبة معينة، تقادم العقوبات الجنحية و الجنائية..) إضافة إلى ذلك، يساهم الاطلاع على الأرشيف من قبل الباحثين والمراقبين لعمل الإدارة في إعطاء نظرة حول مدى احترام الإدارة للقانون والتشريع.

أخيرا له بعد تاريخي وثقافي، لكون الأرشيف يشكل ذاكرة المجتمع ومؤسساته، فهو الماضي والجذور التي يحيا بها الحاضر، والدولة العصرية توليه عناية كبرى من خلال إنشاء دور ومراكز كبرى للأرشيف، والتي أصبحت تعد بنية من بنيات الدولة الحديثة. وولوج المواطن إلى المعلومة والأرشيف أصبح أحد معايير قياس مدى تطور وتخلف الأمم.

وكل تدبير علمي للأرشيف هو حماية للذاكرة التاريخية، وتسهيل لعملية البحث في الماضي لاستشراف المستقبل والبحث أيضا في حقائق كثيرة حول قرارات اتخذت خارج إطار الشرعية أو انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. وهذا ما لاحظته هيئة الإنصاف والمصالحة في بلادنا، من إتلاف وسوء تنظيم للأرشيف يهم أحداث مهمة من تاريخ المغرب وضرورية في أي إثبات لحقوق الأفراد والجماعات أو لأي مسؤوليات في قرارات أتخذت.

إن الاهتمام بالأرشيف له بالغ الأهمية بالنسبة للإدارة العمومية ومختلف المرافق والهيئات في اتخاذ القرارات والتخطيط للمستقبل، التي لايمكن أن تتخذ بشكل سليم في تجاهل للماضي، كما يساهم في تحويل الخبرة من مسؤول سابق إلى آخر لاحق.

و قد دعت هيئة الإنصاف والمصالحة في تقريرها الختامي إلى الاهتمام بموضوع الأرشيف. و جاء هذا الإهتمام من بين إختصاصاتها، ذلك أن نظامها الأساسي نص على “الاطلاع على الأرشيفات الرسمية لفائدة الكشف عن الحقيقة” في إطار البحث في الانتهاكات لحقوق الإنسان وفي حالات الإختفاء القسري.

ولايمكن لأي مصالحة أن تتجسد في الواقع إلا بالمعرفة الصحيحة للتاريخ وبتنظيم تراكم التجارب بين الأجيال، وبترسيخ التواصل بينها بما يحفظ الذاكرة، وهي كلها شروط مرتبطة بموضوع الأرشيف.

كما لا يمكن لهذه المهام أن تتحقق إلا عن طريق مراجعة شاملة لحالة الأرشيفات العمومية وتهيئ شروط إصلاح عميق لوضعيتها. من هنا دعت الهيئة إلى خلق اهتمام وطني بضرورة تنظيم الأرشيف في إطار قانوني واضح، يضمن صيانته وتطويره بما يضمن توسيع دائرة ولوج المواطن والمؤسسات للمعلومات. كما دعت الهيئة أيضا إلى تقوية وتحسين برامج التكوين حول الأرشيف بما يؤهل الموارد البشرية المتخصصة في هذا الميدان و تمكينها من الدراية والكفاءة اللازمتين لتدبير استراتيجي للأرشيف والمعلومات المضمنة فيه.

و للأسف الشديد بقيت هذه التوصيات جبرا على ورق لم يتم تفعيلها و لم تكن لها أي متابعة ميدانية جدية إلى غاية كتابة هذه السطور.

هذه التوصيات التي لم تنطلق من فراغ بل جاءت في ظل ” تخلف المغرب عن الركب العالمي في ميدان تدبير الأرشيف،” إذ ظل الأرشيف لعقود طويلة خارجا عن السياسة العمومية ومادة غير مستكشفة من قبل المشرع والإدارة المغربية.

الأرشيف ورحلة البحث عن الإعتراف..

من أهم المستجدات حاليا على مستوى تدبير الأرشيف هو ما جاء به الفصل 27 من دستور 2011 الذي ينص على ما يلي:

« للمواطنات والمواطنين حق الحصول على المعلومات الموجودة في حوزة الإدارة العمومية، والمؤسسات المنتجة، والهيئات المكلفة بمهام المرفق العام.

لايمكن تقييد الحق في المعلومة إلا بمقتضى القانون، بهدف حماية كل ما يتعلق بالدفاع الوطني، وحماية امن الدولة الداخلي والخارجي، والحياة الخاصة للأفراد، وكذا الوقاية من المس بالحريات والحقوق الأساسية المنصوص عليها في هذا الدستور، وحماية مصادر المعلومات والمجالات التي يحددها القانون بدقة.» و نظرا للإرتباط العضوي بين المعلومة و الأرشيف فإنه و إن كان الدستور قد أقر الحق في الولوج للمعلومات، فانه يتعين مواكبة ذلك بإصدار ترسانة معيارية للتدبير العقلاني والحديث للأرشيفات، لكونها هي خزان هذه المعلومات وهذا لن يتم إلا بوضع سياسة عامة لتدبير الأرشيف من خلال إصدار نصوص تشريعية وتنظيمية لوظيفة الأرشيف.

ويتسم التشريع الأرشيفي بالمغرب بالضعف، حيث أن النصوص المنظمة للأرشيف قليلة وغير مفعلة ولم تواكب التطور الذي عرفه المغرب والعالم في هذا المجال، و على رأسها القانون رقم 99/69 المتعلق بالأرشيف الصادر بتاريخ 13/12/2007 والذي لم يشرع بعد في تنزيل كل النصوص التنظيمية المرتبطة به.

و رغم تدشين مؤسسة أرشيف المغرب في شهر ماي من 2011 فإن هذه المؤسسة لم تضطلع بعد بمهامها و أدوارها لافتقارها للإطار التنظيمي المتعين و للموارد المالية الضرورية و كذا البشرية بحيث أن عدد العاملين بها يكادون يعدون على رؤوس الأصابع الشيء الذي يعد مسؤولية مباشرة للدولة.

فهذه الندرة في التشريع المنظم للأرشيف تدل على أن الأرشيف لم يشكل أولوية للدولة المغربية غداة الإستقلال، كما يلاحظ أن النصوص المذكورة أعلاه اتسمت بالعموميات و السطحية. و لعل ما يفسر ذلك هو عدم إلمام المشرع بهذا الميدان كونه يتعرض له لأول مرة و بشكل متأخر جدا مع وجود عامل نفسي خفي وراء ذلك و هو الخوف من “الوثيقة المكتوبة ” التي قد تشكل حجة يمكن استعمالها ضد متخذي القرارات في فترة معينة من تاريخ المغرب.

و لاشك أن لهذه الوضعية انعكاس على مستوى البحث العلمي و التاريخي و القانوني بالمغرب، ذلك أن الباحثين يفتقرون للأرشيف لبناء تصورات و تقديم اقتراحات لتطوير الإدارة تحديدا.

و إذا استمرت وضعية الأرشيف على ما هي عليه، فسيواجه الباحثون في المستقبل نفس المشكل؛ و يلاحظ أن جل الدراسات التاريخية و السياسية حول المغرب، كانت مراجعها الأرشيفية و وثائقها من مراكز للأرشيف بأوروبا و خصوصا من فرنسا.

و عموما يمكن إجمال الملاحظات حول وضعية الأرشيف العمومي بالمغرب في كون ضعف ثقافة الأرشيف أدى و يؤدي إلى غياب حجج مكتوبة و مدونة في مجالات متعددة خصوصا في مجال حقوق الإنسان والانتهاكات المرتبطة بها لتحديد المسؤوليات، إضافة إلى النظرة التحقيرية للأرشيف و للعاملين به داخل المؤسسات العمومية؛ و عدم الإعتناء بالأماكن و المستودعات المخصصة للأرشيف في ظل غياب وظيفة الأرشيف و طرق تنظيمه و استعماله داخل أجهزة الدولة الشيء الذي يعكسه سوء تدبير مستودعات الأرشيف و اكتظاظها و تعرضها لأخطار متنوعة كالحريق و السيول و غيرها مع تسجيل تفاوت في الإهتمام بأرشيف المؤسسات العمومية بالمغرب، و يمكن ملاحظة هذا التفاوت بمقارنة أرشيف القوات المسلحة الملكية مثلا و أرشيف المحافظات العقارية من جهة و أرشيف المحاكم و مفوضيات الشرطة من جهة أخرى الشيء الذي نتج عنه ضياع بعض الوثائق المهمة داخل الإدارات العمومية، سواء من جراء أعمال إجرامية أو لانعدام المسؤولية و الكفاءة و غياب نظام معلوماتي لتدبير الأرشيف و انفتاحه على محيطه عبر الإنترنيت مثلا و عدم تحديد الإختصاصات و المسؤوليات بإحداث نظام أساسي للعاملين بالأرشيف و نظام للتكوين المستمر في هذا المجال.

المغرب متخلف عن الركب العالمي في تدبير الأرشيف..

إن مقارنة وضعية الأرشيف بالمغرب مع بلدان أوربا وأمريكا اللاتينية أو بلدان إفريقية و عربية، توضح البون الشاسع بين ما توفره تلك الدول لمواطنيها و للباحثين من فرص للولوج إلى المعلومات المضمنة بأرشيفاتها و بين وضعية البحث في الأرشيف في المغرب.

فرنسا مثلا، تعرف تجربة طويلة و قديمة في مجال تدبير الأرشيف الذي يعرف تنظيما قانونيا و إجرائيا مفصلا، و يعرف أيضا تدبيرا مجاليا بحيث نجد على المستوى المحلي مراكز لحفظ الأرشيف العمومي و فتحه في وجه العموم، خصوصا في وجه الباحثين و لها عدة مؤسسات ذات سمعة عالمية في تدبير الأرشيف و ترسانة قانونية و تنظيمية جد غنية.

هناك تجارب أخرى مثيرة للإنتباه تنتمي لنفس فضائنا الثقافي و الجغرافي، من بينها التجربة التونسية و التجربة الجزائرية.

و يرجع البعض التجربة التونسية إلى القرن التاسع عشر، و بالضبط إلى إصلاحات خير الدين ما بين 1874 و 1875 حيث تقرر حفظ الأرشيف و العناية به.

ومنذ استقلال تونس اتخذت عدة إجراءات في سبيل النهوض بقطاع الأرشيف من استصدار نصوص قانونية و إجرائية و إحداث مؤسسات تعنى بتنظيم و تدبير الأرشيف العمومي.

فقد تم إصدار القانون رقم 95/88 بتاريخ 2 غشت 1988 المتعلق بالأرشيف؛ و تبنى هذا القانون التعاريف و التقسيمات المتداولة عالميا و مهنيا للأرشيف، كما أحدثت مؤسسة “المجلس الوطني للأرشيف” يترأسها الوزير الأول و هي مختصة بوضع سياسة عامة لتدبير الأرشيف و مراقبة عملياته.

فيما يخص التجربة الجزائرية فيعتبر أمر رئيس الجمهورية عدد 36/71 الصادر سنة 1971 أهم نص تأسيسي لثقافة الإهتمام بالأرشيف على صعيد الجزائر؛ فهذا الأمر الرئاسي أحدث مؤسسة للوثائق الوطنية، و اعتبر الأرشيف ملكا عموميا للشعب، وهو الأمر الذي أعطى دفعا قويا للإهتمام بمجال الأرشيـف و اعتبره جزءا من التراث الوطني و الشخصية الوطنية و عنصرا هاما و ضروريا للتطور الطبيعي للدولة العصرية.

و لهذا النص الفضل في جمع رصيد أرشيفي وطني في مركز الأرشيف الوطني. بعد ذلك صدرت عدة نصوص أهمها المنشور الرئاسي بتاريخ 8 نونبر 1971 الذي أوضح بعض المفاهيم منها أهمية الوثيقة العادية و القديمة في التدبير الإداري تدبيرا سليما و أهميتها المقبلة للتاريخ؛ لذلك حمل بعض التعليمات و التدابير الخاصة بتنظيم و تدبير الأرشيف تدبيرا علميا مع إبراز الفوائد العلمية و التاريخية له كاستعماله في كتابة التاريخ ليليه بعد ذلك تشريع غزير في هذه المادة.

و يمكن أن نخلص إلى كون موضوع تدبير الأرشيف حظي بالإهتمام ليس فقط في هذه الدول بل في كل الدول العربية و عدد كبير من الدول الإفريقية كالغابون و الكامرون و البنين و غيرها و التي أصبحت تتوفر على قوانين للأرشيف و كذلك مؤسسات عمومية تهتم بتدبير الأرشيف و فتحة في وجه العموم.

غياب ثقافة الحرص على الأرشيف..إلى متى؟

و من خلال هذه التجارب يمكن القول بأن المغرب ظل على المستوى الرسمي غير مهتم بتنظيم أرشيفه العمومي، الشيء الذي أفضى إلى فوضى كبيرة في هذا المجال وأن الملاحظ أن أغلب المسؤولين ليست لهم أدنى معلومات عن علم الأرشيف و لا يعتبرونه أولوية داخل الإدارة لكونهم يجهلون النتائج المادية و الثقافية و التدبيرية التي يمكن أن تستفاد من أي تنظيم علمي للأرشيفات.

و رغم بعض التجارب المتواضعة كتجربة وزارة المالية في إحداث مركز للأرشيف و ميثاق للأرشفة، و كذلك تجربة وزارة العدل في تدبير أرشيف المحاكم بإحداث مراكز جهوية و التي يزيد عدد الملفات المطالبة بتنظيمها عن 30 مليون ملف، تبقى تجاربا لا ترقى إلى التجارب الدولية المماثلة و لم تعرف تطورا ملحوظا أو إهتماما حقيقيا بعدم إصدار النصوص الملائمة كنظام خاص بالعاملين بالأرشيف و إطار قانوني مواكب للمسجدات القانونية و القضائية أو إستعمال حقيقي للوسائل الحديثة في تدبيره.

و في الوقت الذي يفترض أن تكون بعض القطاعات على دراية و إهتمام كبير بتدبير الأرشيف كالوزارة المنتدبة لدى رئيس الحكومة المكلفة بالوظيفة العمومية و تحديث الإدارة، نجدها ليست لها الدراية الكافية و الوعي اللازم بصيانة الذاكرة الورقية الوطنية و ليس ضمن أولوياتها أبدا، نظرا لضعف ثقافتها الأرشيفية و لنظرتها السطحية المطابقة للنظرة العامة للأرشيف، في الوقت الذي تتقدم هذه الوزارة بمشروع قانون حول الولوج إلى المعلومة. من هنا يحق لنا مساءلة هذه الوزارة عن أي معلومة تتحدث في ظل تبعثرها و تدبيرها بطريقة عشوائية و غير علمية لا تليق ببلد كالمغرب، فماذا سينفع قانون الولوج إلى المعلومة في غياب المعلومة المنظمة أصلا؟

ذاك سؤال يتعين على الوزير الوصي أو على رئيس الحكومة الإجابة عليه إن كانوا فعلا يمتلكون تصورا لتدبير الزمن المعلوماتي و إن كانوا فعلا يعرفون ماذا يعني أرشيف الدولة الحديثة.

ــــــــــ

باحث في العلوم السياسية