وجهة نظر

بطانة السوء

إنّهم أولئك الذين يتهافتون على كلّ مسؤول حديث التعيين في مدينتهم أو منطقتهم أو حيّهم ، مسرعين إليه قبل أن يسبقهم غيرهم إلى نيل الحظوة لديه و التلبّس به بطانة تحت الظِهارة، و قد تجد منهم من يمتهن هذ الهواية منذ زمن ، حيث ينسلخ في كلّ مناسبة عن السّابق ليلزم اللّاحق ، و منهم من يدخل المضمار لأوّل مرّة ليختبر مهاراته في المجال من باب الهواية أو لتبوّء ما يعتقد مركزا اجتماعيا كان بالأمس حلما ، أو ليتّخذها حرفة يدبّر من خلالها معيشه اليومي .

إنّهم أولئك الذين يمهّدون للمسؤول الجديد اندماجه في محيط لا يعلم عنه شيئا ، و يساعدونه على تأمين أولى خطواته في مجال يعتبر حقل ألغام ، خبراء بالفطرة و التجربة يضعون رهن إشارته دليلا محيّنا بالخطوط الحمراء و الخضراء و البرتقالية ، يسترشد به طريق النجاة .

إنّهم أولئك الذين يسيل لعابهم كلّما ذُكرت السلطة على مسمعهم ، كانت حقيقة أو رمزية أو مالية أو حتى دينية ، تعرّف بهم سيماهم ، لا لون و لا إيديولوجيا ، و لا فئة عمريّة و لا وظيفة أو حرفة محدّدة تميّزهم .

أخشى أن يكون مصيبا القائل إن البطانة الصّالحة لم يعد لها مكان في حاشية المسؤول حيث لم يعد يتّسع المجال لغير بطانة السوء التي تسارع إلى احتكاره ، و التي تبدأ مهامها بتقديم خارطة طريق مفصّلة حول البيئة السياسيّة و الاجتماعية ، و حول الشخصيات الفاعلة و النائمة و الخامدة ، و الملفّات الملتهبة الحارقة و الساكنة تحت الرماد و ما تحوّل منها فعلا إلى رماد ، كما تقدّم صورة واضحة عن المنكرات الموجودة عموما و تلك التي جرى التطبيع معها و لم تعد تثير أحدا ، و عن مدى درجة تحمّل القوم للظّلم ، و الخطّ الأحمر الذي يمكن أن يجرّ تجاوزه استنكارَهم و ربّما احتجاجهم ، و كذلك عن الوسائل الكفيلة بإطفاء غضب الغاضبين كانت ترهيبا أو ترغيبا ، أو استعطافا (مزاوكة) عن طريق التوسّل بالذبائح و وساطة كبراء القوم و أشرافهم .

قد تطول فترة التنظير و قد تقصر حسب ذكاء و تجربة التلميذ و أستاذه الذي ينتقل بعد ذلك إلى الممارسة الميدانية و المواكبة. و ليس المقصود هنا بالمواكبة تلك التي يجد فيها المسؤول – كان كبيرا أو صغيرا ، مدنيا أو أمنيا – عونا له لأداء مهامه على أحسن وجه ، و لكنها بطانة السوء حين تضرب للفساد بوجهيه طريقا في بحر المجتمع يبسا ، تشجّع و تلمّع وجهه الإداري والمالي بالنهار و تمهّد الصّعاب لوجهه الأخلاقي بالليل .

فلا غرابة أن ترى مسؤولا كبيرا في منطقته حديث التعيين يلبس عباءة بن الخطّاب رضي الله عنه خلال شهوره الأولى يتحوّل بقدرة قادر ليكمل مشواره بعد ذلك في جبّة عمرو بن هشام (أبو جهل) ، إنّها بطانة السوء التي زيّنت له سوء عمله و قالت إنّه لا غالب لك اليوم ، بل و ضمنت له الاحترام و التقدير بين العامّة و لو طُبع على جبينه (كبير المرتشين) أو (كبير الفسّاق) أو هما معا .

و لا غرابة ان يحجّ الناس كلّ أسبوع للاستماع إلى خطيب لا يجد حرجا في مزاحمة الشباب خلال باقي الأيام على الزوايا من المقاهي التي تتيح تتبّع عورات العائدات و الذاهبات إلى الثانوية ، إنّ في الأمر بطانة السوء التي لقّنته دروسا تطبيقية في كيفية التمييز بين المنكَر المُستَنكَر و المُنكَر المطبّع معه ، و بين العابد الذي يؤدي فريضة دينية و العابد الذي يؤدّي دَيْنا اجتماعيا ، و بسطت أمامه خريطة اجتماعية للسّاكنة و للمجال الذي يشتغل فيه.

و إن أُحبِط مسار ملفّ عادل أجمع القوم على أهميّته أو عُلّق، و قد كان أوشك على الحلّ أو هو في طريقه الصّحيح إلى ذلك، فاعلم أنّ بطانة السوء هي من “وضع العصا في العجلة”.

أمّا إن عشّش الفساد بين قوم و طال مقامه على مدى أجيال متعاقبة ، فلأنّ من بني جلدتهم من يحميه و يحضن بيضه و يتعهّد فِراخه بالعناية إلى أن يشتدّ عودها و تتسلّم معول الهدم من السلف و تسلّمه إلى الخلف ، إنها بطانة السوء التي تأمر ولاة أمرهم بالشرّ و تحضّهم عليه ، و التي قال عنها رسول الله صلّى الله عليه و سلّم كما جاء في صحيح البخاري : ” مَا اسْتُخْلِفَ خَلِيفَةٌ إِلَّا لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالخَيْرِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَالمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ ” .