منوعات

الرحموني يكتب: عمدة الرباط وكلفة النضال الديمقراطي

المطلوب هو الاغتيال المعنوي للرموز، وإلهاؤنا في المعارك الهامشية، والمقصود هو التشويش على نجاعة شرعية المنتخبين، والنيل من فعالية معركتهم ضد التسلط والفساد والتهميش والتخلف…

واقعة المتابعة الكيدية والانتقائية لعمدة مدينة الرباط السيد محمد الصديقي، هي واحدة من ضمن ملفات عديدة … يتم اختيارها برمزية فائقة من قبل قوى لا تريد للنموذج الإصلاحي المغربي أن يثمر ديمقراطية وتنمية وعدالة اجتماعية وحكامة رشيدة، بغاية اختبار سيناريو تعطيل تجربة التدبير الجديدة للمدن المسيرة من قبل العدالة والتنمية، كمقدمة للتشويش على المرحلة وإلهاء قيادة الانتقال الديمقراطي في معارك صغرى هامشية، والمقصود النهائي هو إعطاب الإصلاح الديمقراطي وإفشاله نهائيا.

إن نازلة الصديقي- كغيرها من الوقائع الحالية والمستقبلية- تؤكد حقيقة الصراع الديمقراطي في حلقة من حلقاته ذو الصلة بتدبير المدن، والفارق الذي قد يحدثه المنتخبون …وهي تؤكد أن ضحايا تلك الواقعة هم أنفسهم أبطالها، والمستهدفين منها هم جزء من قادة المرحلة السياسية الجارية ورموزها، وهم نخبة طليعية من منتخبين جدد جاؤوا ليمارسوا العمل العام بنفس جديد وبروح منطلقة غير انتهازية، ولا تنظر للعمل العام كواجهة للتربح وبوابة للانتفاع، نخبة نابعة من صميم الإرادة الحرة للشعب، ومعبرة عن مكنون الشرعية الانتخابية ،،،

تلك النازلة تؤكد أيضا جملة من الحقائق المستعادة من التاريخ الانتخابي القريب في البلد، وهي تختزل بعضا من وقائع الصراع السياسي الطاحن حول تكريس الشرعية السياسية في بلدي ..

وهو صراع ستعيش على إيقاعه مرحلة بأكملها بكل مفرداتها، مرحلة عنوانها الرئيس هو تأمين الانتقال الديمقراطي واستكمال حلقاته، صراع سيزداد اشتعالا خصوصا بعد انتخابات الرابع من شتنبر 2015، وسيتصاعد امتدادا كلما اقتربنا من لحظة 7 أكتوبر 2016، حيث يختزل الزمن السياسي في التناقض بين قوتين: الأولى تحيل على المستقبل وهي ديمقراطية الطبيعة والانتماء مرادها إرادة إنجاح الانتقال الديمقراطي، والثانية سلطوية الاتجاه تحن إلى زمن التحكم ومصادرة الإرادة الشعبية والالتفاف عليها إما بخشونة أو بنعمومة، وغايتها إرادة غلق القوس الديمقراطي الذي انفتح ذات حراك إصلاحي 2011..

لكن المثير في الأمر، والغريب في هذه الوقائع كلها، هو أن تنتصب جهات غير ديمقراطية وهي لا تكن ودا للشعب ولا للمنتخبين، العاكسين لشرعية الشعب في التدبير والتوجيه، وتبادر لممارسة كل أساليب الترهيب والابطاء والتعطيل والتدليس والاختلاق والتحريف والتزييف للحقائق، تمارس ذلك لحظة ممارسة للصراع ضد ما تعتبرهم خصوما سياسيين بدون تحفظ.

حتى أن بعض تلك الجهات المعزولة تبقى عدوانية المنزع وتحن لرد عقارب التطور السياسي إلى الخلف، وهي لا تتورع عن استعمال وسائل السلطة العمومية وانتهاك منطق الحياد المفروض في تلك المؤسسات، لتنخرط بدورها بتحيز في منطق الكيد وشن الهجمات المنظمة والمنسقة، لكن البليدة والبئيسة من تهديد وغيره..ظنا منها أنها تستطيع معكاسة اتجاه التاريخ، بلي ذراع قوى الإصلاح الديمقراطي ومناكفة رموزها…

إننا إذن إزاء أسلوب بائد وبليد في المواجهة الدائرة، إننا إزاء حلقة من سلسلة الحرب الطاحنة اتخذت لها هدفا وهو معاكسة مخرجات الإرادة الشعبية، وتوسلت بأساليب تشغيل منطق الاغتيال السياسي للتجربة الديمقراطية الوليدة، مع العمل على الإسقاط المعنوي لبعض من قلاعها المتقدمة العصية على التطويع والإفشال…ولعل ساحتها هو الرباط العاصمة..بكل ثقلها ورمزيتها..فالمعركة إذن سياسية بامتياز…

لكن دعونا نؤكد حقيقة راسخة، أنه فى عالم السياسة توجد منافسة شريفة ومتكافئة ومنافسة قذرة وحقيرة…توجد مواجهات مباشرة بين الخصوم السياسيين، وتوجد أيضا حروب طاحنة بين القوى المختلفة الفاعلة الكامنة تحت السطح، والتي تفتعل المكائد وراء الكواليس، وهي معارك طاحنة لتكسير العظام منها ما هو مشروع-المعارك من أجل الديمقراطية في الغرف المغلقة- ومنها ما هو غير أخلاقى كما نلاحظ ونرى ..

ونحن فى المغرب نشهد اشتداد تلك المعارك كلما اقتربنا من لحظات النزال الانتخابي وأصبحنا على تماس مع قضية فاصلة في الصراع السياسي، والقضية الآن هي استكمال مستحقات الانتقال الديمقراطي.

لقد انتشرت عمليات الاغتيال المعنوي القذرة، وانتعش استعمالها الكثيف كأداة في المجابهة غير المتكافئة في المرحلة، وخصوصا تم إنعاشها بعد اندلاع رياح الربيع الديمقراطي وامتداده لينعش تجربة فريدة في الإصلاح السياسي على امتداد الرقعة العربية، وتمددت لتشمل قيادة الإصلاح الديمقراطي، ممثلة في العدالة والتنمية وكل الشرفاء الديمقراطيين والوطنيين، وشملت العديد من الرموز والجماعات والجمعيات والقادة، مجابهة لم تهدأ ضد الشعب وخياراته والهوية الوطنية وثوابتها وضد الاحزاب المستقلة الإرادة والقرار، ضد العدالة والتنمية ومرجعياته.

هذه العمليات المنظمة من قبل كوماندو السلطوية الجديدة المتدثرة بالكائن الحزبي المعلوم وأذرعه في الإدارة، تعني إلصاق تهم أو صفات تحط من قدر الشخص أو الجماعة أو الحزب أو المسؤول أو القائد.. سواء كانت هذه التهم أو الصفات جزئية وعفوية –يتم النفخ فيها وتضخيمها-أو مختلقة أو بعضها حقيقي ولكن يتم تضخيمه..

لكن يبقى الهدف في النهاية هو: كسر الهيبة، وإضعاف الثقة، وتقليل القيمة، ومحو التأثير للمراد إبعاده وتهميشه وإقصاؤه واستبعاده .

وعمليات الاغتيال المعنوي الجارية بشكل محموم ورهيب لم يتوقف، ربما يكون أقسى وأشد وطأة من الإفناء المادي، فقد يغتال الشخص جسديا فيصبح بطلا في نظر الناس و يتعاطفوا معه، ولكن في حالة الاغتيال المعنوي فالشخص يظل على قيد الحياة رمزا، ولكن تلاحقه صورة ذهنية غاية في السلبية والتشويه وتقصد الإذاية ويصبح مرفوضا أو منبوذا في المجتمع…لكن هيهات أن يصلوا لذلك المبتغى…

وهي عمليات ليست نظيفة الهدف والأسلوب في مجملها، فهي تستغل أحط ما في الإنسان (الذي يمارس الاغتيال المعنوي) من صفات، إذ يحمل في نفسه الكراهية التي تصل لدرجة العنصرية تجاه الشخص المقصود (أو المجموعة أو الهيئة المقصودة) وهذا يدفعه لإسقاط كل ما لديه من نقائص وانحرافات وتشوهات وتصورات مريضة عليه، ولا يكتفي بذلك بل يتربص بالشخص ويتجسس عليه ويتتبعه ويبحث في تاريخه القديم والحديث عله يعثر على زلة يستخدمها انتهازيا للتشهير به وفضحه وإهانته، وإذا وجد تلك الزلة فإنه يوسع دائرتها ويضيف إليها من قريحته العدوانية ما يجعلها خطيئة لا تغتفر، وحتى إذا لم يجد تلك الزلة فإنه يختلق مجموعة من الأكاذيب والشائعات ويظل يرددها بكل الوسائل المقروءة والمسموعة والمرئية حتى ينال من خصمه.

هؤلاء تعرفهم بسيماهم، تعرفهم ببعض العلامات المميزة لهم: منها الإلحاح المستمر على تشويه الضحية، والابتعاد عن الموضوعية، والمبالغات الواضحة، وتسليط الضوء على عيوب الضحية طول الوقت بحيث لا يرى فيه إلا العيوب والخطايا والتشوهات، ويعجز عن رؤية علامة إيجابية واحدة فيه، كما تعكس لغة الجسد حالة من الغضب والقرف والاشمئزاز والعدوانية والعنصرية، بينما يتم الحديث عن الضحية أو الضحايا المفترضين.

لقد عجزت بعض القوى الفاعلة في السياسة الباطنية، عن مواجهتهم بأساليب مكشوفة وشريفة ونزيهة، وعجزت أيضا عن إيقاف تقدم شعبيتهم التى لا ترضي تلك الأطراف، التي ترى أنها خطر عليهم وعلى تمددهم ومستقبلهم ومنافعهم وسطوتهم، لذلك فهي تلتجئ لبذل المجهود في اقتراف هذا النهج المدمر للسياسة النظيفة.

لكن يقينا، فإن تلك الحملات المحكمة الهندسة والرديئة الإخراج، الموجهة ضد بعض الرموز الوطنيين والشرفاء النابعين من محض الإرادة الشعبية والمنبثقين عن صناديق الاقتراع، تعتبر رصيدا إضافيا لكل الديمقراطيين، باعتبار أن الضربات تقويهم ولا تكسرهم.

ولم تقتصر أساليب الاغتيال المعنوي على تدبيج المقالات وبث الحوارات وتوجيه المناقشات، وإنما امتدت وتقوت من خلال استعمال مؤسسات القضاء والمال والأجهزة الأمنية والسلطات الترابية والتسريبات الإدارية والفقاعات الإعلامية المخدومة، من قصاصات مكذوبة ومعطيات زائفة.. وحتى برامج ساخرة ومسخرة تهز من قيمة ووقار واحترام الشخصيات والجماعات والأحزاب حتى لا يبقى لأحد هيبة أو احترام.

ولا ننسى النشاط الإلكتروني على نطاق واسع من خلال شبكة الإنترنت، والذي يمارسه ويشارك فيه ملايين الشباب من كافة الاتجاهات والآفاق السياسية والفكرية.

وهنا وجب تجنب الخلط بين النقد السياسي والتحقيق المهني وبين أساليب الاغتيال المعنوي المبنية على الكيد والتحقير وعدم التثبت ..

فالأول مشروع ومطلوب لإصلاح مسيرة الفعل العمومي وتوجيهه للتصحيح والمحاسبة، أما الثاني مدان ومرفوض لأنه يهدم المقومات البشرية في المجتمع المفروض أن تبنى على العدل والإنصاف وعدم الظلم، فالظلم مؤذن بخراب العمران.

والنتيجة النهائية لذلك هي سقوط كافة الرموز الفردية والجماعية وفقدان الثقة بين الجميع وفقدان الأمل في أي نهوض مجتمعي أو إصلاح سياسي، وتدهور صورة السياسة ورموزها لدى الجميع، وفقد بوصلات التوجيه في المجتمع، وترك سلطة التوجيه والتدبير والتقرير في يد مجموعة من المغامرين والمندفعين والمتهورين والمقامرين…ليدخل المجتمع في نفق معتم وفي حالة احتراب داخلي لا يعلم مداه إلا الله .

وصوره متنوعة ومتعددة التجليات والأوجه والمرامي والمظاهر أيضا منها:
قذف الناس بالباطل والافتراء عليهم والتدليس فى أقوالهم، وبث أخبار كاذبة عنهم، وتحريف ما يقولون، ومنها التكفير السياسي للمخالف بإخراجه من ملة الديمقراطيين والحداثيين، وشحن الناس ضده عبر التهييج الذي يرتدي ثوبا نخبويا أو حداثيا أو وطنيا مزيفا أو سلفيا لا فرق، ليطعن في هذا الشخص، ويقلل من قدره عند الناس، وينزع منه سمة التقدمية ويحتكرها لجهته.

وهنا وجب التأكيد على أن أسلوب الاغتيال المعنوى الذي تلجأ إليه تلك القوى السلطوية بأذرعها الإدارية والسياسية والحزبين والإعلامية، بات يعتمد أساسا على الإضرار بشخصية المستهدَف وصورته السياسية والأخلاقية في المجال العام، ليتم استنزافه وإضعاف تأثيره فى الجمهور من خلال التشكيك فى مصداقيته أمام مجتمعه ومؤيديه ليصبح محل اتهام في عيون من حوله لتناله سهامهم.

إن مطابخ الاغتيالات المعنوية للرموز والقيادات والمسؤولين، كانت حصريا محتكرة من قبل منظومة التسلطية النافذة وأجهزتها التضليلية، في فترات عصيبة من تاريخ تطور الصراع من أجل الديمقراطية والكرامة والحرية والسيادة الشعبية في بلدي.

لكنها اليوم توسعت وامتد عنفوانها وغيرت استراتيجيتها في إدارة المعركة وشن الهجمات ضد قوى الشعب وممثليه المنتخبين المعبرين عن إرادته، وصارت مبثوثة في كل موقع وناحية ومفصل من إدارة الدولة، وهي بطبيعتها موجودة داخل كثير من الأحزاب والقوى والحركات والنخب وبعض وسائل الإعلام التى تعتبر رأس الحربة فى إتمام عملية القتل الرمزي للقيادات والرموز، أيا كان نوع الإعلام تقليديا أو حتى وسائل الإعلام الجديد ومواقع التواصل الاجتماعى.

ولعل من أخطر أنواع الإسقاط المعنوي للتجربة الآن، هو الإنهاك باسم نزع رداء المصداقية الأخلاقية، وتهييج مشاعر الناس عبر القوالب الجاهزة لتنفيذ عملية القتل السياسي تلك وإبعاد أولئك القادة عن حاضنتهم الشعبية ونزعهم من وسطهم الحيوي، بل ونزع الثقة عنهم.

ومثل ذلك يكون من خلال الاتهام باستئجار الإرادة وفقدان الاستقلالية في القرار وانتهاك السيادة بإلقاء التهم جزافا ..مرة من خلال الترويج الكاذب بعنف لفظي مقرف يتوسل بالقاموس الجذري وبالأسلوب الانتظاري..من قبيل العمالة للمخزن والخيانة للمشروع والتنكب عن المرجعية وكراهية الحداثة، وكل هذه المحفوظات والملفوظات التى يتم تعميمها على الوعي العام –من خلال الفضاء الافتراضي-تشبه مطرقة من الجهل والتخلف والابتزاز والخسة، ينزلون بها على رؤوس الشرفاء من بني وطني.

لقد كانوا يسخرون- قبل هذا اليوم- من الحركات المأجورة والمواقف المكشوفة النوايا والمبادرات العابثة المقاصد والملتبسة المساعي، ولكن ما نراه اليوم تجاوز ذلك، هناك صفحات إخبارية إلكترونية وشبكات جديدة ومواقع وجرائد وأقنية…يتم تمويلها من مصادر مجهولة-معلومة، وتقوم بممارسة كل فنون الدعاية السوداء بدءاً من إنشاء حسابات مزيفة لرموز على فيس بوك، ونسب تصريحات كاذبة لقادة، وبترها من سياقاتها بغاية التضليل والتزييف.

إن شدة الصراعات السياسية والاختلافات الفكرية، لا تبرر أن نضحي بكل ما هو أخلاقي من أجل إضعاف الخصوم وتلبية نزوات السلطة والسطوة.

بكلمة، إن الاغتيال المعنوي لا يختلف عن الفناء الجسدي في شيء بل قد يكون أكثر إيلاما.
لذا نقول لكل من تورط في ذلك، سواء أشخاص أو أحزاب أو جماعات: إن الاغتيال المعنوي سهل رده وممارسته بشكل عكسي على من يفعلونه، ولكن في النهاية سنعيش في مجتمع ممزق فاقد الثقة في كل شيء…في السياسة والعمل العام والنبيل…
وسيدفع الكل الثمن، وكلفة تعكيل الانتقال وتشكيك الناس في جدوى العمل التراكمي المشارك.

فأفيقوا لما تفعلون أيها السلطويون.. لأنكم لا تكسرون رموزا وأشخاصا.. ولا تواجهون خصوما ولا تفشلون تجربة ولا تعطلون إنجازا فقط..بل تهدمون وطنا.. وتقتلون أملا..وتشككون الناس في قيم الثقة والايجابية والنبل والوفاء والعطاء بلا أخذ وبلا حد للوطن… وطن يثمر فقط بالكفاح الصبور من أجل الارتقاء والتقدم، وبالمعقول والمصداقية، وليس بالكيد والكيل بمكاييل.