خارج الحدود

“الرنتيسي” و”الوزير”.. شهيدان وبندقيتان كانت وجهتهما فلسطين

أحدهما كان أول الرصاص وأول الحجارة، والآخر وضع الأسس التي قامت عليها المقاومة في قطاع غزة وأول صواريخ القسام.

كلاهما كانا بداية لمشروع نضالي تحرري من الاحتلال، وشكلا العمود الفقري والقاعدة الصلبة للانتفاضة الفلسطينية الأولى التي انطلقت شرارتها في دجنبر عام 1987، ووضعهما الاحتلال منذ توقد تلك الشرارة هدفا للتصفية الجسدية.

كلاهما وجها بندقيتهما نحو فلسطين والقدس، ورفضا الانزلاق في معارك العرب الثانوية والهامشية، وكلاهما اغتالهما الاحتلال خلسة، وضمن مؤامرة جهنمية نسجت خيوطها أبلسة تل أبيب.

وهما أيضا بالأصل من الضفة الغربية اضطرتهما ظروف النكبة إلى مغادرة بلدتهما الأصلية إلى قطاع غزة، ودرسا أيضا في جامعة الإسكندرية بمصر.

كانا رفيقي سلاح ورمزين من رموز العمل الوطني الفلسطيني، وخططا لعمليات نوعية وموجعة ضد الاحتلال.

أحدهما كان عبد العزيز علي عبد المجيد الحفيظ الرنتيسي، المولود في أكتوبر عام 1947، والمنحدر من عائلة من قرية رنتيس شمال غرب رام الله، واضطرت عائلته لمغادرة القرية في بداية الأربعينيات بسبب خلاف مع إحدى عائلات القرية، وأيضا بسبب حرب 1948.

وحين كان الرنتيسي طفلا عمره عشرة أشهر، وقعت النكبة، فنزح مع عائلته من موطنها في قرية بانا – بين عسقلان ويافا – لاجئين إلى مخيم خان يونس في قطاع غزة، ونشأ بين تسعة أشقاء وثلاث شقيقات.

حصل على شهادة البكالوريوس في الطب العام من جامعة الإسكندرية عام 1971، ثم على الماجستير.

وعمل في الجامعة الإسلامية في غزة منذ افتتاحها عام 1978 محاضرا يدرس في العلوم وعلم الوراثة وعلم الطفيليات. واعتقل أول مرة عام 1983 بسبب رفضه دفع الضرائب لسلطات الاحتلال.

أسس مع مجموعة من نشطاء “الحركة الإسلامية” في قطاع غزة تنظيم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في القطاع عام 1987، وكان أول من اعتقل من قادة الحركة في يناير 1988 حيث اعتقل لمدة 21 يوما بعد إشعال حركته الانتفاضة الفلسطينية الأولى في دجنبر عام 1987.

أبعده الاحتلال لاحقا في دجنبر عام 1992 مع أكثر من 400 شخص من نشطاء وكوادر حركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي” إلى جنوب لبنان في المنطقة المعروفة بمرج الزهور، حيث برز كناطق رسمي باسم المبعدين الذين رابطوا في مخيم العودة بمنطقة مرج الزهور لإرغام الاحتلال على إعادتهم، فور عودته من مرج الزهور اعتقلته قوات الاحتلال وأصدرت محكمة عسكرية حكماعليه بالسجن حيث ظل محتجزا حتى أواسط عام 1997.

بلغ مجموع فترات الاعتقال التي قضاها في السجون الإسرائيلية سبع سنوات بالإضافة إلى السنة التي قضاها مبعدا في مرج الزهور، كما أنه اعتقل في سجون السلطة الفلسطينية أربع مرات معزولا عن بقية المعتقلين.

ارتبط الرنتيسي بالشيخ أحمد ياسين منذ عام 1971، فعمل معه وبجواره كتلميذ ورفيق سنوات طويلة في العمل الإسلامي، وجمعهما المعتقل الإسرائيلي ثلاث مرات، وأسسا معا مؤسسة “المجمع الإسلامي” في عام 1975 و”مجد المجاهدين” عام 1984، وفي عام 1987 أنشأ حركة حماس التي ظل الرنتيسي يشغل الموقع الثاني في قيادتها، وأصبح ثالث أهم شخصية فلسطينية، بعد عرفات وياسين، كما أوضح ذلك استطلاع للرأي أجراه في نونبر عام 2003 معهد الأبحاث الفلسطيني القريب من السلطة الوطنية.

بعد استشهاد الشيخ ياسين، بايعته “حماس” خليفة له في الداخل في مارس عام 2004، وبعد توليه قيادة “حماس” مباشرة حمل بندقية كلاشنكوف وقال: “هذا هو حوارنا مع الصهاينة وهذا – أي المقاومة المسلحة – هي طريقنا لتحرير الأقصى”.

وفي أول قيادة له لـ”حماس”؛ أمر بتنفيذ عملية ميناء أشدود، فكانت هذه العملية هي الشرارة لعملية اغتياله ، حيث قامت في 17 أبريل عام 2004 مروحية إسرائيلية تابعة للجيش الإسرائيلي بإطلاق صاروخ على سيارته.

واجتمع مجلس الأمن الدولي لبحث قضية اغتياله، وقبلها اجتمع بأيام لمناقشة اغتيال الشيخ أحمد ياسين، واستخدمت أمريكا حق النقض “الفيتو” ضد إدانة الكيان الصهيوني.

شارك في تشييعه ومرافقيه اللذين استشهدا معه أكثر من نصف مليون فلسطيني في غزة وحدها، وأقيمت عليه الصلوات في معظم الدول العربية والإسلامية.

كان يعتبر سياسيا صلبا، لكنه عقلانيا، ويوصف بأنه متعدد المواهب وذو طاقة جعلته يسد أي ثغرة تبدو له في مسيرة الدعوة، فهو إلى جانب دراسته العلمية وتخصصه في طب الأطفال، كان كاتبا وشاعرا وخطيبا ورجل إعلام وداعية وسياسي وثائر ومصلح اجتماعي، برز جانبه الإعلامي عندما كان مبعدا في مرج الزهور، فقد اختاره إخوانه هناك ليكون الناطق الرسمي.

كان من أشد الحريصين على تعميق الوحدة الوطنية، وعرف بمواقفه الصلبة لدرجة أن البعض كان يفضل أن يطلق عليه لقب “الطبيب الثائر” أو “صقر حماس”، وعلى النقيض من ذلك، فقد كان لينا مع إخوانه في “حماس” لا يقطع أمرا من دون مشاورتهم، ورغم تعرضه لعدة محاولا لاغتياله، فقد كان جانب الحذر غائبا عنده.

والذين ينتقدون الرنتيسي يأخذون عليه تهاونه بالتحذيرات الأمنية وإصراره على التحرك رغم تشديد قادة الاحتلال على أنه المطلوب رقم واحد لهم، وأن عملية اغتياله أضحت ضرورة أمنية واستراتيجية لهم.

جمع الرنتيسي بين الشخصية العسكرية والسياسية والدينية، وتمتع بالهيبة وحظي باحترام ومحبة أغلب شرائح الشعب الفلسطيني والعربي والإسلامي، كما أنه اتصف بأنه صاحب شخصية قوية وعنيدة وبجرأته وتحديه لقادة الكيان ولجلاديه في سجون الاحتلال.

الشهيد الآخر كان خليل إبراهيم محمود الوزير، واسمه الحركي “أبو جهاد” المولود في عام 1935 في بلدة الرملة الفلسطينية التي غادرها إلى غزة إثر حرب 1948 مع أفراد عائلته.

درس “أبو جهاد” في جامعة الإسكندرية، ثم انتقل إلى السعودية فأقام فيها أقل من عام، ومن السعودية توجه إلى الكويت، حيث بقي هناك حتى عام 1963. وهناك تعرف على ياسر عرفات وساهم معه عام 1963 في إعلان تأسيس حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) وتولى المسؤولية العمليات في الأراضي المحتلة.

في عام 1963 غادر الكويت إلى الجزائر حيث سمحت السلطات الجزائرية بافتتاح أول مكتب لحركة فتح، وتولى أبو جهاد مسؤولية ذلك المكتب.

وفي عام 1965، غادر الجزائر إلى دمشق حيث أقام مقر القيادة العسكرية، وكلف بالعلاقات مع الخلايا الفدائية داخل فلسطين، كما أنه شارك في حرب يونيو عام 1967، وقام بتوجيه عمليات عسكرية ضد جيش الاحتلال في منطقة الجليل الأعلى.

تولى بعد ذلك المسؤولية عن القطاع الغربي في “فتح”، وهو القطاع الذي كان يدير العمليات في الأراضي المحتلة. وخلال توليه قيادة هذا القطاع في الفترة ما بين عامي 1976 و1982 عكف على تطوير القدرات القتالية لقوات الثورة، وكان له دور بارز في قيادة معركة الصمود في بيروت عام 1982 والتي استمرت 88 يوما خلال الغزو الصهيوني للبنان.

تقلد “أبو جهاد” العديد من المناصب خلال حياته، فقد كان أحد أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني، وعضو المجلس العسكري الأعلى للثورة، وعضو المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية، ونائب القائد العام لقوات الثورة، ولعب دورا محوريا في انطلاقة الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987.

كان القرار الإسرائيلي باغتيال خليل الوزير قد اتخذ من قبل مجلس الوزراء المصغر في الحكومة الإسرائيلية، في أعقاب العملية الجريئة التي خطط لها بإنزال مجموعة من الفدائيين إلى شواطئ تل أبيب، ثم التوجه بعد ذلك إلى مقر وزارة الدفاع الإسرائيلية في منطقة “الهاكرياه” وأسر كبار الضباط والعاملين في الوزارة بما فيهم إسحاق رابين وزير الدفاع آنذاك، لتكون تعبيرا عن رؤيته القائلة: “سنجبر إسرائيل على البقاء في حالة استنفار”.

بعد العملية أمر قائد سلاح البحرية بن شوشان، بوضع سلاح البحرية في حالة تأهب عليا، ووضع دوريات بحرية لإغلاق شواطئ فلسطين المحتلة بصورة دائمة، لكن هذه الاحترازات الأمنية لم تمنع ” أبو جهاد” من مواصلة تنفيذ عمليات أكثر جرأة وأشد إيلاما للاحتلال.

رغم أن العملية لم تنجح تماما كما خطط لها “أبو جهاد”، فإن تلك العملية كانت بالنسبة للقيادة الإسرائيلية “ناقوس خطر” وكانت تمثل خرقا لقواعد الصراع بين الطرفين التي تقضي بعدم المساس بقادة الصف الأول.

شعر الاحتلال بخطورة الرجل لما يحمله من أفكار ولما قام به من عمليات جريئة ضد الاحتلال؛ فقرر تصفيته، تم تكليف الوحدة الخاصة لهيئة الأركان في الجيش الإسرائيلي، وسلاح البحرية الإسرائيلي ووحدة “قيسارية” في “الموساد” بإعداد خطة اغتيال “أبو جهاد”. وأوكلت مهمة قيادة فريق التنفيذ لنائب رئيس هيئة أركان الجيش آنذاك ايهود باراك، وأشرف الجنرال موشيه يعلون رئيس هيئة الأركان الإسرائيلية فيما بعد على سير عملية التنفيذ بالتعاون مع شبتاي شبيط نائب رئيس جهاز الموساد آنذاك.

وفي 16 أبريل عام 1988، أنزل الاحتلال 20 عنصرا مدربين من قواته من أربع سفن وغواصتين وزوارق مطاطية وطائرتين عموديتين للمساندة على شاطئ الرواد قرب ميناء قرطاج بتونس. وبعد مجيء خليل الوزير إلى بيته كانت اتصالات عملاء الموساد على الأرض تنقل الأخبار، فتوجهت هذه القوة الكبيرة إلى منزله فقتلوا الحراس وتوجهوا إلى غرفته، فاستقرت به سبعون رصاصة ليلقى ربه في اللحظة نفسها.

لم تعترف تل أبيب صراحة بعملية الاغتيال إلا في السنوات الأخيرة. وفي نونبر عام 2012، نشرت صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية تحقيقا صحفيا يؤكد أن الجيش الإسرائيلي كان وراء اغتيال “أبي جهاد”.

في عام 2013، أكدت تل أبيب بشكل غير رسمي أنها كانت المسؤولة عن اغتياله بعد السماح بنشر مقابلة للمراسل الإسرائيلي رونين بيرغمان من ناحوم ليف، ضابط وحدة استطلاع هيئة الأركان العامة الإسرائيلية الذي قاد الهجوم – حيث منع النشر عبر الرقابة العسكرية لأكثر من عقد.

فارسان عربيان ترجلا عن حصانيهما في أبريل، يكملان معا مسيرة طويلة من المقاومة والبطولة والشهادة.

شهيدان اصطفاهما الله مع من اصطفوا قبلهما وبعدهما عبر مسيرة الكفاح الوطني الفلسطيني، تغدق أرواحهم الطاهرة على البنادق عطورا وزنابق، ويتدفق نهر الدم في طرقات نابلس وغزة وجنين والخليل، ويزركش دمهما حجارة القدس العتيقة.

عربي 21