وجهة نظر

يسري فودة…إني اتهم !

الآن مر ما يقارب 15 سنة عن “الثلاثاء المبارك”، 11 شتتبر 2001، يوم لطخ وجه أمريكا بغبار خراب البرجين ووصم وجه العربي المسلم بالإرهاب.

كان ذلك اليوم خنجرا مسموما غرسته فئة قليلة في وجه أعتى قوة فوق الأرض وغرسوه من حيث لا يدرون في خاصر أمة جمعاء!

تبخر غبار الدمار ورحل تاركا وراءه ضحايا، ضحايا الردم الإسمنتي (3000 روح آدمية)، وأمة جمعاء وجدت نفسها ضحية أعلام برمج عن سبق جهل وإصرار، والحقيقة التي صارت فيما بعد الضحية الأكثر تضررا!

أحصت أمريكا ضحاياها فأحكمت إحصاءهم فيما عجزت عن تقديم أي دليل قاطع يثبت ادعاءها.

في الطرف الآخر، بن لادن يمتدح الحادث ويؤبن “الغزاة” دون أن يتبناه بصريح العبارة.

إلى ذلك التاريخ (14أبريل) من عام 2002، كان العالم أمام سكين حاد خدش وجه أمريكا الناعم، وأمام اتهام قطعي للقاعدة في غياب أي دليل، وفي الطرف الآخر امتداح لا يرقى إلى مستوى الاعتراف والتبني.

بين هذا وذاك، انبعث من بين ضلوع الغيب “أبو بكر” ليصطفي صحفي من عالم الشهادة ليحل ضيفا على أحد ما، في مكان ما، حتى يبلغوه بدورهم بشيئ ما قد يفيد!

قبل يسري فودة الدعوة فلباها، وإلى منزل أمن في كراتشي قاده قدره، هناك التقى بخالد شيخ محمد رئيس اللجنة العسكرية لتنظيم القاعدة ومعه رمزي بنشيبة المنسق العام لعملية الثلاثاء “المبارك”.

*تفاصيل اللقاء وحيثياته: العودة إلى أرشيف برنامجه التحقيقي “سري للغاية” ، الحلقات الست الخاصة بالقاعدة، مع باقي التفاصيل في كتابه: “في طريق الأذى”.

السبق الصحفي !

لملم يسري أمتعته عائدا إلى لندن وفي محفظته “الصندوق الأسود” لأخطر عملية إرهابية في التاريخ، هذا الصندوق الذي أملت عليه الظروف الأمنية أن يترك مفاتحه لدى “الإخوان” حتى يتدبروا هم إيصالها إليه حيث مكتبه في لندن!
مر يوم، يومين ..أسبوع، شهر، مفاتيح الصندوق “أشرطة لقائه برمزي وخالد” لم تصل بعد، كل ما يصله بين الحين والآخر اتصال من أبو بكر يستمهله ويخبره أنها ستصله “بإذن الله”.

السبق الصحفي في المزاد العلني !

فجأة وجد يسري فودة نفسه أمام واقع فرضه عليه أبو بكر، لا سبق صحفي بلا مال، إذا أردت مفاتيح الصندوق الأسود، فما عليك سوى ب100 ألف دولار.
يقول فودة إنه رفض العرض بصفة قطعية ولم يقبل المساومة على بضاعة يعرف هو والبائع معا أنها بضاعة أعدت لشخص واحد ولن يستطيع احد آخر غيره اقتناءها.

الشاهد الأسير

اتسعت رقعة العارفين بما جرى ليسري في كراتشي، واتسعت معها رقعة الاهتمام بيسري كجزء من القصة.

-يسري فودة الصحفي الوحيد الذي التقى برئيس اللجنة العسكرية لتنظيم القاعدة والمنسق العام لعمليات 11 شتنبر.
-القاعدة تتبنى غزوتي نيويورك وواشنطن وتقدم دليلا ماديا ليسري…

وحين يسأل يسري عن الدليل المادي يجيب: لقد سجلت معهما لأزيد من ساعتين، قدم كل من موقعه جميع الحجج عن كيفية التخطيط والتنفيذ، وعن شريط اللقاء يقول: لقد احتفظا به حتى يقومان بتغيير ملامح الصورة ونبرات الصوت، وبعدها سيرسلوه إلي بمعرفتهم!

اقتربت الذكرى الأولى للحدث، الجزيرة ستقدم ما يمكن تسميته باعتراف العقول المدبرة وفتح أدمغة الأرواح المنفذة، ليبقى السؤال: أين الشاهد يا يسري؟؟

يسري يحسم المسألة بجملة واحدة: الشرائط تركها أبو بكر وديعة لدى بعض الإخوان، وهؤلاء يطالبونه بمبلغ مال كمقابل وأنا لن أدفع ولو مليما واحدا…انتهى الكلام.

أمير قطر والبحث عن السكوب

يحكي يسري فودة في كتابه “في طريق الاذى” أن لقاء جمعه بأمير قطر، خلال اللقاء أظهر الأمير حماسا مبالغا فيه حول دفع “الدية” من أجل استرجاع الوديعة، لكن يسري يرفض الفكرة مجددا بدواع مبدئية أخلاقية!
من خلال تلميحات يسري، يظهر الأمير كباحث عن سبق أمني أكثر منه عن سبق صحفي!

صلاة جنازة بمن حضر !

اكتفى يسري بما لديه من معلومات غير الشريط الوديعة ومضى في استكمال تحقيقه “بما توفر”.

حتى قبل بث أولى حلقات التحقيق، سقط أحد أبطال الشريط الوديعة أسيرا لدى السلطات الباكستانية.

خبطة إعلامية تلتها خبطة أمنية وبعدها انفرط عقد القاعدة، شرد أعضاء التنظيم كما لم يشرد قبل، اعتقل من اعتقل فيما عاد الآخرون إلى كهوفهم، فيما بقي الصحفي الذي لم تكن أقدامه أقدام خير وبركة على من أرادا أن يخاطبا العالم عبره، بقي يطوف العالم بصندوق بلا مفاتيح وفتوى تبيح دمه لأنه “باع” بنشيبة” للكفار!

-…في انتظار صك البراءة!

كان موقفا حكيما وبليغا حتى من الناحية الإنسانية، فرغم كل الذي حدث، خالد شيخ محمد لم ينسى أم حياة الصحفي الذي اختاروه هم واستقدموه من لندن حتى كراتشي في خطر، فبادر إلى إصدار بيان وصف بصك البراءة يبرئ فيه ساحة يسري ويعتبر ما وقع قضاء وقدر!

-قناة الجزيرة …بريئة !

حصلت قناة الجزيرة على نفس صك البراءة الذي حصل عليه يسري، فبيان القاعدة يقول بصريح العبارة: “لا علاقة ليسري فودة ولا للجزيرة باعتقال رمزي بنشيبة.

– حصيلة عشر سنوات من الضبابية

قبل أن يصدر يسري فودة كتابه “في طريق الأذى”، كان قد صدر للكاتب الأمريكي رون ساسكيند (2006) كتابا سماه “مبدأ الواحد في المئة”، ضمن الكتاب أورد قصة يسري وأمير قطر مع السبق الصحفي استنادا إلى معلومات قال إنه استقاها من منبعها، كما نقل وقائع اجتماع الخامسة لمدير وكالة الاستخبارات الأمريكية آنذاك “جورج تينيت ” مبرزا أن تينيت دخل الاجتماع وهو يكاد يطير من الفرح، قبل أن يطلب تغيير جدول الاجتماع ومنحه الكلمة ليكون أول المتدخلين: “كما تعلمون كانت لدينا خلافاتنا مع صديقي الأمير، ولكنه اليوم أعطانا هدية مذهلة”.

صدور كتاب ساسكيند وتناوله لمعلومات تخص يسري وحده وسبقه الصحفي شجع أو “أجبر” هذا الأخير عن العودة إلى الموضوع بكل تفاصيله، إذ حكى يسري عن كواليس عودته من كراتشي وعن لقائه بأمير قطر والمدير العام لقناة الجزيرة آنذاك، كما ذكر أسماء كل زملائه الذين علموا بما جرى قبل أن يستطرد في محاولة منه لتسليط الضوء على منطقة غير مضاءة في القصة ككل: “… لكن، ما عساه (أمير قطر) أن يقدم لجورج تينيت من معلومات تفرحه وتذهله وأنا بنفسي لم أكن أملك من معلومات سوى ما ضمنته في البرنامج !”

-هل وصلت “الجزيرة” إلى الشريط الوديعة دون علم يسري ؟؟

ألقى صاحب “في طريق الاذى” إلى القارئ كل الإشارات التي يمكن أن تكون لديه قنطرة يعبر بها إلى جزء من حقيقة ما جرى، يحكي كيف طلب على عجل ليطير من لندن إلى الدوحة لأن شريطا جديدا وصل من القاعدة، يقول يسري أشاهد الشريط مع رئيس قسم الأخبار قبل عرضه، فإذا بصوت رمزي بنشيبة يصدح في قاعة المونطاج رغم أن لا أحد كان يعرف صوت من هذا، احتفظت لنفسي بهذا السر ومضيت في إتمام الشريط: الخرائط نفسها التي صورتها بيدي في ذالك البيت الآمن، المواد نفسها …قلت مع نفسي هذه “ذكريات شقة هامبورغ” التي أراني إياها رمزي في كراتشي …

في ركن آخر من الكتاب، يتذكر يسري كيف فاجأه اتصال من تيسير علوني وهو يستفسره عن وديعة تركها عند احد ما في باكستان، قبل أن يغلق تيسير الهاتف قال له: إنهم يريدون 17 ألف دولار فقط!، وبعدها بأيام يحمل إليه مراسل الجزيرة في إسلام آباد “احمد بركات” نفس الخبر.

إذا حاولنا استجماع هذه الوقائع الثلاث، فإننا سنصل إلى خلاصة أن “الشريط الوديعة” لم يكن يسري وحده يعرف الطريق إليه، كيف يقتنع المرء بأن أمير قطر لم يسلك سبيلا آخر غير مسلك لندن!

حينما يتساءل يسري فودة عن سر سعادة جورج تينيت بمعلومات أمير قطر رغم أنه قد بثها على الجزيرة في برنامجه، فإنه يرسم مسارا آخر للقصة، وكأن بيسري يقول في الكتاب: إذا كان أمير قطر يدفعني دفعا لشراء الشريط ب100 ألف دولار، فكيف له أن يتردد عن شرائه من السوق السوداء ب 17 ألف دولار لا غير!