وجهة نظر

القوات المسلحة و ضرورة تبني عقيدة عسكرية جديدة

لا يجادل أحد في كون جيوش الدول تدرب على عقيدة قتالية تهدف بالأساس إلى صيانة حدود الدولة الوطنية الجغرافية المحددة طبقا للقانون و الأعراف الدولية سواء الترابية أو البحرية أو الجوية. لا مجال للشك أيضا في أن القوة العسكرية داخل البلاد قد تسند إليها مهام إستثنائية لها طابع إستجعالي و تبيحها الضرورة تسند اليها بواسطة دساتير و قوانين الدولة المصادق عليها و المتعارف عليها في جميع التجارب المقارنة عبر العالم و تتمحور بشكل رئيسي و حصري في التدخل لمساندة المدنيين عند نزول الكوارث الطبيعية، أو عند حدوث خطب جلل في تسيير الدولة، أو تهديد لمؤسساتها بمناسبة فتنة داخلية عنيفة أو فوضى تمس الأمن العام و الاستقرار و سكينة المواطن و عرضه و ماله.

و لما كان تدريب العسكر يتوخى من ورائه الوفاء و الولاء لثوابت و مقدسات الأمة بغية الإستعداد بصفة دائمة للفناء من أجل حياة البلد و دوامها، في سبيل صد الأطماع الخارجية في تراب و خيرات الوطن. و لما حضي أيضا العسكريين بشرف القيام بفريضة القتال نيابة عن العامة، فقد حازوا مشروعية شعبية و وطنية للحرص على مصالح البلاد كلما قدر المكلفون بمسؤولية تدبير الشأن العام بتفويض شرعي و مشروع، أنها مهددة أو معرضة لمخاطر محتملة في مكان ما من الأرض.

في الماضي كان ينظر إلى العسكر كمؤسسة مناط للمشاكل و القلاقل، و مختصة في تنظيم الإنقلابات على الأنظمة و تعيين الحكام و محرك التدبير الممنهج للقمع، لكن هذه النعوت و الأوصاف أخذت في الإندثار منذ عهد من الزمان مع الجنوح نحو أنظمة متعددة منفتحة تشاركية و ديمقراطية، ليصبح للعسكري كما لرجل الأمن العادي دورا في التنمية الشاملة للبلد من خلال سهره و إستماتته في الحفاظ على مناخ ملائم للحياة و الإنتاج بحرصه على إجثتات عوامل الخوف و النفور.

و ليس بخاف على أحد اليوم أن جيوش القوى العظمى تتبنى مفهوما جديدا أو متجددا للحدود الوطنية للدولة الحديثة. تطور المفهوم في تجربة عدد من الدول خصوصا الكبرى التي جعلت العسكري حامل السلاح في موقع جديد، و عهد إليه بمهمة محدثة و هي الوقوف على حراسة حدود مصالحها الإقتصادية و الثقافية بالأساس. قديما كان اللجوء إلى القوة العسكرية يتم في إطار عمليات توسعية إمبريالية أو دفاعية عن مصالح الحلفاء السياسيين بالدرجة الأولى، غير أنه بعد الحرب العالمية الثانية تبنت جيوش القوى العظمى على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية و روسيا و فرنسا و غيرها إستراتيجية عسكرية جديدة مبنية على حماية حدودها الإقتصادية و الثقافية، و في أغلبها إستباقية لتفادي التهديدات و المخاطر المحتملة على إستقرار أنظمتها الإقتصادية و السوسيوثقافية.

معظم التدخلات العسكرية للقوى الكبرى كانت تهدف إلى حماية مصالح ذات أبعاد إقتصادية أو ثقافية بالمعنى الواسع للكلمة.

تدخلات الولايات المتحدة الأمريكية في العراق كانت متعددة الأهداف و متنوعة، مابين الإقتصادي و تأمين التزود بالبترول و التحكم في مصادر الطاقة و تكلفتها على المستوى العالمي، إلى توجيه المجال الثقافي و الديني بما يخدم مصالح الغرب في خلق تفرقة طائفية و إضعاف الفاعل الإسلامي، و كذلك إلى مراقبة منطقة جنوب آسيا و تأمين دولة إسرائيل، إضافة إلى خلق منطقة نزاع متحكم فيها تسهل عملية السيطرة على الدول المجاورة بما في ذلك دول الخليج و إيران. التدخل العسكري في بانما و إسقاط حكم الرئيس مانويل نوييغا ترنحت أهدافه محددة في محاربة الإتجار في المخدرات و غسيل الأموال.

التدخل العسكري الأمريكي في الفيتنام كان من أهم اهدافه إيقاف التوسع الشيوعي، و محاولة خلق مناطق عازلة موالية للغرب الرأسمالي و حصاد نفوذ الاتحاد السوفييتي سابقا. و بالرجوع للتاريخ المعاصر و الحاضر نجد عددا لا حصر له من الأمثلة و النماذج المتعلقة بالتدخلات العسكرية الأمريكية عبر مختلف دول العالم و التي في غالبها لها طابع ثقافي أو إقتصادي.

نماذج أخرى من التدخلات العسكرية لعدد من الدول الكبيرة يسير في نفس توجه الولايات المتحدة الأمريكية، و يسعى داءما إلى إعطاء الأولوية للمصلحة الإقتصادية و حماية الإنتماء الثقافي بالمعنى الواسع للكلمة، و من مجملها تدخلات روسيا في سوريا مؤخرا و السعودية في اليمن ضد الشيعة و فرنسا في رواندا و الزايير و مالي و غيرها كثير من الأمثلة.

في المقابل تنسحب الدول من جبهات القتال كلما إنتفت المصلحة المباشرة، كانسحاب الدانمارك و كندا من الحرب على العراق و أفغانستان بسبب عدم وجود دواعي مصلحية تبيح التضحية بمواردها العسكرية و المالية.

و بذلك إنتقل دور المؤسسات العسكرية من دور تقليدي ثابت و محافظ إلى دور جديد متغير ملائم للوضع الدولي الحالي ذي النزعة البراغماتية الهجومية الاستباقية في عمقها. هذا الدور الجديد يعد إمتدادا لرؤى و منظور الرجل السياسي و اللوبيات القوية لضمان دوام الدولة و حماية مواردها الإقتصادية أينما وجدت عبر العالم، و ردع كل مصدر قد يشكل مساسا بقيمها و ثقافتها و مذاهبها الفكرية و الدينية، خصوصا إذا إرتبطت بالمقدسات التي تؤمن بها على غرار ما يجسده التوجه الإيراني في العراق و كذا توجه العدد الأكبر من الدول الإسلامية في دفاعها عن السعودية خصوصا أثناء حرب الخليج الثانية ضد العراق.

و في هذا السياق، و نحن نتحدث عن بلادنا يمكننا القول أن للمغرب حدودا إقتصادية و ثقافية أوسع مجالا من الجغرافية، خصوصا و نحن نخوض معارك متعددة أولها القضية الوطنية ثم قضايا التنمية الإقتصادية و الإجتماعية الشيء الذي يفسر إلى حد ما مساندة المغرب لعدد من دول الخليج بإعتبارها حدودا اقتصادية و ثقافية مهمة بل و حيوية إلى درجة الشلل الجزئي في حال فقدانها.

و نظرا لكون السياق العالمي الجديد مبني على المصالح و على النظرة البراغماتية و لا يقبل الإنتظارية أو إفتراض النوايا الحسنة في حل الأزمات الحادة المرتبطة بوجود الأمم، فقد أصبح من مستحبات قيام الدولة الحديثة بل من أركان صحة وجودها أحيانا و جواز بقائها هو تبني عقيدة دفاعية إستباقية جديدة من أهدافها الكبيرة التدخل العسكري من دون أي حرج في جميع بقاع العالم كلما إقتضى الحال و توفر عنصر الخطر و الإستعجال الغير قابل للتفادي إلا عن طريق المعالجة القتالية، و بطبيعة الحال إذا كان التدخل يفرضه و يجيزه التناقض الحاصل بين تطلعات الشعوب و الجهة الحاكمة في المنطقة موضوع التدخل العسكري.

هذه التدخلات من شأنها أن تحقق للمغرب صيانة موارده أو تحد من أي تهديد من شأنه أن يمس بشكل مباشر المقدسات المغربية، خصوصا أن قواتنا المسلحة بعنصرها البشري و إمكاناتها اللوجستية، مشهود لها بالكفاءة المهنية العالية و بإمتلاكها للخبرة الميدانية و التكنولوجية العالية، و بحس الإلتزام الوطني المخلص، كما أن كل تدخل في الحاضر قد يغني عن أزمات و فتن لا علاج لها في المستقبل، غير أن التكيف مع هذه العقيدة الجديدة يجب أن يكون موضوع إعادة النظر في المسار التكويني و التدريبي للعنصر البشري لتمرير القناعة الجديدة المتعلقة بتوسع الحدود المطالب الدفاع عنها إلى خارج الحدود الترابية لتشمل الشرايين الخارجية التي تمد الجسد الوطني بعناصر البقاء و الحياة.

ـــــــ
إدريس بنيعقوب/ باحث في القانونالدستوري و العلوم السياسية