مجتمع

شاب إفريقي يكتب قصة نجاحه بحروف المعاناة من كوناكري إلى الرباط

في إحدى صباحات غشت من سنة 2014 حطت طائرة قادمة من العاصمة الغينية كوناكري بمطار محمد الخامس بالدار البيضاء، كان من بين الراكبين على متن الطائرة شاب في السابعة عشر من عمره.. إنه الغيني “موري دونزو” المتحدر من أسرة فقيرة، الذي قرر خوض رحلة طلب علم في اتجاه المغرب، بعدما حال فيروس “إيبولا” دون سفره إلى السودان، الشاب الغيني الذي لا يعرف أحدا في المغرب ولا يتوفر على منحة حكى لجريدة “العمق المغربي” كيف كانت رحلته أقرب إلى المستحيل، وكيف كتب بحروف المعاناة قصة نجاح لم تكتمل بعد.

“إيبولا” وحلم الدراسة بالسودان

 في 2014 كان موري يفكر بشكل حثيث في استكمال دراسته خارج بلاده غينيا، وفي الوقت ذاته كان المغرب بالنسبة له دولة بعيدة المنال، لذلك عندما أتيحت له فرصة الذهاب إلى السودان لاستكمال الدراسة لم يضيعها، لكن فيروس “إيبولا” الذي انتشر آنذاك في غينيا خصوصا عاصمتها كوناكري خطف منه حلم الدراسة هناك.

يحكي الشاب الغيني، بلغة عربية فصيحة مغلفة بنبرة لغته الأم، أنه اجتاز بغينيا امتحان بكالوريا السودان بنجاح في مارس من سنة 2014، لما كان يدرس بالجذع المشترك الأدبي، وما عاد يفصل بينه وبين إتمام الدراسة في جامعات السودان غير بعض الوقت، يرتب فيه أموره ويستعد فيه للسفر.

يتابع موري لجريدة “العمق المغربي”: “بدت لي السودان قريبة واعتبرت أن أمر الدراسة هناك محسوم”، خصوصا أنه سيتوصل بمنحة دراسية. رتب موري أموره، وفي الوقت الذي ذاع خبر نجاحه في بكالوريا السودان بين أقربائه الذين هنؤوه وودعوه في الوقت ذاته، واصل فيروس إيبولا انتشاره في البلاد، ما حال دون استكمال حلمه.

 ذات صباح من شهر يوليوز نزل الخبر على الشاب ذو السابعة عشر ربيعا كالصاعقة، لقد قرر السودان عدم استقبال أي طالب من غينيا خوفا من انتقال فيروس إيبولا إلى البلاد، وهو ما لم يكن يخطر ببال الشاب الغيني، يقول موري ويصمت قليلا كأنه يسترجع خيط الحكاية، “فكرت في استكمال الدراسة في المغرب”. رغم أنه لا يتوفر على منحة، ولم تستقبله أي مدرسة هناك، إلا أن أمر الدراسة في المغرب أصبح محسوما بالنسبة لموري، قرر السفر إلى المغرب والبحث عن أي ثانوية لإتمام دراسته بها.

 من كوناكري إلى البيضاء 

تدبر موري ثمن تذكرة الطائرة وجمع حقيبته وتوجه نحو مطار كوناكري، ما إن حطت الطائرة بمطار الدار البيضاء حتى بدأت المشاكل والعقبات، أولها كانت في المطار عندما منعه مسؤولو الأمن من مغادرة المطار، وطلبوا منه العودة إلى بلاده رغم أنه جاء بطريقة شرعية، بدعوى أنه قاصر ولا أحد يستقبله في المغرب، ولم ينفع موري سوى إخراج شواهده من حقيبته ليقنع أحد مسؤولي الأمن في المطار بأنه جاء للدراسة.

خرج الشاب الغيني من المطار وامتطى القطار نحو العاصمة الرباط، وهنا بدأت مرحلة التيه.. شوارع كبيرة ومتشعبة وسيارات كثيرة وحركة دؤوبة للراجلين في اتجاهات مختلفة، لكن موري، الذي لا يملك في جيبه سوى 400 درهم، ظل عاجزا عن تحديد اتجاهه، فظل يمشي في شوارع العاصمة على غير هدى إلى أن تذكر أن أحد المقربين من عائلته يعمل في السفارة الغينية بالرباط فقصد السفارة.

كان الطالب الغيني يتنقل راجلا داخل العاصمة، وصل السفارة وبصعوبة تمكن من مقابلة قريب العائلة، لم يطلب منه موري سوى سكن يحتمي فيه بينما يبحث عن ثانوية تستقبله، لم يكلف هذا الشخص نفسه عناء مساعدة الشاب، واعتذر وانصرف، دلف الطالب من باب السفارة يجر أذيال الخيبة.

“بعد أن وجدت نفسي وحيدا في الرباط.. لا من يساعدني ولا نقود معي قرفصت في أحد شوارع الرباط واستسلمت للبكاء”، يقول موري، ومن حسن حظه صادف جلوسه في الشارع مرور مواطن موريتاني، سأله عن مشكلته فحكى له، وعرض عليه المبيت عنده لكن لليلة واحدة، إذ عليه أن يتدبر أمره في الغد.

الاستجداء بحي التقدم

أرشد الموريتاني موري إلى حي التقدم حيث يكتري مواطنون من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء بيوتا مشتركة بأقل تكلفة.. هنا التقى الشاب الغيني شبابا من بني جلدته يعملون في المغرب ويتحينون فرصة الهجرة إلى أوروبا. رغم أن موري لم يكن يملك سوى 400 درهم إلا أنه أحس بنوع من الدفء بين مواطنيه، يقول بصوت منخفض أقرب إلى الهمس “دفعت 300 درهم مقابل السكن في غرفة صغيرة أشاركها مع 6 أشخاص”، وما إن خلد للنوم في ليلته الأولى حتى هاجمته الأسئلة والهواجس “ما العمل ولم يبق معي سوى 100 درهم؟ متى أستكمل حلمي بالدراسة هنا؟”، لكنه قال بلغة الواثق “أعرف أن الله معي ولن يخيبني خصوصا أني جئت من أجل هدف نبيل”.

لم يجد الشاب الغيني من وسيلة غير الوقوف أمام باب المسجد كلما أدى الصلاة، ليستجدي المصلين بعض الدراهم، لكنه ما يلبث أن يحكي لهم قصته طالبا منهم مساعدته على استكمال الدراسة في أحد المدارس.. حفظ موري للقرآن الكريم جعل بعض المصلين يتعاطفون معه، خصوصا أنه يستظهر أي آية أو سورة كلما طلب منه ذلك.. إلى أن طلب أحد المترددين على المسجد من موري أن يمده بشواهده ليساعده، قصد هذا الشخص وزارة التعليم مستفسرا، قبل أن يعود خائبا.

في صباح أحد الأيام جمع موري وثائقه في حقيبة على ظهره، وخرج من حي التقدم في اتجاه باب الرواح مشيا على الأقدام، إلى أن وصل مقر وزارة التربية الوطنية وهو يتصبب عرقا، استقبله أحد الموظفين وحكى له موري قصته بشكل آلي بعدما حفظها من كثرة ترديدها “أنا مواطن غيني جئت إلى المغرب لاستكمال دراستي…”، تصفح الموظف وثائق الطالب ليصفعه بالجواب المعهود “لا يمكن لا يمكن”. في ظل كل هذه الظروف كان الشاب الإفريقي يخفي معاناته عن أسرته بكوناكري كلما اتصل بهم.

دار سلام 

بينما كان موري بين أزقة حي التقدم صادف بناية تحتل مساحة كبيرة كتب على بابها “ثانوية دار السلام”، دخل الثانوية دون تردد وطلب لقاء المدير، لم يبد المدير اعتراضا على طلب الشاب الغيني لكنه أوضح له ضرورة جلب موافقة من نيابة التعليم، ليتوجه موري في الحال إلى النيابة، وهناك أفهمته إحدى الموظفات أن استكمال الدراسة في المغرب يسدعي مصادقة الشواهد في مؤسسة “شرق غرب”، وهو الأمر الذي لم يأخذ وقتا.

بدأت الأبواب تفتح في وجه موري الذي عاد من نيابة التعليم نحو ثانوية دار السلام يحمل وثائقه المصادق عليها من قبل مؤسسة “شرق غرب” ورسالة موقعة من النيابة، ليتم تسجيله في مستوى الأولى بكالوريا تخصص آداب وعلوم إنسانية، لكن المشاكل والصعاب لم تتوقف عند هذا الحد.

وجد ابن مدينة كوناكري نفسه مجبرا على الاستمرار في سكنه رفقة مواطنين من دول جنوب الصحراء بحي التقدم. كان موري يتردد على الثانوية كل يوم، وفي يوم الأحد يقصد “الموقف” للبحث عن عمل ليوم واحد يعيل به نفسه أسبوعا كاملا، تضافرت هذه الظروف وصعوبة فهم الدارجة المغربية، التي يشرح بها بعض الأساتذة الدروس، لتشكل عقبة أمامه، لكنه سرعان ما اجتازها.

في دردشة لموري مع أحد زملائه، عرف هذا الأخير بظروف الشاب الإفريقي المادية، فتحدث بذلك إلى زملائه وبعض الأساتذة الذين جمعوا مساهمات نقدية واكتروا لموري غرفة مستقلة في بيت يسكنه مهاجرون من إفريقيا جنوب الصحراء بحي التقدم، لتتحسن الأمور قليلا، لم يدم هذا الوضع كثيرا، إذ تطوع أحد المحسنين ليتكفل بمصاريف ابن مدينة كوناكري، فاكترى له غرفة بإحدى العمارات بحي النهضة بـ700 درهم شهريا، وخصص له منحة 500 درهم كل شهر.. في ظل هذه الظروف حصل موري الذي يدرس حاليا بالثانية بكالوريا على معدل 15/20 محتلا بذلك الرتبة الثالثة في قسمه.

بالموازاة مع الدراسة في الثانوية يدرس الطالب الغيني في إحدى مدارس علوم القرآن ساعتان مساء كل يوم، يحفظ موري القرآن الكريم كاملا ويتحدث اللغة العربية والفرنسية والإنجليزية، يالإضافة إلى ثلاث لغات غينية. يقول موري لجريدة “العمق المغربي” بلغة الواثق “سأصير يوما ما أريد..سأصبح سفيرا لبلدي في المغرب.. أحببت هذا البلد”، ويتابع “بعد البكالوريا سأدرس الحقوق باللغة الفرنسية في جامعة محمد الخامس وأتابع تعليمي في سلك التعليم العالي”.