وجهة نظر

لماذا حضر كريستيان إلى المسجد؟

انتهينا من صلاة الظهر يومه الثلاثاء 8 مارس. وأنا أغادر المسجد، شاهدت رجلينغريبين واقفين أمام الباب. أحدهما شاب في الثلاثينات من عمره ملامحه عربية شرقية والثاني عجوز تجاوز السبعين من العمر وتدل ملامحه على أنه هولندي قح.

بعد تقديمي واجب الترحيب وتبادل التحية مع الزائرين باللغة الهولندية، بدأ صاحب الملامح الشرقية يكلمني باللغة العربية ويقدم نفسه:”اسمي عبد الله وأصلي من سوريا وأنا أعرفك جيدا يا إمام، ألا تذكرني؟ لقد سبق لي أن زرت المسجد وتحدثت إليك. قلت له: هل تذكر متى كان ذلك تقريبا؟أجابني : لا أذكر التاريخ بالتحديد ولكن منذ ما يزيد عن سنة. ثم أضاف وعلامة الحزن بادية عليه: كان ذلك قبل أن أفقد بصري. تفاجأت فعلا لما قاله، لأنه لم يكن باديا على شكله أبدا أنه فاقد للبصر.

ظننت لأول وهلة أن الزائرين جاءا من أجل القيام بجولة في المسجد، لأننا في إطار سياسة الانفتاح على الآخر التي نتبناها، اعتدنا تنظيم جولات حول مرافق المسجد وإعطاء معلومات للزوار قصد تعريفهم بمن نحن وماذا نفعل وماذا نريد،لعلنا بهذا نساهم في مزيد من التعارف والتقارب بين مكونات المجتمع الهولندي والتقليل من الأحكام المسبقة التي قد يبنيها البعض حول الآخربسبب الجهل.
فاجأني الشيخ الهولندي عندما أخبرني بسبب الزيارة فقال: نشكرك إمام على إتاحة الفرصة لنا للقيام بجولة في المسجد واستعدادك لمرافقتنا خلال هذه الجولة رغم أنها لم تكن مبرمجة من قبل. لكننا في الحقيقة لم نأت من أجل ذلك. ثم أضاف: صديقي عبد الله هذا أراد أن يصلي في المسجد، ولأنه لا يستطيع أن يأتي بمفرده نظرا لإعاقته البصرية، اقترحت عليه أن أكون دليله إلى المسجد ليؤدي الصلاة!!!

أمسكت بيد عبد الله وطلبت منه ومن رفيقه كريستيان بأدب أن ينزعا أحديتهما عند مدخل قاعة الصلاة ثم أرشدت عبد الله إلى اتجاه القبلة ليشرع بعد ذلك في صلاته. سألت كريستيان إن كان يحتاج كرسيا يجلس عليه في انتظار أن ينتهي عبد الله من صلاته، لكنه رفض الجلوس وفضل الوقوف إلى جانب رفيقه. لم أسال كريستيان لماذا فضل انتظار عبد الله واقفا إلى جنبه وهو يصلى على أن ينتظره وهو جالس على كرسي. لكنني أحسست من نظراته أنه رأى في وقوفه حذو صديقه دعما له أثناء صلاته وإمعانا وتفانيا في خدمته.

انتهى عبد الله من الصلاة ثم نادى رفيقه كريستيان فأمسك هذا الأخير بيده وانصرفا سويا إلى حال سبيلهما…
اندهشت لهذه المشهد الإنساني النبيل، رجل مسن غير مسلم يقود ويرافق شابا مسلما أعمى إلى المسجد لأداء الصلاة، ثم ينتظره بهذا الشكل حتى يقضي وطره ليرافقه بعد ذلك إلى بيته! لكن هذا الاندهاش أثار لديفي نفس الوقت بعض الأسئلة التي أراها مشروعة:
-لماذا يركز بعض المسلمين في إطار الحديث عن العلاقة مع الغير فقط على النماذج السلبية وعلى المواقف العدائية لبعض غير المسامين تجاه الإسلام والمسلمين، بينما يتجاهلون مثل هذه النماذج الرائعة؟

-كيف يحق لبعض المسلمين اعتبار كل من ليس مسلما مثل كريستيان هذا عدوا للإسلام والمسلمين؟
– إلى أي مدى نحن المسلمين مستعدون لخدمة الآخر كما تفانى كريستيان هذا في خدمة عبد الله؟
-إن كريستيان هذا لم يلق علي خطابا حول قيمه التي يؤمن بها ولم يطلب مني أن أتحدث عن صنيعه ولا أن أمجده، وهو لا يعلم أصلا أنني سأكتب شيئا عنه. لكن موقفه الإنساني هو الذي جعلني أتحدث وأكتب وأشيد…فمتى نعي نحن المسلمين أن التأثير يكون بالمواقف لا بالكلمات والخطابات؟
وللتذكير فالقصة واقعة فعلا وليست من نسج الخيال.