وجهة نظر

الحاجة إلى السؤال في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

يتحدث البعض عن وجود مشاريع فكرية كثيرة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. لكن هل تستطيع هذه المشاريع أن تجترح للفكر بهذه المنطقة أفقا أو مسارا آخر يُسلِّط ضوءا جديدا على مختلف القضايا والمسائل التي تهم مجتمعاته أم أن هذه المشاريع تسقط أحيانا في وهم الشمولية، وتكون أحيانا أخرى عبارة عن تنظير جاهز مسبق لا يأخذ بعين الاعتبار ضرورة القيام بالتفكيك والهدم قبل كل محاولات البناء؟

عندما نتأمل مشاريع الأغلبية الساحقة من مفكري هذه المنطقة، نجدها أقرب إلى أن تكون نوعا من التفَقُّه الجديد في قضايا العرب والإسلام، حيث يتعلق الأمر بِفِقْه جديد ينهل من الثقافات والمناهج الغربية دون الخروج من هذا التفقُّه (أدونيس). ويعود ذلك لسببين اثنين:

أولهما أن هذه المشاريع تصدر عن مسلَّمات جاهزة تتعلق بالدِّين والشرع والقومية والوحدة… دون أن تطرح أي سؤال على هذه العناصر، ممَّا يحول دون أن يكون هذا الفكر جذريا. فحين يصدر المرء عن مسلَّمات جاهزة ومغلقة يتقلَّصُ تفكيره إلى مجرَّد تفسير وشرح لها. وبهذا المعنى يُسَمَّى هذا الفكر تفقُّها، لأنه يُلغي التساؤلات التي تفضي إلى إعادة بناء الفكر بشكل جديد وبكيفية أكثر عمقا واتساعا…

لا يولَد فكر جديد ومتطوِّر بدون جرأة فكرية تسائلُ المسلمات والمسبقات ومفاهيم كالهوية والقومية والوحدة الجاهزة، حيث يتطلب الأمر مساءلة هذه المسلمات نفسها، على نحو ما دعا إليه رولان بإرث Roland Barthes، على صعيد الإبداع الأدبي، عندما قال بوجوب الكتابة في درجة الصفر. ومن ثمة يجب البداية من الصفر وعلى أساس تاريخي وعقلاني…

لذلك، يرى بعض المفكرين أنه ينبغي أن تنخرط اليوم مجتمعات هذه المنطقة في زمن السؤال، وذلك حتى لو اقتضى الأمر أن تأخذ الأسئلة منحى عاصفا لا تتضح معالم البناء المترتبة عن إجابات الوقت الآني. فاللحظة اليوم ينبغي تكون لحظة السؤال، لأننا متخمون بأجوبة يؤكد الواقع والتجربة التاريخية أنها تبسيطية وشكلية، وليست أساسية ولا جوهرية. لكن، هل الأسئلة ممكنة في الثقافة العربية الإسلامية؟ من المعلوم في أيامنا هذه أن قوة الإنسان الحقيقية تكمن في طرح الأسئلة وليس في صياغة الأجوبة، إذ إن للسُّؤال في حدِّ ذاته قيمة قد تفوق أحيانا الجواب المقترَح له، لأنَّ قوة الإنسان تنهض على قدرته على طرح الأسئلة، وليس فقط في تقديم الأجوبة، كما أنها تكمن أيضا في نوعية الأسئلة التي يطرحها وصيغ طرحها، حيث إن الإشكاليات الخاطئة تقود إلى بناء معارف خاطئة…

بالنظر إلى ذلك، عندما نستحضر أن الإنسان العربي والمسلم لا يطرح الأسئلة بالمعنى الجذري، ولا يعرف كيفية طرحها على ثقافته، ولا على ذاته، ولا على الآخر، ولا على مؤسسات مجتمعه، ولا على الطبيعة… نستنتج أنه غير موجود بالمعنى الإبداعي ولا الوُجودي، ما يشلُّه ويُفسِّرُ عجزه عن الرؤية والفعل… هكذا، فإن السؤال مدخل للتفكير، وبدونه لا يكون الإنسان إنسانا…

ويعود ذلك إلى أن السؤال ينطوي على الشك والتفكير والرغبة في التحوُّل والتجاوز، ما يجعله يخيف المجتمعات المنغلقة التي تتحكم فيها بنيات ثقافية فكرية وتنظيمية شمولية، لأنه يزعزع الأسس التي تنهض عليها عبر الكشف عن عيوبها وتجاوزاتها وعدم شرعيتها… كما أن ثقافة مجتعات هذه المنطقة ولاشعورها الجمعي لا يسمحان بأن يكون للإنسان فضول معرفي، إذ ينظران إلى الرغبة في معرفة الكثير من الأشياء بكونها مزعجة وخطيرة، بل إنهما يذهبان إلى حدِّ اعتبارها جحودا وإثما…

لذلك ينبغي أن يطرح المفكرون العرب والمسلمون الأسئلة التي تقتضي منهم ثقافتهم أن يطرحوها، وليسَ تلكَ التي يفرضها الاتصال الثقافي القسري أو الطوعي مع الغير، وفي مقدمته الثقافة الغربية. ويبدو من الواجب عليهم أن يصوغوا الآن، على الأقل، أربع أسئلة أساسية مرتبطة بمسائل مهمة يقتضيها إرث الثقافة العربية الإسلامية الكبير، وذلك بكيفية مختلفة كليا عن نمط التفكير السائد.
تتمثَّل المسألة الأولى في النظام المعرفي العربي الذي يتجنب أغلب مفكِّري هذه المنطقة طرح الأسئلة الجذرية الضرورية عليه.
وتتعلق المسألة الثانية بالتمفصل بين الدين والسياسة في المجتمع العربي والإسلامي، إذ لا تُطرح هذه القضية بشكل جذري في الحياة السياسية والفكرية والثقافية في هذه المنطقة…

وترتبط المسألة الثالثة بالمرأة، إذ يتم التفكير فيها في هذه الرقعة من العالم، ويمارس الرجل حياته معها باعتبارها، كما يقول الفارابي – وإن في مجال آخر – “كائنا غير موجود في ذاته”. وكل كائن غير موجود في ذاته، “هو موجود في آلة”، على حدِّ تعبير الفيلسوف دائما. ويترتبُ عن ذلك أنه ما دامت هذه المرأة موجودة في آلة، ولا وجود لها في ذاتها، فالرجل هو الآخر غير موجود في ذاته، بل إنه موجود هو الآخر في آلة. ويعني ذلك أن الرجل والمرأة في هذه المنطقة لا وجود لهما أو موجودان معا في غيرهما الذي يتعين على البحث مساءلته والكشف عنه، ونقده وتجديده…

أما المسألة الرابعة، فتكمن في المدرسة، حيث لا يطرح مفكرو الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أسئلة جذرية على العقل البيداغوجي لهذه المؤسسة، لأنهم لا يفكرون في كيفية اشتغاله، ولا في بنياته، ولا في علاقة المدرسة بالمعرفة والإنسان والطبيعة… ما جعل مجتمعات هذه المنطقة تجهل الرؤى المتحكِّمة في مستقبل أبنائها… وهذا ما يفسر ابتعاد ما يُدرَّس في المدرسة عن روح العصر، على نحو يضع مستقبل مجتمعات المنطقة خارج الحاضر ويجعلها غامضة المستقبل..

يٌشَكِّل السؤال مدخلا للتفكير يٌعَمِّق رغبة المتعلِّم في التعًلُّم عبر جعله قادرًا على التخلص من عوائقه المعرفية الثاوية في أعماقه، ما يمكنه من الانخراط في بناء ذاته وقِيَّمه عبر بناء معارفه. وما دامت الثقافة المدرسية في هذه المنطقة لا تؤهل التلميذ لطرح الأسئلة، فإن ذلك يدلُّ على أنها لم تنخرط بعد في حضارة المعرفة، حيث إنها تضع قيودا على النفوس والعقول للحيلولة دون بزوغها. وينم طرح السؤال عن رغبة المتعلِّم في المعرفة والتحرُّر، كما أنه يجعله يحس بالتبادل الحر الذي يحرر المتعلِّم من القيود التي تحدُّ نطاق تحرك العقول. تبعا لذلك ينبغي نقد البنية المعرفية التي تنتج الخطاب التربوي للمدرسة بهذه المنطقة…