وجهة نظر

انحدار مستوى “النخب” السياسية

تُعدٌّ مجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مجتمعات حديثة التجربة السياسية، لأنها لم تُراكم ما راكمته المجتمعات الديمقراطية الغربية في هذا المجال وغيره. فما تزال علاقاتها وتضامناتها الداخلية قائمة على العائلة والقبيلة والطائفة وقِيَّمِها، ما يعني أن ثقافتها السياسية تنتمي إلى عهود ما قبل ظهور الدولة الحديثة. وهذا ما جعل الخبرة السياسية لهذه المجتمعات ضعيفة لأنها لا تنهض على ثقافة التنوير المُفضية إلى بناء مفهوم “المواطَنَة” التي لا تٌمَيِّزٌ بين الأفراد على أساس انتماءاتهم التقليدية التي تتعارض كلِّيا مع هذا المفهوم الذي تقوم عليه الدولة الحديثة… كما أن الخبرة السياسية والقِيَّم التي تراكمت لدى نخب”الحركة الوطنية” لهذه المجتمعات في النصف الثاني من القرن المنصرم لم تنتقل إلى الأجيال الجديدة. ويعود ذلك إلى حداثة الدولة والتنظيمات المجتمعية وعدم الاستقرار وغياب الانسجام بين مختلف “النخب” المتصارعة على السلطة وما نجم عن ذلك من عوائق التحديث… وقد ساعد كل ذلك وغيره – وما يزال- على عدم تراكم الخبرة السياسية وتطورها وانتقالها إلى “النخب” الجديدة بما تتضمنه من روح وطنية وتقاليد وأصول بما لها وما عليها…

كما ساهم الانفجار الديمغرافي في تعميق هذا الانقطاع في التراكم السياسي في هذه المجتمعات، حيث أصبحت تركيبتها السكانية تتكون في غالبيتها من الشباب. ولم تترتب عن ذلك إكراهات اقتصادية واجتماعية فحسب، وإنما تولَّدت عنه أيضا ضغوط على الموارد الثقافية والتعليمية والتكوينية المحدودة أصلا. لذلك توجد هذه المجتمعات اليوم أمام أغلبية من الشباب يفتقرون إلى التكوين والتأطير والاندماج الاجتماعي. كما أنهم لا يمتلكون أي رأسمال رمزي وثقافي ذي قيمة، حيث لا هوية ولا مواطَنَة لهم، بل إنهم لا يتوفرون أصلا على شروط تحقيق ذلك. أضف إلى ذلك أنهم لا يعون تراثهم، ولا تاريخهم، ولا حاضرهم، ولا مستقبلهم. كما أنهم لا يدركون طبيعة موقعهم، ولا دورهم، ولا وحقوقهم، ولا واجباتهم الاجتماعية… وبذلك فهم غير مؤهلين ليكونوا أعضاء فاعلين في مؤسسات مجتمع حديث، يشاركون في تدبير شؤونه ويتفاعلون معه ويتطورون عبر تطويره…

وتكمن خطورة هذا الكمّ الهائل من الشباب الذي لا يمتلك تأهيلا اجتماعيا ولا سياسيا في إمكانية تحوٌّله إلى حركة شبابية اجتماعية قابلة للانفجار للمطالبة بتلبية حقوق مادية أو معنوية. كما أن هؤلاء الشباب لا يتوفرون اليوم على إطار مرجعي للتفكير يؤهلهم لتطوير الرؤى والمشاريع وإنضاج القرارات… تبعا لذلك، فهم يشكلون فريسة سهلة للمجتمع الاستهلاكي الذي تكرِّسه ثقافة الصورة… كما أنهم قد يصبحون ضحايا لـ “النخبة” الحاكمة التي يمكن أن تستغل تطلعاتهم لتحقيق الذات، فتدمجهم في مؤسسات لبسط سيطرتها على المجتمع مقابل تحقيق بعض رغباتهم. وقد يصيرون أيضا أدوات لحركات سياسية متطرفة تَعِدُهم بالخلاص من الفراغ المادي والمعنوي، فيتوهمون أن الانخراط فيها سيمكنهم من تحقيق حياة فردية واجتماعية طبيعية…

ومن الواضح أن هذه الأعداد الغفيرة من الشباب، الذين ليس لهم وعي عميق بأية قضية، والمفتقِرون إلى الرعاية والأمان، والمٌجبَرون على خوض صراع مرير من أجل البقاء، لا يمكن أن يهتموا بالشأن العام… فهم مأخوذون غريزيا بحاجاتهم الفطرية وحدها بعيدا عن أية معايير اجتماعية أو سياسية أو أخلاقية. وهذا ما يجعل من الصعب عليهم العمل في أحزاب ديمقراطية حمَّالة لمشاريع مجتمعية وذات ممارسة مبدئية ونَفَس طويل… كما أن هذه الأخيرة غير موجودة، وما هو موجود منها تابع وغير مؤهل…

فهؤلاء الشباب يتَّبعون الطريق الأسهل للخروج من الهامشية وتلبية حاجاتهم الأولية وما يرتبط بها من حبِّ السيطرة ومراكمة المنافع…. وقد يجد بعضهم ضالته في إستراتيجية وأسلوب الأغلبية الساحقة من الأحزاب التي صارت إدارية بامتياز. لكن هذا لا يعني أن كل الشباب يجدون أمامهم ما يكفي من الفرص للاندماج، أو حتى إمكانيات الانخراط في إستراتيجية استخدامهم من قِبَل السلطة، فيحجمون عن استثمارها. ونظرًا لما يتعرضون له من تهميش وإقصاء، فإنَّ الأنظمة التسلٌّطِية تنجح في إدخالهم في منافسة مع بعضهم البعض لتحقيق أغراضهم الشخصية، ما يقضي على أي نزوع أو إرادة للتضامن الجماعي بينهم. وهذا ما قد يزجُّ بهم في صراعات من أجل تلبية بعض حاجاتهم الشخصية الزهيدة. وإذا ما نجح بعضهم في تحقيق ذواتهم، فإنهم يبلغون ذلك فاقدين للكرامة، فيصيرون أداة طيِّعة في يد السلطة، حيث يكونون مستعدِّين للمشي فوق جماجم أترابهم… لذلك، فمن الطبيعي أن تخرج من بينهم النخب الجديدة للسلطة التي تعمل على استمرار هذه الأخيرة على حالها….

ومن الملاحظ أن النظم الاستبدادية في هذه المنطقة هي الأكثر استخداما للإغراء بالمنافع والامتيازات المادية والمعنوية لصالح بعض الأسر والعصبيات والجماعات والفئات… وتكرِّس هذه الممارسة تغييب القانون وترسيخ الولاء والتبعية وضرب قيَّم المواطَنَة… من أجل بناء أعمدة القاعدة الاجتماعية للسلطة المكوَّنة من العناصر التي يتم استقطابها عن طريق التبعية والولاء… ومن البديهي ألاَّ يكون لدى هذه النخب الجديدة التي سلكت التبعية طريقا للترقي الاجتماعي أي ميول نحو الديمقراطية والتعدُّدية والانفتاح على الآخرين…

ويعود ذلك إلى أنها تدرك أنه لا يمكنها أن تحافظ على مواقعها وأدوارها إلا عبر محاربة النخب العقلانية النزيهة في المجتمع وإقصائها، لأنها تعي أن استمرار نفوذها وسلطتها يتعارض مع وجود هذه الفئة النظيفة التي تشكل، في تصورها، خصما طبيعيا لها لكونها تسعى إلى التحديث والبناء الديمقراطي. وهذا ما جعل المتتبعين يؤكدون حدوث انحدار في مستوى النخب السياسية في مجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث لاحظوا أنه على عكس الجيل الأول من النخب المدنية السابقة، فإن أغلب النخب الجديدة لها معنى خاصا لمفاهيم السياسة والدولة والمصلحة العامة… كما أنها لا تميِّز بين الدولة والقبيلة والطائفة والحزب… حيث تسعى إلى بسط سيطرتها على هذه المؤسسات، بل إنها قد توظف الواحدة ضد الأخرى دون وعي بعواقب ذلك… أضف إلى ذلك أنها تعتقد أن احتكارها للسلطة وما تتيحه من امتيازات هو حق لها مقابل خدمتها للسلطة عبر تقديم الولاء لها وتشكيل القاعدة الاجتماعية التي تنهض عليها وتُبرر وجودها…

وإذا كانت هذه النخب الجديدة تعتقد أن دورها يكمن في الدفاع عن النظام، فإنها تؤمن بأن موارد الدولة مجرد ميراث انتقل إليها من الجيل الذي كان قبلها في السلطة. ويرجع ذلك إلى أنها لا تطرح على نفسها أي سؤال حول المسؤوليات العمومية، ولا ترغب في إدراك معنى المصالح الوطنية والحقوق والواجبات… كما أنها تشعر أن تخلِّيها عن الاستئثار بالسلطة واحتكار الموارد العمومية لا يمكن أن تستفيد منه إلا فئات أخرى تستولي عليها رغبة في فعل ذلك. فضلا عن ذلك، إنه لا يمكنها أبدا أن تتصور نظاما سياسيا بدون وجود فئة اجتماعية محدودة مُحتَكِرَة للسلطة العمومية والموارد…

ويتعمق ذلك عبر الانقطاع الذي يفرضه الاستبداد على مجتمعات هذه المنطقة عن التاريخ والعالم في آن واحد، ما يتسبب في عزلتها عن النقاش الدائر في العالم، فيغيب الوعي العمومي ويتدهور الخطاب السياسي، ويصبح فقيرا في مضامينه، فينعكس سلبا على قراءة التراث ويعوق الانخراط في روح العصر…

ونظرا لصراعها مع النخب الحداثية، سعت السلطة إلى تدجين بعض هذه النخب لاستتباعها من أجل السيطرة على مختلف المؤسسات المجتمعية من داخلها حتى تظل هذه الأخيرة شكلية وعاجزة عن أن تُطوِّر فكرة واحدة أو تشب عن الطوق. وقد نتج عن ذلك عقم هذه المؤسسات، ما يمكن أن يضعف السلطة والدولة والمجتمع في آن واحد…

ينجم عن ضعف “النخب” الحزبية فراغ مؤسسي يحول دون تجذر الحس الوطني في المجتمع… كما أن انحدار مستواها الثقافي يضع بلدان هذه المنطقة في مهبِّ الريح، لأنه يشكل عائقا في وجه تحضرها وتأهيلها للإنتاج الفكري والعلمي، فيغيب الوعي بأن المعرفة تُقَوِّي الوطن، بل إنها جزء أساسي من أمنه القومي…

ويعكس ضعف نضج الرأي العام وافتقاره إلى ثقافة سياسية حديثة عدم قيام نخب المجتمع بأي جهد في سبيل تكوين هذا الرأي العام، كما يكشف شروط الحصار الذي تضربه عليه النظم الحاكمة كي لا ينخرط في مختلف تيارات التطور الفكري والسياسي الكوني. وهذا ما يشكل عائقا أساسا في وجه التحديث والبناء الديمقراطي، حيث تقوم السلطة بالعمل على الحيلولة دون انبثاق أيِّ مشروع حداثي، ما يدفعها إلى توظيف النزعات التقليدية للوقوف في وجه التغيير. وبذلك نجدها تلتقي، بوعي أو بدون وعي، مع بعض القوى العظمى التي تعمل على إحياء هذه النزعات التقليدية نفسها بغية ضرب الوحدة الوطنية والحيلولة دون بناء الدولة الحديثة!!…