وجهة نظر

احتجاجات الأساتذة المتدربين بين استبداد القانون والخطاب

لسنا في حاجة إلى التقديم لمشكلة الأساتذة المتدربين من حيث الوضع، فاحتجاجاتهم صارت حديث القنوات العالمية، لكني في حاجة إلى التذكير بالأصل في “الديمقراطية” التي يريد البعض تجاوزها نحو تمثلات خاصة عن هذه الأخيرة، فالديمقراطية وليدة الثورة الفرنسية كما أن المدرسة العمومية وليدة هذه الثورة نفسها. بمعنى أننا في وضع تتعالق فيه معطيات الثورة بالديمقراطية بالمدرسة العمومية. هكذا، لم يعد ممكنا اليوم الحديث عن قوانين تتجاوز سلطة الشعب المباشرة، وإذا كان البعض يحاجج بكون الاعتماد على سلطة الشارع ستؤدي إلى الفوضى وانهيار الدولة، فالأصل في الدولة الحديثة هو الثورة (الثورة الأمريكية 1775، الثورة الفرنسية 1789، الثورة الانجليزية 1688 )، ولسنا في حاجة هنا إلى التذكير بالسياق التاريخي الذي أنتجها.

غني عن البيان، القول أن العلاقة بين الحق والقانون في الدولة الديمقراطية علاقة تعارض، فالقوانين تصاغ للحد من الحقوق التي توجد في وضع الإطلاق، والقصد من الحد هنا توفير إمكان تصريف هذا الحق ضمن وضع متضارب المصالح، وليس يعني أبدا أن القوانين تلغي الحقوق كما يراد له التصريف. من ثمة، فصياغة القوانين والدعوة إلى سيادتها المطلقة، دعوى ديكتاتورية مستبدة، ومع الأسف هذا ما صار عليه البعض اليوم، ولست أحتاج هنا أن أذكر بالاحتجاجات التي عرفتها فرنسا في عهد ساركوزي وزيرا للداخلية حين قرر تغيير قانون الشغل، واستمرت الاحتجاجات والاعتصامات أسابيع إلى أن اضطر إلى التراجع عن هذا القانون. ولم يقل أحد أن “هيبة” الدولة على المحك.

إن القوانين نوع من الحجر على الامتداد المطلق للحق ، لكن المرجع يظل هو الحق وليس القانون، وإن كان القانون يلعب دور المنظم فهو مجرد أداة تتغير باستمرار لأجل ضبط أفضل للحقوق.

إن القانون الذي أريد له المرور في غفلة وتحت جنح الظلام لا يمكن أن يكون قانونا عادلا، وأصحابه إذ مرروه بهذه الكيفية يدركون منذ البدء أنه قانون مجحف، وأيا كانت التبريرات التي سيقت بعد ذلك، الجودة، توسيع دائرة المكونين، الحد من الريع، توفير أطر كفأة وخلق أجواء للمنافسة، تشغيل المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين .. والملاحظ أن حجج التمرير تنزاح باستمرار، فلا نكاد نتوقف عند حجة حتى يمر النقاش إلى حجة أخرى، وأحيانا يتحول الخطاب إلى الهجوم، عبر تخوين الأساتذة المتدربين وإظهارهم بصفة المخربين وهي الحجة التي ادعاها وزير الداخلية تبريرا لضربهم في إنزكان، وأحيانا يتم اتهامهم بتسييس الملف، كما لو أن الوضع الطبيعي للملف هو غير “السياسة”، وهذا ما يبين الخلفية المهيمنة لواضعي القانون، أي أنه لا يرى الوضع إلا في اتجاه واحد.

أضف إلى ذلك، دعوى لا قانونية التظاهر. وهنا بالضبط تظهر هيمنة واستبداد الخطاب السياسي، بوصفه خطاب يكاد يتحول إلى ديكتاتورية علنية، فمن جهة يدعو إلى تقديس قوانينه المنزلة غدرا وغفلة وخارج السياق الديمقراطي القاضي بإخضاع القوانين للنقاش العمومي، ومن جهة ثانية يتم تجاوز الدستور نفسه عبر الادعاء بأن التظاهر يحتاج تصريحا وترخيصا. والأنكى من كل هذا وذاك، هو عم تحمل الدولة مسئوليتها في تعنيف الأساتذة المتدربين، سواء مسئوليتها القانونية أو الأخلاقية. فأين هيبة الدولة واحترامها لنفسها ولمواثيقها وقوانينها ؟؟

إجمالا، إن المشكل الأكبر الذي نواجهه مع حكومة بنكيران، ليس الفشل في تنزيل السياسات أو التنكر لبرنامجها السياسي المعلن ما قبل التنصيب، مشكلتها الكبرى هو الاستبداد بالخطاب، الذي يهدف تحقيق منجزات “جدالية” مع السعي إلى إرغام المتلقي على الإقرار ببلادته، وركن عقله وتفكيره جانبا. إنها عقيدة التسليم التي تريد أن تهمين على الممارسة الديمقراطية والخطاب السياسي.