وجهة نظر

هزيمة المثقف أم مثقف الهزيمة ؟

كم هو محير هذا العنوان الذي تركنا نهجر إلى فضاءات الإشراق والتوهج، كلما حاولنا أن نخطو باتجاه مثقفينا لنجدد مهم الصلة ونسائلهم عن الدور الذي يفترض أن يلعبوه في ظل الانتكاسات  الفجائع التي تعصف بمجتمعنا وبأمتنا ككل، وفي الزمن الذي تمطر فيه سماء السلطة عليهم رشاويها المقنعة وتكافئم وتساومهم، والحال أن المثقف يحيا فاضلا وشريفا بعقله وضميره، لأنه يزعج ويفضح ويصدح في وجه الاستبداد والظلم “اللهم إن هذا منكر”.

من أجل أن نمزق الحجاب عن حقيقة المثقف، فإنه لا يكفي أن نلتفت إلى مكانته المرموقة في الإذاعات والتلفزيون والمراتب اللامعة في المراكز والمؤسسات وجوائز التفوق والتقدير والتشجيع وهلم جرا مما يلذ ويطيب، بل علينا أن ننظر كذلك إلى الدور والمهمة التي يقوم بها في مجتمعه ومحيطه، وهذا هو الذي ينبغي أن يكون عليه، المثقف هو ذلك الذي تأتي الفضيحة عن طريقه، الفضيحة بالمعنى الإيجابي للكلمة، أي أنه يفضح كل الحقائق ويفك كل الأغلال الجهنمية عليه وعلى مجتمعه، هو الذي يهتم بشؤون المجتمع وقضاياه، هو الذي يضحي بالغالي والنفيس ولا يبيع موقفه وثقافته، إنه ذلك الإنسان الذي يرغب في التغيير المثمر وينشغل ويسعى إلى تحقيق ذلك مهما كلفه الزمن، من وضع إلى وضع أحسن ورغبته في ذلك لا حدود لها، فيجعل صداقته لضميره ولمجتمعه منتجة ومثمرة.

والواقع أن حال معظم المثقفين أصبح مفجعا ومرعبا خلال التحولات التي يعرفها المجتمع، بحيث بات من العبث ومن الضحك على الذقون أن نستخرج من إنتاجهم قيمة فكرية ذات هم وبال لما يحدث، لأن الضمير باعتباره قيمة عليا قد اغتيل على مر التاريخ، نعم إن خيانة الموعد مع التاريخ قد تم في هذا الأفق، ذلك أن مثقفينا يعيشون لذاتهم ومن الصعب أن يتخلوا عن اهتماماتهم ويهتموا بشؤون غيرهم، هكذا نكون في أمس الحاجة إلى مثقفين يخترقون الأزمنة والأمكنة من أجل صناعة التاريخ والانخراط في بناء المجتمع والأمة.

صحيح أن هناك أيقونات لامعة في سماء مغربنا، ساهموا في تكوين الإنسان الشريف الكادح الجديد الذي يبني المجتمع، إلا أن المحو وشبهة السلبية والهامشية والقيمة الثانوية، باعتبارهم من وسائل النظام المغربي في وجه المثقفين، جعلتنا لا ندرك قيمة الذي أفنوا أعمارهم في العلم والمعرفة والبناء، على سبيل المثال لا الحصر : المهدي المنجرة، محمد عابد الجابري، عبد السلام ياسين، عبد الله العروي، محمد جسوس….وغيرهم من أبناء هذا الوطن، ما يجعل الاعتراف بهم مجرد ترف إن وجد، فبأي معنى يصح الحديث عن المثقف الشجاع في وطن لم تنبت فيه بعد حرية الإبداع؟ وكيف يمكن تحقيق نهضة فكرية بقمع وتهميش مثقفينا ومحاولة تبخيس قيمتهم وسط المجتمع الذي يحتاج إلى قادات ومثقفين نماذج يؤسسون لمجتمع الإبداع والمعرفة.

يا له من مشهد فظيع هذا الذي نعيشه، إننا نريد مثقفا شجاعا، والثقافة والشجاعة إبداع، ولا إبداع بلا حرية، ولكن لا حرية بدون الإلتحام والتشارك والتعاون مع كل أصناف المجتمع وتوجهاتهم الفكرية والإيديولوجية، من الواضح إذن، أن المثقف الذي يتوخى المصلحة العامة أفضل بكثير من المثقف الذي لا يتوخى إلا مصلحة أصحاب الحكم والسلطة.

إن المثقف الذي ينتظر الاعتراف الرسمي من جانب السلطة السياسية في البلاد، قد نزع رداء الثقافة من جلده، وبذلك يكون وبالا على مجتمعه، وإذا تأملنا قليلا واقعنا فسنجد أن الذين قالوا “لا” للظلم والفساد والطغيان وكشفوا عن حقيقة الواقع، كان مصيرهم التهميش والقمع والإبعاد، بينما الذين قالوا “نعم” فمصيرهم إلى السلطة أقرب، هكذا يتحول المثقف مع كامل الأسف إلى مشارك في الجريمة، تماما كما الأفعى ذيلها قد لا يقتل ولكن بحكم تبعيته للرأس فإنه يشارك الجريمة. نحن إذن أمام مفارقة شرسة، يمكن تسميتها بلغة معاصرة، بحرمان المثقف من الحق في التعبير والمعرفة، ومصادرة كل حقوقهم في الوجود.

عموما فالمثقف حين يكون حرا في إبداعه، وفي تعبيره، ووفق رؤية و استراتيجية علمية هادفة، فإنه يثمر فوائد عديدة بحيث ينشغل ويهتم بقضايا مجتمعه، ويقدم بديلا ورؤية أخرى للواقع. فأمام السطو والنهب والصعود المتنامي للمظالم والخروقات المتزايدة يوما بعد يوم للحقوق والكرامة الإنسانية، لا يكون أمامه المثقف سوى الوقوف إلى جانب الآخرين من أجل استراجاع حقوقهم والدفاع عن الحق أينما حل وارتحل.