وجهة نظر

شركات أجنبية تهدد السلم الاجتماعي

تُعتبر الخدمة العمومية، نشاطا تُزاوله السلطة العمومية بكيفية مباشرة (الدولة، الجماعات الترابية) أو سلطة أخرى تقع تحت مراقبتها. وبالمغرب أعطت السلطات العمومية الأولوية كوسيلة لتحسين الخدمات العمومية المُقدمة للمواطنين، للقطاع الخاص، الوطني والدولي، عن طريق عقود التدبير المفوض، حتى أصبحتا أمام شركات أجنبية تُدبر مرافقنا، برقم معاملات سنوي يفوق 12 مليار درهم، أي ما يعادل 1200 مليار سنتيم، تتضمن أرباحا صافية بمعدل 44 مليار سنويا، ولا تستفيد الدولة في رقم المعاملات السنوي سوى من 104 مليار سنتيم كمراجعات ضريبية. وفي هذا الصدد، صَدر القانون رقم 05-54 المتعلق بالتدبير المفوض للمرافق العمومية، والذي لم ير النور إلا في سنة 2006 ، ليعمل على التأطير القانوني لممارسة موجودة من قبل، والقانون رقم 12-86 المتعلق بعقود الشراكة بين القطاعين العام والخاص.

وتعكس هذه الترسانة القانونية رغبة الدولة في تأطير أفضل للمحيط التشريعي والتنظيمي بين القطاعين العام والخاص وتقديم خدمة أفضل للمواطنين، وتخفيف الأعباء على الخزينة العامة كوسيلة إضافية لتمويل استثمارات الدولة وبنيتها التحتية، وهي أهداف يصعب تحقيقها بالاعتماد على الموارد الذاتية للخزينة العامة للدولة، وكذا الأساليب التقليدية في التسيير. غير أن تجربة 18 سنة من التدبير المفوض، تشير إلى أن هناك إشكالات كبيرة في تفعيل التدبير المذكور بالرهانات المطروحة عليه، حيث يتأكد يوما بعد يوم، أن هذه الشركات الأجنبية لم تحقق التراكم المطلوب على مستوى تحسين الخدمات والوفاء بشروط الجودة ومقتضيات دفتر التحملات.

وليست الاحتجاجات والمسيرات التي يقوم بها المواطنون في المدن وأمام مقرات الشركات المستفيدة من عقود التدبير المفوض، سوى دليل واضح عن الفشل الذي واجهته هذه الشركات في تسيير قطاعات أساسية، بشكل يُوازن بين تحسين مستوى الخدمات وتسويقها بأسعار تُناسب القدرة الشرائية للمواطنين. فما هي الانعكاسات السلبية التي رافقت هذه الآلية الجديدة في تدبير المرافق العامة؟

1_ إذا كان مبرر وجود الدولة يتمثل في تقديمها لخدمات للمواطنين عن طريق المرفقالعام، فإن تفويت هذا الدور للخواص في إطار التدبير المفوض يضع هذا المفهوم في أزمة، حيث يتحول المرفق من أداة لخدمة المصلحة العامة بأقل كلفة ممكنة إلى أداة لتحقيق الربح، حيث يُلاحظ أن القانون 05-54 يفتقد لمقتضيات من شأنها أن تنصف المرتفق في حال تعرضه لضرر من طرف المفوض إليه، حيث ظهر جليا أن تفويت المرافق العامة قد أخَلّبمبدأ المساواة بين المواطنين في الانتفاع بخدمات المرفقالعام، وذلك عندما تفرض الشركات رسوما مادية ليست في متناول شريحة مهمة من المواطنين. فعلى سبيل المثال، قامت كل من شركة “أمانديس” وشركة “ريضال” بمضاعفة فواتير الماء والكهرباء بمجرد استلامهما لهذا المرفق الحيوي، وهو ما كان له انعكاس جد سلبي على القدرة الشرائية للمواطنين، وصلت حد حرمان بعض من ذوي الدخل الضعيف من خدمات مرفق حساس.

2_ إن نظام التدبير المفوض لم يستطع التأقلم مع القدرة الشرائية المُنخفضة للمواطنين المغاربة، ذلك أن مبدأ حقيقة الأسعار الذي اعتمدته الشركات المستفيدة، حال دون الاستجابة للبنود المتعلقة بتقديم أحسن الخدمات بأقل تكلفة، فبعد سنوات قضتها الشركات بالمغرب، تحولت من مجرد شركات صغيرة برأسمال جله مغربي، من بنوك مغربية، بدون ضمانات،إلى مجموعات تلج البورصة، بعد أن تضاعفت تعريفة الماء والكهرباء، منذ أن تم تفويت هذه الخدمات العمومية إلى شركات أجنبية ببعض المدن المغربية، الشيء الذي جعل الشرائح الفقيرة تتحمل ثقل هذه الزيادات غير المتناسبة مع حجم الاستهلاك ومع القدرة الشرائية لغالبية المغاربة. وصاحب هذا الارتفاع الصاروخي في التسعيرة، تَدَنّي الخدمات المُقدمة للساكنة وفرض ذعائر خارج ما ينص عليه القانون، وكذا التعامل المُلتبس مع الزبناء والمشتركين في مجال تقدير الفواتير واستخلاص المستحقات، والتلاعب بنظام الأشطر، واقتراف الأخطاء في قراءة العدادات، ووضع التقديرات الوهمية التي لا تعكس المعدل الحقيقي للاستهلاك.

3_ آليات الرقابة والتتبع ضعيفة، بالنظر إلى غياب الموارد البشرية المؤهلة للجماعات الترابية القادرة على حسن تتبع تنفيذ عقد التدبير المفوض، لاسيما ما يتعلق بفحص مشاريع الصفقات والعقود والاتفاقيات، بل أكثر من ذلك، فإن بعض القرارات تتم بالاستناد إلى المعطيات التي تقدمها الشركات المفوض إليها دون ان تتجشم السلطات المفوضة عناء التأكد من صحتها، سواء الاستثمارات أو الميزانيات أو المراجعات التعريفية. أما مراجعات العقود فعوض أن تتم على الأقل كل خمس سنوات، فإنها تتحول إلى مراجعات تتم بعد كل عشر سنوات أو أكثر، الأمر الذي يهدد التوازن المالي والاقتصادي للتدبير المفوض، خاصة أن غالبية الجماعات تفتقر إلى موارد بشرية مؤهلة تستطيع أن تجاري الشركات العالمية الحائزة على عقود التدبير المفوض، والتي لها أنشطة وفروع في مجموعة من دول العالم، فمن المفاوضات الأولية للعقد إلى تتبع تنفيذه، لا نعتقد أن أطر الجماعات الترابية تستطيع أن تدخل في علاقة ندية مع تلك الشركات، إذا علمنا أن طبيعة المرافق العمومية تحتاج إلى خبرة ومؤهلات تقنية ومحاسباتية على أعلى مستوى حتى يمكن التقييم الحقيقي لكلفة تقديم الخدمات، والفعالية في متابعة تطبيق بنود عقد التدبير المفوض.

وكشف المجلس الأعلى للحسابات، أن التدبير المفوض للمرافق التابعة للجماعات الترابية تعتريه عدد من الاختلالات والنقائص ” فمنذ بدء العمل بعقود التدبير المفوض، وإلى غاية سنة 2013 ، لم يتم استثمار كل الإمكانيات والمؤهلات التي يتيحها هذا النمط من التدبير”، وذلك بسبب اختلالات في التخطيط، وفي تحديد الحاجيات من طرف السلطة المفوضة، وغياب هيئة مستقلة تكلف بمهام الخبرة والتنسيق والتتبع واليقظة. وعلى صعيد الحكامة، شدد التقرير أنه أصبح من الضروري إرساء هيئة وطنية مستقلة تمارس وظائف اليقظة وتحرص على ضمان الجودة، وتشكل مركز خبرة لاعتماد وإصدار المعايير، وتشكل أرضية للتنسيق والتتبع.

وبدوره حَمّلَ تقرير للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي الدولة مسؤولية الاختلالات التي يشهدها قطاع التدبير المفوض بالمغرب، بسبب التخلي عن مسؤوليات “سيادية” تتمثل في ضمان الحق في الولوج المتكافئ والشامل إلى المرافق العمومية، وإسناد قطاعات استراتيجية وحيوية إلى القطاع الخاص، دون وضع أي إطار قانوني أو آليات للمراقبة والتتبع وحماية مصالح المرتفقين. ودعا المجلس إلى مراجعة شاملة لنظام التدبير المفوض المعمول به حاليا في المغرب، بإنجاز دراسات قبلية لتحديد نوع التدبير الأنسب للمرفق العمومي.

إن الاحتجاجات التي عرفتها مدينة طنجة مؤخرا طيلة أسابيع مُتَتالية، بإطفاء الأنوار ليلا والإضاءة بالشموع، وخروج عدد كبير من المواطنين للتظاهر في الشوارع ضد شركة “أمانديس” مطالبين برحيلها، كشفت أن أسعار الفواتير تتم بطريقة عشوائية، بسبب ارتفاع قيمة فواتير الماء والكهرباء، وهي زيادات اقتربت في بعض الأحيان من الحد الأدنى للأجور، بينما توازي بعض الفواتير ثلث أجور غالبية المواطنين.

وإذا كان المسؤولون يدافعون عن التدبير المفوض، وعن الإنجازات المُحَققة من طرف الشركات التي فُوض لها تدبير المرافق العمومية، فإن المواطنين و بعض أعضاء لجان مراقبة عقود التدبير المفوض يرون أنه آن الأوان لمراجعة هذه العقود، بعد أن أثبتت الشركات عدم قدرتها على الالتزام بالبنود التي تم الاتفاق عليها، حيث يُلاحظ أن التدبير المفوض الذي أخذت به الجماعات الترابية بالمغرب، لم يستطع أن يَحُد من المشاكل المُتَفاقمة، فالتكلفة المالية أكبر بكثير من الخَدَمات المُنْجَزة على الأرض، لأن المستثمر،أولا وأخيرا، يهدف إلى تحقيق الربح المالي، وهذا ما يجعل المصلحة العامة مُهددة، مما يُحتم على الدولة والجماعات الترابية التدخل للتفعيل الصارم لمبدأ المراقبة ومراعاة المصلحة العامة، حتى تتحقق الأهداف المنشودة من التدبير المفوض، وذلك بخلق ترسانة قانونية متينة لمواجهة كل الآثار السلبية، وانخراط الجماعات الترابية في سياسة التكوين المستمر للأطر والموارد البشرية حتى تتمكن من تفعيل الرقابة المنصوص عليها قانونا.