وجهة نظر

قولي في إضراب الأساتذة المتدربين

لم أرد في حمأة كثرة اللغط والغلط في الموضوع، والكلام فيه بحق وبغير حق، أن أزيد الطين بلاَّت مُتعبة. وكنت أقول: حتى يتعين البيان، ساعتها نوضح مخبوء اللسان الذي رأينا وقت الحاجة إليه قد حصلت.

ولكنني كتبت هذه المقالة على استعجال هذا الصباح، لابن طلب مني رأيي أن أفصح عنه، وإن أساء الأدب في الطلب.
وقبل ذلك كنت أتساءل في كثير من الأحيان: هل إذا احتدم الصراع واشتد الخلاف أن يستنجد المرء بأدب السباب وقاموس الانحطاط الأخلاقي؟ وهل كل من ملأ الفضاء بالقول لا يوجد مخالف له في الرأي؟

لن أحترم صاحب رأي لم يعف لسانه عن اتهام الآخرين والكذب عليهم، والاستنجاد بقاموس البذاءة والسباب. فكثير من هؤلاء يستنجدون بالحماقات والافتراءات والاتهامات لنجدة عجزهم عن الإقناع.

ما دخل الترهيب والتخويف في النقاش الذي أصبح عموميا اليوم لمن اختار اختيارا معينا كيفما كان.
يحس المتتبع لما يجري أن هناك إصرار على الخطيئة في نشر مصطلحات الخيانة والتخوين، والنذالة،..وغيرها في صفوف المتدربين بعضهم مع بعض. حيث تطلق الاتهامات على من اختار بوعي منه أو بغير وعي قرار متابعة الدراسة.

مثل هذا الدخن، لن نقبله بأي حال، وسنقاومه حتى نأطر أصحابه على الحق أطرا. وأن الحرية للجميع، والرأي محترم أهله حقيقة لا ادعاء.
إن الحرية أعز ما يطلب، وأنه ينبغي حماية النقاش والمواقف من سوآتها، والتي منها الترهيب بإطلاق الاتهامات. إن العقلاء قالوا: إن ما تتوهم أنك تفعله من أجلي من غير موافقتي، هو ضدي وإن أصررت على أنه في صالحي.
وكنت أرى معادن الناس عند الخصام كيف يتحولون إلى الفجور، ويحطمون جميع الآداب والقواعد، لا لشيء إلا أنهم اعتقدوا أن المعركة تقتضي التنصل من كل خلق، والتبري من كل قيد وآداب.

لا بد لزوما أن يلجم المرء لسانه بلجام الأدب والاحترام لمن خالفه. وإن كثيرا من المقالات التي تعبر عن فكرتي، أساءتني قلة أدب أصحابها واتهامهم للآخرين، وعدوانيتهم في التصرف مع المخالفين. وأساءتني لغة لم تعف ألسنهم عن تلويث مناخ الرأي بها. وكنت أقول: هل لا بد لفكرة تسيطر عليك، وتملأ الفضاء الذي صنعته لنفسك كي يمنعك من رؤية الآخرين وما عندهم، أن تدفع بها بسلاطة لسان. ألا يمكن التعبير عنها بجمال. إن الصبر على المكاره مر، ومع ذلك حذرنا الحق سبحانه وتعالى أن نتصرف بقبح، فقال:” فاصبر صبرا جميلا”(المعارج:5). والهجر ثقيل على النفس، ومع ذلك حذرنا سبحانه وتعالى أن نتصرف بقبح؛ فقال وهو أصدق القائلين:” واهجرهم هجرا جميلا”(المزمل:10). والطلاق مر على النفوس، ومع ذلك حذرنا سبحانه وتعالى أن نوقعه بقبح، فقال:”وسرحوهن سراحا جميلا”(الأحزاب:49).

إن تمت مقالات تعبر عن فكرتي، أساءتني قلة أدب أصحابها واتهامهم للآخرين. وقد استفدت منها، نعم. وعبرت عن رأيي، نعم. ولكنني أعرضت عن حماقات أصحابها، ورأيت أن الفجور لا يُصلِح قضية، ولا يحمل رسالة. ولكنها مكنونات القلوب الحاقدة أو المريضة تعبر عن نفسها. ولقد علمنا دينا أن المسلم هو الذي يلجم لسانه بالتعفف عن البذاءة في الغضب أو في الرضا، وليس من يتبعها هواها.

ولن ينفع ذلك أبدا وإن تورطت فيه، لأن الحق لا يعلو عليه شيء وإن علا صياحك أو قل أدبك. ويحضرني احتدام الخلاف مرة بين المفضل الضبي والأصمعي، فرفع المفضل صوته ومده، فقال له فَقَالَ لَهُ الأَصمعي: والله لَوْ نفَخْت فِي الشَّبُّور مَا نَفَعَكَ، تَكَلَّمْ كَلامَ النَّمْلِ وأَصبْ. (والشبور هو البوق).

أبدا، القول بحقه واعتباره، لا بهيشات الحشد حوله ولو كانوا جميعا في صف، وكنت أنت الوحيد في الصف المقابل. فالحق ليس بالعدد وإنما بأدلته المعتبرة. هكذا تعلمنا، وهكذا نعلم أبناءنا، وهكذا لا تزال هذه الحقائق في كتب الشريعة عند الموقعين عن رب العالمين.
وتعلمت مع ذلك كله من حياتي أن أستمع إلى المخالف أكثر مما أستمع إلى الموافق، أريد أن أفهم جيدا عنه، وأفهم جذور المسألة وحقيقتها، ولن تكون لي شيء من الحقيقة إن أنا أغمضت عيني عن الزوايا الأخرى التي ينظر من خلالها الآخرون. ومن يدري قد تكون الزاوية التي نظر منها غيري أصدق وأحق من زاويتي. ولن ينتفع شخص في حياته إذا اعتقد أن ما يقوله هو الحق الذي لا يحوم الباطل حوله، وأن رأي غيره هو الباطل الذي وجب التحذير منه.

كثيرا ما انتفعت بخصومي ورأيهم، وحمدت الله تعالى على الانتفاع، وقلت: إن داء التعصب يمنع الخير عن المتعصبين، وتبقى الحقائق لا تقبل أن يتلاعب بها المتلاعبون، ولن تتكسر أمام ما ترغب فيه. فإن من أخطر ما يجني على النفس، أن تتعامل مع الأحداث كما تريدها لا كما هي، فتكسرك. لأن السنن الاجتماعية لا تسير مع الأهواء والرغبات، “سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا”(الفتح:23).
وإذا كانت شريعتنا قد خطت طريق الانتفاع بكل الخلائق، وأن الحكمة هي ضالتها أين وجدت، وأنها تستحق الرحلة في طلبها ولو من العدو، وأن الشيطان قد صدق في القول وهو عدو كما صح في الحديث. فإن نصب معركة مع الحقيقة نتيجتها محسومة ذهنيا لمن اعتبر وتعقل.

أما عن قانونية المرسومين من عدمهما، فلست ناطقا رسميا للوزارة أو للحكومة حتى أكلف نفسي عناء التماس الحجج وتقوية الموقف والقرار. سأنأى بنفسي بعيدا عن الرأي القانوني، لكي أذكر بآراء غالب الأساتذة فيما أعلم، إن لم يكن جميعهم، فإني لم أعلم في مدة تدريسي التي أقبلت على الخمس والعشرين سنة مخالفا لما سأذكره.

فلتبق الحكومة أو لترحل، ولتدافع عن نفسها أول تتقاعس. وليخرج المتدربون ضدها أو يساندونها، فهذا موضوع ليس من اشتغالي ولا من همومي. فإن حكومة ذاهبة ستخلفها أخرى كما هي طبائع الأشياء وإن بنسبة صوت واحد من الفارق. هكذا هي الديمقراطية اليوم. ولكني مهموم بفكرة المرسومين وأساساتها، والتي منها:

الحقيقة الأولى: فكرة المرسومين قرار للأساتذة في المضمون. ذلك أنني في كل اللقاءات التي كنت أحضرها، وكنا نوقع على توصيات نرفعها، نحتج على التكوين بالمراكز بعدد المناصب المالية، نعرف أن لهم جميعا النجاح المسبق، والتوظيف الحتمي علينا، ليس لنا من الأمر إلا أن نساير رغبات الطلبة المكونين حتى يذهبوا على مقرات عملهم. وكنا نقول ونقترح: لا بد من أن يكون تمت رسوب بإضافة عدد معقول ومقبول عن العدد الذي قرر التوظيف. فإن كل من دخل المركز نعاني من كثير منهم، وتتدخل المقاربة الاجتماعية في الأخير لتكون إلى صالح أستاذ نحن قبل غيرنا نشهد بعدم صلاحيته للتدريس. وكنا نقول: إذا كان هناك رسوب، فلا بد أن تكون الجدية من الطرفين، من الأساتذة ومن مؤطريهم على حد سواء، ولن نعاني من العبث الذي يضعنا في بعض الطلبة الذين كان لهم الحظ في الولوج.

إن كثيرا من آراء مجلس المكونين في كل سنة دراسية تقويمية نشهد أن البعض لا يصلح لهذه المهنة، وإن كانت والحمد لله قلة قليلة، ولكننا كنا ولا زلنا نتكلم ونبدي الرأي في هذه القلة، كيف نجنب مراكز التكوين مثل هذه النماذج. وكم من اللقاءات المحلية أو الوطنية التي حضرتها، وكان الطلب من طرف الأساتذة أن يكون الرسوب بإضافة عدد معقول عن عدد المناصب المالية، حتى نتمكن من الاختيار في أريحية. ولم أر تشنجا لهذا الرأي وتعصبا له. ولكن الرأي موجود وحاضر. ولئن كنت مدعيا فيما قلته فإني أحب تصحيح هذا المطلب من زملائي المكونين.

لقد أمضيت في التعليم ما دخلته معه السنون في العقد الثالث، وفي هذه العقود الثلاثة، لم أر إجماعا على قضية أو قرار، وكنت أقول: لقد شاءت إرادة الله أن يكون الاختلاف سنة من سننه في الأرض”وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ”(هود:118). اختلاف إلهي لحكم يعيش الناس في نعيمها، ولكنهم لا ينتبهون إلى فضلها، لأن آفة الألف تنسي البشر طبيعة الحقائق الصغيرة في نظرهم، الخطيرة على عقولهم وتصرفاتهم.

الحقيقة الثانية: في كل سنة نختمها بامتحان التخرج إلا ونعض على الأنامل بسبب رسوب بعض من لم نر فيهم ولو بصيص أمل من الصلاحية لمهنة التربية والتعليم، فيقع الرسوب الذي يعني أن الوزارة التي قرر لها ثمانية آلاف منصب مثلا، قد ضاعت في العشرات منها، وإن كنت لا أملك إحصائيات الراسبين، ولكن الحقيقة أن الرسوب في كل سنة موجود. والتدريب بالصيغة القديمة لم يكن يعني انعدام الرسوب.

لا أملك إحصائيات سنوية عن الرسوب في المراكز، ولكن المؤكد والقطعي أن في كل سنة رسوب، بما يعنيه ضياع مناصب مالية على وزارة التربية الوطنية.

الحقيقة الثالثة: إن فكرة المرسومين قد عرضت علينا أواخر السنة الماضية من طرف لجنة مركزية، ثم تمت مناقشتها كما جميع القرارات والتصورات بتعدد الأنظار فيها. ولم نكن ساعتها مطلوب منا أن نتخذ القرار فيها، وإنما كان إطلاع للأساتذة المكونين على مضمونها وفحواها.

وطبيعي أن يكون الرأي والرأي المخالف، وكان أبرز الآراء التي عبر عنها بعض الأساتذة وبعض الهيئات والأطراف أن الحديث يجب أن ينصب بوضوحه حول هوية المراكز قبل أن نشغل بجزئيات من هذا القبيل أو ذاك.

الحقيقة الرابعة: إن إضراب الأساتذة المتدربين قضية تهم أطرافا ثلاثة، هي الأساتذة المكونين، الأساتذة المتدربين، الإدارة.
والمكونون جزء أساسي في المعادلة، وأنهم معنيون بما يقع، ولهم الحرية واسعة في قول آرائهم، ليس بالضرورة أن تتماهى مع إضرابات المتدربين. وليس يحق بخسهم حقهم، فهم أبناء المراكز أصالة، وهم أبناء الدار وأصحابها، ولهم النسبة الكبيرة في القرار، لأن الآخرين إنما هم مارون وعرضيون، تنتهي علاقتهم بالمراكز فور تخرجهم وتعيينهم. فلا يعتقدن أحد أن رأي الأساتذة المكونين ثانوي.

وبه وجب الإعلام أن الأساتذة المكونين يقلبون النظر في الأحداث، ويعبرون عن رأيهم في المجالس المسؤولة عن المرسومين وما ارتبط بهما، ولا تزال ـ على الأقل في المركز الذي أشتغل فيه ـ الآراء متباينة، وأن فئة معتبرة غير متفقة مع قرار الإضراب وسياقاتها وتوظيفاته، وكاتب هذه الأسطر من هذه الفئة، لمن يهمه أن أفصح عن رأيي الذي ما فتئت التعبير عنه جهرة لا خفية، مع أني أحترم كل طالب وما اختاره لنفسه، ولست ألزم أحدا من الخلائق برأي من الآراء، لا اليوم ولا غدا. لقناعتي بعد تجربة في التعليم دخلت عقدها الثالث، أن الآراء تختلط فيها التوجهات والاختيارات، بل حتى الأوضاع الاجتماعية للشخص الواحد، لها كبير الأثر في اختياره. وستبقى الحياة هكذا في كل أوقاتها تتوزع الرأي في قضاياها عوامل شتى. ومن ادعى الحياد التام، فإنه واهم، ولربما يكذب على نفسه، ويراه الآخرون بغير ما يرى به هو نفسه، أو بغي ما يريد تسويقه.

وفي آخر مجلس للمؤسسة بحر هذا الشهر تذاكرنا فيما يرتبط بأوضاع المركز، وكانت هناك آراء في غالبها لم يشذ عن الحقائق. ولربما تفصح قابلات الأيام عنها:” وإن غدا لناظره قريب”.

هذا رأيي وقولي، وسأحترم كل رأي احتد في نقاشه، ولن يجد مني من زاده في الأدب قليل إلا الإعراض عنه. فقل ما تشاء، وعبر عما تريد، وتذكر أن للآخرين مثل مالك من الحق إن كنت تؤمن بحرية الناس. فإن كنت تؤمن بتبعيتهم وأن عليهم اتباعك، فتلك قضية لا نوافقك عليها يا ولدي، ولن نقبلها منك يا بني.

وهو رأيي أهديه لمن طلب مني أن أعبر عن رأيي الصريح لا أختبئ فيه وراء كاتب هنا أو هناك. وتمسك بمطالبك يا ولدي، وبلازمتك: لا تراجع..ولا استسلام. فإني لم أطلب منك ولا من غيرك التراجع أو الاستسلام. فلا تجب على سؤال لم يطرح عليك.
وإني من جهتي متمسك برأيي، وسأتراجع عنه، أو استسلم لما هو أقوى منه حجة إذا ظهر غدا. وأخاف على نفسي أن لا تلين لحق غدا إن ذهبت في باطل اليوم، رائدي في ذلك قول من أحبه حبا كبيرا، عاشق العدل والحرية، الذي تلهج البشرية بحكمته: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا. وهو القائل فيما صح عنه: ولا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس، فراجعت اليوم فيه عقلك، وهديت فيه لرشدك، أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل.

ـــــــــــ

د. أحمد كافي / أستاذ التعليم العالي بالمركز الجهوي للدار البيضاء