وجهة نظر

اختناق حزب الأصالة والمعاصرة (الجزء 3)

حينما تحرك المجتمع إثر تحرك الشارع العربي، وقعت خلخلة سياسية داخل حزب الأصالة والمعاصرة وكان ضروريا أن يكون الانعراج السياسي ومعه الفكري (الاديولوجي)، ولكن هل استطاع قياديوه أن يعطوا لهذا الانعراج زمنه الافتراضي ليتحول إلى دافع يؤكد شرعيته؟ فحينما اشتد الهجوم توارى البعض، وبقي الحزب من خلال آخرين يقاوم ليس فقط أعدائه الخارجيين ولكن مقاومة غموض طبيعة اختيارات مكوناته الداخلية، وأصبح الجميع أمام حزب قديم جديد، حزب قديم لأنه فشل في أن يجعل الماضي حاضرا في الحاضر، وحزب جديد فشل في المجيء بالماضي إلى الحاضر، وهذه الضبابية جعلته يميل إلى الدخول في المعارك لتغييبه للإيديولوجية لفائدة السياسي، وكأن دوره مختزل في الدفاع عن الاستقرار، عن الدولة وعن النظام، وهذه ليست مهمته لوحده حتى يحاول الانفراد بها أو في بعض الأحيان فقط ليتباهى بها، بل هي مهمة جميع الأحزاب ما دامت أنها قبلت الاشتغال في ظل الثوابت الوطنية، مما أثار حنق الآخرين وصعد من عداوتهم لكونهم يعتبرون هذا الدور ضمن شرعيتهم التاريخية حتى قبل وجود هذا الحزب ومن تم لا يجوز لهذا الحزب أن يحتكر وحده هذه المهمة، ثم من قال إن النظام يحتاج إلى جيش آخر، أو حتى إلى طابور خامس، هل كان يجب على هذا الحزب أن يتواضع وأن يقوم بدوره الذي يلائم طبيعة مبررات وجوده الأولى والكامنة في جذب المثقفين إلى السياسة والعازفين إلى صناديق الاقتراع؟ ودون أن نشعر ولأن من شروط الأصالة الإتباع (أو كما قال أحدهم إتباع المنحى يفضل الخطابة عن الكتابة) تمادينا في الخطاب وأحجمنا عن الكتابة، نتج عنه إحجام عن التفكير، لكون الآخر الرافض لهذا الحزب أصبح محوريا في حركية هذا الحزب، يدعي شعار الأصالة منفردا له وحده، وينازع حزب الأصالة والمعاصرة لينتهي إلى إلغاء شرعية هذا الحزب، فالملك أمير المؤمنين، والإسلام مرجعية الحزب الآخر، لكنهم تغافلوا على أن هذا الحزب رغم مرجعيته الإسلامية لا يضم كل المؤمنين الذين يجعلون الأمير أميرهم لوحدهم، فكل المغاربة مؤمنون وليس كلهم أعضاء في الحزب الآخر، ومن المغاربة من هم في الأصالة والمعاصرة وأمير المؤمنين أميرهم كلهم وليس فقط أميرا لمؤمني الحزب الآخر، لذلك كان حزب الأصالة يقاوم هذا المنطق الاحتكاري، فالأصالة مرتبطة بطبيعة ثقافتنا الوطنية المبنية على التنوع الثقافي والسياسي، وهذا التنوع يتمأسس على وحدة الثوابت، أما العلاقة مع الدين فكثيرة الإفرازات، تارة تتشدد وتارة تتمدد، في كثير من الأحيان يعلو على السلطة (لن أحرم ما أحل الله ولن أحل ما حرم الله) أو يضغط على السلطة من الأسفل (المساواة في الإرث وحقوق القوارير)، فالملك أمير المؤمنين أي مرتبط بالدين، والسياسة من شؤون دنيانا أو كما قال الغزالي (لا يستمر الدين إلا بالدنيا، والملك والدين توأمان، فالدين أصل والسلطان حارس، ومن لا أصل له فمهدوم، ومن لا حارس له فضائع)، مما يجعل الدين مرتبط بالسياسة وتجسدها إمارة المؤمنين.

لذلك كان الآخر يحاول أن يهيمن على مفهوم الأصالة بكل مكوناتها من خلال مفهوم صنعه لها كأنه يخلق الأصنام ويعبدها، غير أنه لا يدعي أنه يوظف الدين في السياسية، ولكن الدين محور لغته وأساس خطابه وأسهل الطرق اللغوية للوصول إلى قلوب الناخبين، بل يجازف في بعض الأحيان إلى حد الارتطام بشرعية النظام الدينية فتبنى خطابا مزدوجا، قيادييه مدافعين أشاوس على النظام وقواعده يعتبرون أن شرعيتهم في الدين محتكرة لهم، وكانت تكفي هذه الازدواجية ليكونوا في السلطة والمعارضة ليسيروا الشأن العام ولا يتحملون مسؤوليته، خطاب الشيوعيين نفسه يرتكبون الفظائع ويحملون المسؤولية للبروليتاريا النبيلة؟ أليست هي الطبقة المنتجة بحق؟ أليسوا هم الأقرب إلى الله من الشعب كله وكأنهم حزب الله المختار؟ فوجد حزب الأصالة نفسه أمام خطاب ينازعه في الدفاع على الملكية، فاستعمل ضدهم اتهام التقية، غير أنه حكم لسوء الحظ لا يمكن أن يصدر إلا عن محاكم التفتيش التي تراقب الضمائر.

وحين كان حزب الأصالة والمعاصرة يتهم من الطرف الآخر بتهمة الخروج عن الدين، كان حزب الأصالة يتهم الحزب الآخر بالسعي إلى إرجاع الخلافة، أي بإرجاع الأصالة في تقليدانيتها المفرطة المتجاوزة، فيحتمي الحزب بمعاصرته في الدفاع عن الدين فهي أسهل السبل لإخراج الدين من السياسة أو على الأقل لتلطيف دوره داخل السياسة، لكون السياسة كلام البشر وليس عنف القدر، فالسياسة مجاملة وتنازلات، صدق إلى درجة الكذب، يتحكم فيها الحاضر ويندحر فيها الماضي، فتعجز الأصالة أمام احتياجات البشر واحتياجات المواطن، غير أن تبني الأصالة أحسن منفذ لإدخال الدين في السياسية، فالمطر ليس من أمر السياسية بل من أمر القدر، وكذلك الجفاف إذا عم فهو من أمر القدر فلا يمكن أن تعاقب على نتائجه الحكومة، وبشكل آخر حينما يتسرب الدين إلى تفاصيل السياسة، فإن العلاقة بين الحكومة والسماء تلغى فيها القوانين والدساتير والخطط الاقتصادية والبرامج المالية، فتصبح الحكومة مسؤولة أمام السماء والقدر، ولما لا متعاطفة مع أبناك دولية تمكنها من أموال الكفار لإنقاذ المؤمنين، فالحزب يحمل شعار المعاصرة، والرأي العام يتحمل باسم الأصالة سياسة الحزب الحاكم، والحزب يعارضه باسم المعاصرة، وفي آخر المطاف تذوب السياسة في هذا الخلاف ويتحكم الحزبان في المشهد السياسي، بل يلغون الآخرين، فيصبح الاثنين متبوعين والباقي تابعين وهذا مخيف.

إن الحديث عن الإيديولوجيا لحزب الأصالة والمعاصرة يجعلنا نجزم أن هناك غياب لمفهوم الإيديولوجيا بشكلها التقليدي فانسحبت لتفسح المجال للسياسة فتحولت السياسة إلى إيديولوجيا مواجهة هدفها ضرب الآخر بدعوى أنه يجر المغرب إلى الماضي، بينما حزب الأصالة والمعاصرة جاء ليجر المغرب إلى المستقبل وكلاهما صعب المنال، لأنه من حسن الحظ أن هذا الصراع لا يستطيع لوحده أن يحسم تاريخ حاضر المغرب، لذلك كان في حديثنا عن إيديولوجية الأصالة والمعاصرة أن نقحم الآخر، لكون الآخر ساهم في بناء الخطاب السياسي لحزب الأصالة دون أن يدرك أو يرغب في ذلك، بينما كان الآخر يتحمل مواجهته مع الحزب ليس لأنه حزب فقط، ولكن لأنه يعتقد أن هذا الكائن حجرة “كأداء” بينه وبين القصر، بينه وبين إمارة المؤمنين، أي بينه وبين الإمامة العظمى، وهذا ما يجعله هو نفسه يبني كثيرا من نقاشاته السياسية وتوجهاته الإيديولوجية ليس فقط عن مرجعيته الدينية ولكن عن وجود هذا الحزب وطبيعة علاقته بإمارة المؤمنين مما يبرر أننا حينما نناقش الإيديولوجيا عند حزب الأصالة والمعاصرة نناقشها في علاقة الحزب مع الآخر، وهي علاقة الصراع، والصراع يحتاج إلى فكر غير أنه تحول بين هذين الطرفين من الفكر إلى المواقف الظرفية وهذا ما ألغى الفكر، و ألغى الإديولوجيا لفائدة السياسة، لفائدة المواقف الظرفية، كأنه نقاش في نادي ثقافي وليس في الساحة السياسية.