منوعات

“فخ” الولاية الثالثة لابن كيران.. هل تجنبه حزب المصباح ؟

بعد أن هدأ الجدل الإعلامي والسياسي نسبيا حول ما راج عن إمكانية إقدام حزب العدالة والتنمية على تعديل قوانينه للسماح بولاية ثالثة للأستاذ عبد الإله ابن كيران أمينا عاما لحزب المصباح لـ”ضمان” تعيينه رئيسا للحكومة إذا تصدر الحزب نتائج الانتخابات التشريعية المقبلة، وبعد توضيحات شبه رسمية أكدت غياب مثل تلك الخطوة في أجندة المجلس الوطني للحزب نهاية هذا الأسبوع، بصفته محطة حاسمة في تلك الأجندة.

من المهم الرجوع إلى الموضوع في نقاش هادئ وناقد لتبريرات خطيرة تم الترويج لها تدفع في ذلك الاتجاه، مع العلم أن جميع الاحتمالات واردة ما لم يحسم رسميا ونهائيا في أمر اعتماد ذلك التعديل في القوانين من عدمه من طرف المجلس الوطني. وهذا ما يؤكد أهمية الرجوع إلى مناقشة الموضوع بشكل علمي هادئ، من زاوية السؤال عما إذا كان حزب المصباح قد تجب بالفعل الوقوع في “فخ الولاية الثالثة لابن كيران”؟ ومناقشة قضايا مهمة تتعلق بالتأويل الفاسد للدستور والديمقراطية الداخلية للحزب.

إن الضجة الإعلامية التي أثيرت حول الولاية الثالثة لابن كيران بناء على زعم وجود عرف يعين على أساسه الملك رؤساء الحكومات من الأمناء العامين للحزب الفائز، قد تكون مجرد صناعة إعلامية محضة، على غرار كثير من الصناعات التي شغلت الرأي العام على غير أساس من الحقيقة، لكنها أيضا قد تكون بفعل تسريبات من البعض داخل الحزب نفسه لجس النبض حول المسألة أو لتصفية حسابات ما، أو من جهة أخرى تسعى لتوريط الحزب في مثل تلك الخطوات أو للمس بصورته الديمقراطية ولو بشكل ظرفي. لا يهم في هذا المقال البحث في هذه الفرضيات، فالتاريخ كفيل بكشفها وتمحيصها.

لكن من المفيد التنبيه إلى أنه في ظل ذلك الجدل الإعلامي المشار إليه أظهر مناصرو “الولاية الثالثة” حزب العدالة والتنمية فجأة فاقدا الثقة في نفسه في علاقته بالدولة، في أمر لا يتعلق بقضية من قضايا الدولة الكبيرة والحساسة، ولا بقضية من قضايا الشعب المصيرية. وظهر توجه وسط أعضائه من مختلف المستويات، ضرب بعرض الحائط دستور المملكة، من جهة، والمبادئ الديمقراطية الأساسية التي اختارها مغرب دستور 2011 واختارها الحزب لنفسه، من جهة ثانية. وتم الترويج لتبريرات متهافتة لكنها خطيرة للغاية، تكرس صورة الحزب الضعيف والمتهافت، وغير الأمين، وغير الصادق في اختياراته الإستراتيجية، بل وتهدد الحزب بالدخول في صف الأحزاب الكرتونية التي تفصل قوانينها الأساسية والداخلية على مقاس زعمائها.

ولبيان التهديدات التي يمثلها “فخ الولاية الثالثة لابن كيران”، سنقارب الموضوع من ثلاث زوايا كبرى، وهي:

الزاوية الأولى تتعلق بالديمقراطية الداخلية في الحزب

إن تعديل قوانين الحزب للحفاظ على ولاية إضافية للأستاذ عبد الاله ابن كيرا ضربة ستصيب الديمقراطية الداخلية للحزب في مقتلها. ضربة لن تقي من أضرارها الجسيمة كل الإجراءات الشكلية والتقنية مهما كانت شفافة وعادلة. لماذا؟

أولا، مهما بلغت تبريرات المدافعين عن “الولاية الثالثة” من قوة، فإن حقيقة ما يريد البعض توريط الحزب فيه لن يكون شيئا آخر غير تفصيل قوانينه على مقاس شخص محدد هو زعيم الحزب. وهذا الإجراء يعتبر في الأدبيات الديمقراطية من الفظائع التي لا يمكن قبولها في الأحزاب الديمقراطية بالمطلق، ولا تعتمد مثله الدول الديمقراطية إلا في حل مشكل وراثة العرش في الأنظمة الملكية وحدها التي لا تخضع فيها الخلافة لآلية التنافس، وذلك لتمكين الخلف المعروف مسبقا من الشرعية الدستورية بعد وفاة الملك أو عند مرضه، وتعالج بالخصوص مسألة العمر. وتكييف القوانين في هذه الحالة يكون غالبا لرفع المانع القانوني تفاديا لشغور منصب رئاسة الدولة وليس للالتفاف على القانون في حد ذاته.

ومن المفيد في هذا السياق المقارنة مثلا بين التعديل الدستوري الذي أقره استفتاء 23 مايو 1980 بخفض سن رشد الملك من 18 إلى 16 سنة في المغرب، وبين تخفيضها لبشار الأسد في سوريا سنة 2000 مباشرة بعد وفاة والده لتمكينه من وراثة الكرسي في نظام جمهوري!

ثانيا، إن تعديل القوانين من الناحية المبدئية لجعل ثلاث ولايات للأمين العام للحزب بذل اثنتين أمر ممكن إذا تم في سياق مختلف لا يربطه بشخص محدد، و ينطلق من تقدير موضوعي وتقييم علمي لنظام الولايتين، ورؤية جديدة للديمقراطية الداخلية. لكننا لسنا في هذه النازلة أمام هذه الحالة، فالتعديل بالتمديد الذي دافع عنه البعض مطلوب فقط لشخص الأستاذ ابن كيران، للاعتبارات التي أشرنا إليها من قبل. وهي خطوة خطيرة تعني، إذا اعتمدت، التحكم المسبق في نتائج المؤتمر الوطني للحزب. وتجعل من كل العمليات الانتخابية مجرد ديكور لإضفاء الشرعية الديمقراطية على النتائج الراجحة مسبقا.

وخطورة مثل هذه الإجراءات، إذا تجاوزنا كونها تفصل القانون على مقاس شخص الزعيم، تكمن في ترشيح مسبق لشخص الزعيم، وحملة انتخابية له خارج أجندات المؤتمر وضدا على قوانينه وفلسفتها. فإذا كانت قوانين الحزب لا تسمح بالترشيح خارج مساطره المعروفة بتشددها في هذا الصدد، فإننا في حالة التعديل المذكور يكون عندنا مرشح شبه وحيد ورسمي معروف، فالتعديل لا يعني عمليا سوى ترشيح منحاز للأستاذ ابن كيران. وأكثر من هذا، فإن التعديل وما سيصاحبه من نقاش هو حملة انتخابية لشخص واحد في مخالفة فجة لفلسفة قوانين الحزب التي لا تسمح بأية دعاية انتخابية بالمطلق.

فأين تكافؤ الفرص بين الزعيم المقترح التمديد له وبين باقي منافسيه الذين ينبغي انتظار تطبيق مسطرة الحزب المعقدة أثناء المؤتمر في الترشيحات لمعرفتهم؟ وهذا يعني أنه بمنطق القانون وقوته سوف تعتبر النتائج مطعون فيها مسبقا لغياب العدل وتكافؤ الفرص بين المتنافسين، وهي من أهم المبادئ القانونية في حزب المصباح، ومن القواعد الأساسية في أية ديمقراطية حقة. وهذا فساد وفق المرجعية القانونية والأخلاقية المعروفة في حزب المصباح، مهما تفنن أصحاب التبريرات لولاية ثالثة في تزيين ذلك. إلا أن يختار الحزب أن يكون من “المتساقطين” في طريق الديمقراطية.

وخلاصة ما سبق أن “فخ الولاية الثالثة” الذي نصب إعلاميا لا يعني الوقوع فيه سوى نهاية النموذج الديمقراطي الذي ميز على الدوام الحزب ذي المرجعية الإسلامية.

الزاوية الثانية تتعلق بالتأويل الفاسد وغير الديمقراطي للدستور

أولا، الفصل 47 من الدستور واضح وبسيط، فهو ينص على أنه “يعين الملك رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها”. فالملك هو من يعين رئيس الحكومة، وهذا التعيين يتم من الحزب الذي تصدر نتائج الانتخابات التشريعية دون ربط ذلك التعيين بأي موقع تنظيمي في الحزب.

وهذا الفصل له عمق ديمقراطي مهم جدا، من شأن تكريس بعض الأعراف أن تفرغه من مضامينه. فالنص لم يشترط في الشخص الذي لرئيس الدولة وحده تعيينه أن يكون رئيس الحزب أو أمينه العام. وهذه القاعدة أولا تجعل رئاسة الحكومة خارج المناورات الداخلية للأحزاب، التي تفضي أحيانا إلى أن يتولى رئاسة الحزب أشخاص عديمي المصداقية، وعن طريق التزوير أو البلطجة أو شراء الذمم. و كل هذا موجود. ورئيس الدولة ملزم فقط بنتائج الانتخابات العامة في التعيين من داخل الحزب الفائز، ومتحرر من نتائج آليات اختيار زعماء الأحزاب التي لا تكون دائما ديمقراطية، وقد تفرز بلطجيا أو مفيوزيا أو متورطا في قضايا لا أخلاقية، أو يمثل حساسية ما للدولة وغير ذلك.

بل نجد أن الوزراء أنفسهم لا يعينون بقرار تلقائي لرئيس الحكومة بل بعد مصادقة الملك عليهم، وتشهد التجربة رفض الملك لأسماء لا تستحق الاستوزار رغم اقتراحها نتيجة آلية حزبية محضة. وحرية اختيار الملك لرئيس الحكومة، التي يستهدفها ذلك التأويل الفاسد للفصل 47 من الدستور، والمصادقة على الوزراء من طرفه، مهما انتقدت، فيها ضمانة حماية تلك المناصب من أن يتسلل إليها عبر الآليات الداخلية للأحزاب، أشخاص خطرون أو لا يستحقونها. وهذه الفلسفة المهمة هناك من يريد تحريفها بالحديث عن عرف تعيين الملك الأمناء العامين للأحزاب وليس غيرهم!

إن الحديث عن عرف اختيار الأمناء العامين لرئاسة الحكومة افتراء مفضوح، لأن الدستور الحالي أصلا لم يراكم من التطبيقات ما يسمح بالحديث عن أي عرف في ظله، إذ طبق في حالة أولى هي حزب المصباح وشخص الأستاذ عبد الإله ابن كيران. أما ما قبل هذا الدستور فحَكَمه منطق آخر مناقض للمنطق الديمقراطي ولمنطق محاربة الفساد الذي ينبغي اعتناقه بقوة في ظل دستور 2011.

وفي هذا السياق نهمس في أذن مناصري العرف المزعوم: هل اختيار ابن كيران رئيسا للحكومة كان لأنه أمين عام الحزب الفائز، أم لاعتبارات تتعلق بشخصه؟ وهل يقبل قادة حزب المصباح وأعضاؤه إشهار العرف المزعوم نفسه في حالة فوز حزب آخر على رأسه فاسد أو بلطجي أو مفيوزي؟ والتأمل في الجواب على هذين السؤالين مهم جدا.

إن محاولة البعض تقييد الفصل 47 بعرف متوهم تأويل فاسد وتحريف للنص الدستوري عن فلسفته ومقاصده الكثيرة التي لا يتسع المجال لذكرها. وخلاصة القول في هذا الصدد هي أنه من الوهم الاعتقاد بكون صفة الأمين العام للحزب تعطي ضمانة معينة دستورية وعرفية لوقوع اختيار الملك عليه، فهذا الأخير يعطيه الدستور حق الاختيار من الحزب الفائز، ومن الخطأ الفظيع محاولة نزعه منه بتأويل فاسد ومتهافت.

الزاوية الثالثة، الرسائل السلبية التي تنطوي عليها تلك الخطوة

الذين يربطون بين استمرار الأستاذ ابن كيران رئيسا للحكومة إذا تصدر حزبه نتائج الانتخابات المقبلة، وبين احتفاظه بمنصب الأمين العام للحزب، يضربون في الصفر كل تجربته في رئاسة الحكومة، وكل الحنكة السياسية التي مارسها في مهمته، وكل الكاريزما التي يتوفر عليها وأبان عنها.

بالنسبة لهؤلاء الذين توهموا وجود علاقة ميكانيكية بين المنصبين لا يقيمون وزنا للمعايير التي يعتمدها رؤساء الدول في اختيار رجالات الدولة الأكفاء، ويتوهمون أن الملك سوف يضرب صفحا عن كل التجربة الغنية التي كسبها ابن كيران والحنكة التي مارس بها مهمته، فيغامر باختيار غيره من الأشخاص تحت ضغط عرف متوهم في هذا الصدد. إن الأستاذ ابن كيران إذا لن تشفع له تجربته في رئاسة الحكومة ليختاره جلالة الملك مرة أخرى، فلا فائدة من أن تشفع له صفة الأمين العام للحزب التي سينالها بطريقة غير ديمقراطية لا تشرف رجالات كبار من عياره.

وفي الختام نقتبس من الأستاذ محمد يتيم فكرة راقية عبر عنها في تدوينة له في صفحته على “الفايسبوك” في 28 دجنبر الماضي، وكانت في سياق تعليقه على انتهاء ولايته الثانية على رأس نقابة الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب، حيث قال “كانت هناك عدة دعوات لتمديد فترة ولايتي لولاية ثالثة وكان من الممكن إيجاد التخريجة القانونية لها حيث إن هذا المقتضى تم تقريره بعد انتخابي للولاية الأولى سنة 2005 وأن القانون لا يطبق بأثر رجعي.

وقد ظللت أرفض هذا التوجه وساندني فيه الإخوان في المكتب الوطني لأننا نعتبر أنفسنا مدرسة، قد نكون مقصرين في النضال ولكننا لن نتخلى عن المصداقية لأنها الرصيد الأكبر الذي يتعين المحافظة عليه، وتلك هي الرسالة التي يتعين على الأجيال الجديدة استيعابها والعمل بمقتضاها”.

ورسالة المصداقية هذه هي التي ينبغي على أعضاء الأمانة العامة للحزب، وأعضاء المجلس الوطني والمؤتمر القادم، أن يتأملوا معانيها ويعملوا بمقتضاها، ليس فقط في نازلة الولاية الثالثة، بل في كل تعديلات قوانين الحزب ووثائقه.