وجهة نظر

عندما يتحول الإسلام إلى علامة تجارية في كتاب “إسلام السوق” لباتريك هايني

لا يخفى الطرح الجديد الذي جاء به الباحث السويسري باتريك هايني في كتابه “إسلام السوق” حيث من الممكن، أن يعتبره الإنسان المسلم، أثناء قراءته القراءة الأولى، مستفزا للشخصية الإسلامية، ولكن مع قليل من التريث ومحاولة استيعاب الواقع جيدا يمكن الخلوص إلى صوابية ولو جزء مما جاء في إسلام السوق، مما سيحول نظرتنا من الاستهجان والاستنكار إلى اعتباره جرأة في تناول الإسلام المعاصر بشكل يتجسد جزء كبير منه كحقيقة واقعة ولكن لا نريد أن نراها أو نقر بها، خصوصا في الجانب الذي يتعلق بتحويل الإسلام إلى علامة تجارية يتم تسويقه كدين مفرغ من أي مضمون، ومحاولة تكييفه بأي شكل من الأشكال مع الليبرالية الغربية من أجل تحقيق برجوازية إسلامية منافسة في السوق همها هو التأمين على النفس والحياة وتحقيق العيش الآمن والمريح.

ولكن، بعد الإقرار بحقيقة الأمر، يمكن تحويل السؤال نحو الفاعلين في هذه السوق أنفسهم، أي هل هي ظاهرة ذات علاقة بأناس من خارج الدائرة الإسلامية استغلوا بريق الإسلام فحولوه إلى علامة تجارية مغرية، أم أن أبناءه من الدعاة تماهوا مع متطلبات السوق وانجرفوا مع تيار الاستهلاك فحولوا الإسلام إلى منتج موجه إلى مستهلكين؟ أي حولوا الإسلام من العناية بإصلاح النفس إلى تكييفها مع متطلباتها؟ أو أن واقع العولمة أصبح يفرض على المسلمين الدعاة عدم نشدان الفضائل المطلقة من منطلق إسلامي ولكن عبر بيعها من خلال فاعليتها الاجتماعية؟ أو العمل على خلق موضع قدم للإسلام في واقع عالمي ليبرالي اقتصادي من خلال تكييف قيمه مع القيم الغربية كموضة الحجاب ” مسلم وير” و ” M’LINE” وتحجيب باربي وتحويلها إلى فلة آل سعود، أو تعلق الأمر بالمشروبات كمشروب “زمزم كولا” ” مكة كولا” وشعارات ” المسلم الجديد” و “مسلم بالطبيعة” و” لا تشرب كالأحمق..اشرب ملتزما”. فضلا عن تكييف مضامين التنمية البشرية الغربية مع ما هو إسلامي ” الرسول القائد” “مهارات رسول الله صلى الله عليه وسلم في التسيير”. إلى غير ذلك مما له علاقة بالمبالغ الباهضة التي يتلقاها الدعاة الجدد من خلال برامجهم الدينية في قاعات العرض البرجوازية وفنادق خمسة نجوم، أو من خلال ما يتقاضاه شيوخ السلفية من مبالغ خيالية مقابل حلقات يقدمونها في قناة الناس أو الحقيقة…

ربما ما قاله باتريك هايني قد نزيد عليه أشياء كثيرة لا يعرفها من موقع أننا مسلمون وعرب نعرف واقع الدعوة والعمل الإسلامي أكثر منه، ولكن ما لا يعرفه هايني هو أنه تمة فرقا كبيرا بين الإسلام والمسلمين، فالمسلمون قد يجيئون ويذهبون، كما قد يزيغون ويتماهون مع تيارات عالمية كثيرة، ولكن الإسلام بأسسه وقواعده ومحكماته باق إلى يوم الدين، كما أن المسلمين إذا ما تاجروا في منتوجات عالمية وحولوا من الحجاب ماركة مسجلة أو من الأنشودة نغما يدر دخلا وفيرا أو من المشروبات ما يدل على طمس الهوية أو الإمعية المقيتة، فإن الإسلام لا يمنع من ذلك لأن الله تعالى أحل البيع والتجارة ولكن جعل لهما ضوابط، والفقه الإسلامي على شساعة أبوابه، وكثرة قواعده، لم يجعل الأمور تسير حسب الأهواء وما تشتهيه الأنفس، وقد سمعت من قبل الشيخ محمد الغزالي يدعو إلى عقد معارض للحجاب الإسلامي، وكذا فعل الدكتور محسن عبد الحميد، ولكن تبقى الكلمة الفصل للفقه الإسلامي وفتاوى العلماء عن أي حجاب نتحدث، أو ما هي المعايير التي تجعل الحجاب حجابا شرعيا، أما أن تكون لمنتوج من الأقمشة المستهلكة أنثويا إسلاميا ماركة مسجلة فالكلمة في ذلك لعلماء الأمة، ولا أعتقد أن في الأمر بأسا ما دامت تحقق مصلحة ولم تعارض نصا.

ثم إن تعاطي التجارة من طرف المسلمين، وهذا لم يذكره السيد هايني، هو الذي أدخل الإسلام إلى العديد من أقطار العالم، أي أن المطلوب من المسلمين ألا يكونوا عالة على غيرهم أو فقراء يستجدون، ما دامت تجارتهم وفق الضوابط الشرعية وتمارس بصدق، أو أن لا تكون هذه التجارة على حساب أوقات مستقطعة للصلاة وصلة الرحم وأداء حق الله في الأموال.

وإذا كان البعض يرى أن في التعديلات التي طرأت على معاملات المسلمين مع العالم هي سبة في حقهم، أو نوع من الاندياح والانسياح مع تيار عالمي قوي، فأظن أن الأمر كان كذلك عبر جميع القرون لأن الإنسان لا يمكن فصله عن بيئته، ولكن لابد من تحديد نوع التفاعل هذا؟ فإذا كان التفاعل يقصد به طريقة تعامل المسلمين مع العالم والمتغيرات فهذا من صلب الشرع والفقه الإسلامي الذي يتجدد باستمرار، فلا يعقل أن نسمى متمسكين بأصولنا وبهويتنا إلا إذا بقينا نركب الجمال وحافظنا على الشرب في الأقداح، والجلوس على الأرض، والاستنجاء بالحجارة؟ وأعتقد أننا لو استمرينا على نفس مناسك الحج في القرون الأولى بما فيها طريقة ذبح الأضاحي كي تتراكم الجثث وتنتشر الروائح وينتشر الطاعون لسخر العالم منا.

ثم إن باتريك هايني نفسه يقر بأن مشروب مكة كولا، الذي يعود للتونسي توفيق المثلوثي، لم يكتف بالنجاح والانتشار الكاسح في فرنسا وانجلترا وألمانيا فحسب، بل إن صاحبه قد خصص 10 في المائة من إيراداته على الأعمال الخيرية، و10 في المائة لأطفال فلسطين، ويقر هايني أن هذا المنتوج جاء دعما لمقاطعة المنتوجات الأمريكية خلال الحرب على العراق سنة 2003، إذن فهو منتوج بروح تعزز القيم كقيمة دعم الفقراء والمحتاجين، وتعزز الهوية وتدعو للتمسك بالحق في صد العدوان، ودعما للقضية الفلسطينية التي تشكل عرض المسلمين وشرفهم، ولهذه الأسباب اكتفى هايني بالحديث عن هذه الروح لمشروب مكة كولا في الهامش ولم يجعلها جزءا من سردية موضوعاتية تحضى بالتحليل وتنال حضها بأن تكون ضمن نسق يكذب ما جاء قبله.

أما عن استيراد الاسم واشتقاقه من “شركة كوكا كولا، فأظن أن الهدف من خلاله بين وواضح وإلا لم يحقق نتائج الحرب على المنتوج الأصلي، وقد رأيت الناس في بلدي عندما دخل هذا المشروب إلى المغرب وبالضبط هنا في مدينة وجدة كيف أن الناس تسابقوا وتنافسوا في اقتناء هذا المشروب الإسلامي والتخلي عن مشروب أقل ما يقال عنه أنه يقتل أطفال فلسطين بإيراداته ومداخله. وأما عن موقف الإسلام من التسمية فأظن أنه في مرحلة من المراحل تم بناء مساجد بحجارة الكنائس، دون أن يعني ذلك أن المسلمين هم من دمروا هذه الكنائس، لأن هدم الكنائس منهي عنه شرعا.

أما عن تحويل مضامين التنمية البشرية إلى ما هو إسلامي وإسقاطها على أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعتقد أن الأمر ذو علاقة بالمصطلحات ليس إلا، فربما مصطلح الإدارة لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الدواوين قد أحدثت في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأن مصطلح التنمية البشرية لم يكن متداولا بهكذا اسم، وإلا فماذا نسمي بناء الإنسان وتشييد العمران ودعم الفن والحث على إتقان العمل والحديث عن الكيس وذي اللب إلا تنمية، وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم قوله: ” لا عقل كالتدبير”، فروح التسيير والإدارة وحسن التنظيم كانت جزءا لا يتجزأ من الإسلام ككل، والأمر يشبه الحديث عن حقوق الإنسان العالمي الذي يقابله في الإسلام حقوق العباد، وهل هذا معناه ألا وجود لحقوق الإنسان في الإسلام؟ بل بالعكس تماما لأن الإسلام اهتم بالإنسان حتى قبل ولادته فحرم الإجهاض أي منحه الحق في الوجود، وحقوقه مستمرة حتى بعد مماته (من بعد وصية يوصي بها أو دين).

ثم إن الأمر عندما يتعلق بالعلوم فلا يمكن أن تنسب لطرف دون آخر لأن العلم كما يقول الدكتور محسن عبد الحميد ليس كافرا، ولا جنسية له وإلا كنا أول من يمن على الغرب بالعلم لأننا سباقون إليه مع العلم أن أحدث الحضارات في هذا الوجود هي الحضارة الأمريكية والتي لا تاريخ لها سوى الإبادات الجماعية والاستيلاء على أراضي الغير.
وعلى كل حال، يبقى كتاب “إسلام السوق” كتابا جديرا بالقراءة والتأمل ويستحق المزيد من المناقشة والحوار.