منتدى العمق

الجن لايسكن الأبدان.. وهكذا أرى علاقته بالإنسان(5)

هل يقبل العقل والمنطق أن يسكن الجني جسد الإنسان وينطق على لسانه؟
ناقشت من خلال المقالات السابقة ضمن هذه السلسلة الأدلة القرآنية والأدلة الحديثية التي يظن البعض أنها تثبت ظاهرة تلبس الجني بجسد الإنسان وخلصت في النهاية إلى أنه لا يوجد في القرآن ولا في السنة نص صحيح السند واضح الدلالة يثبت أن الجن قد يتلبس بجسد الإنسان. في المقالة الأخيرة والتي كانت الرابعة ضمن هذه السلسلة، وقفت عند بعض الحالات التي عايشتها شخصيا أو عايشها من أثق بهم من الأصدقاء والمعارف. هاته الحالات ومثيلاتها مما يظن الكثيرون أنها مسّ من الجن، تبين بعد التحليل والتمحيص والمناقشة أنها ليست حالات مسّ وإنما وراءها أسباب محتملة أخرى، ذكرتها ضمن نفس المقالة. والنتيجية التي وصلت وحاولت أن أوصل القارئ الكريم معي إليها من خلال ما سبق من مقالات، هي أنه لا يوجد ضمن هذه التجارب والوقائع ولا يوجد كذلك ضمن القرآن والسنة ما يثبت إثباتا قطعيا أن الجن قد يسكن جسد الإنسان ويتلبس به كما هو شائع بين غالبية المسلمين.

بعدمناقشةالأدلةالقرآنيةوالأدلةالحديثيةثمالوقوفعندالتجاربوالوقائعالتييظنالبعضأنهاتثبتظاهرةتلبسالجنيبجسدالإنسانوبعد الوصول إلى نتيجة أنه لا يوجد في كل ما سبق دليل واحد يثبت ظاهرة المس إثباتا قطعيا، سأعرض المسألة من خلال هذه المقالة الخامسة ضمن هذه السلسلة كذلكعلىصريحالعقلوقوةالمنطق، لنرى إن كان العقل والمنطق يقبلان فعلا أن يسكن الجني جسد الإنسان ويتلبس به وينطق على لسانه كما في تصور الكثيرين لظاهرة المسّ.

أقول: إذا كانت الأدلة الشرعية والتجارب والوقائع لا تثبت ظاهرة المس كما تبين من خلال المقالات السابقة، فإن العقل والمنطق أيضا، لا يقبلان أن يسكن الجني جسد الإنسانأو ينطق على لسانه وذلك لللأسباب التالية:

أولا: لقد خلق الله الإنسان وكلفه تكاليف، لكن هذه التكاليف كلها تبقى ضمن دائرة المستطاع الذي تتحمله طاقة الإنسان. قد تصعب وتشق هذه التكاليف على النفس ليميز الله الصادقين من الكاذبين والمؤمنين من المنافقين والصابرين من الجازعين، لكن هذه التكاليف مهما شقت فإنها تبقى في دائرة الممكن والمستطاع. هذا ما تؤكده نصوص القرآن والسنة وهذا ما يستقيم مع طبيعة الإسلام السمحة. يقول الله تعلى: ( لَايُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَاتُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ) البقرة:286. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه” راه أحمد والطبراني وغيرهما. ومن المعلوم كذلك أن كيد الشيطان للإنسان لا يعدو الوسوسة وتزيين الحرام، لذلك وصف الله كيد الشيطان بقوله تعالى: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) النساء:76. وقد أخبر الله تعلى أن الشيطان سيتبرأ ممّن اتبعه وسيقول لهم يوم القيامة : (..إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم) إبراهيم:22. والمؤمن مطالب بمقاومة كيد الشيطان وعدم الاستجابة له. وقد رزقه الله من الوسائل ما يستطيع به النجاح في مهمته هاته. هذه هي العلاقة الطبيعية للشيطان بالإنسان. أما أن يسكن الجني جسد الإنسان ويتحكم فيه فذلك يعني أن للشيطان قهرا وسلطانا على فعل الإنسان. وحاشا لله أن يمكّن الشيطان من تصرفات الإنسان وسلوكه بهذا الشكل ثم يطلب منه مقاومته ويحاسبه إن فشل في ذلك.

إن الذين يؤمنون بالمس الذي يعني تلبس الجني بجسد الإنسان، يؤمنون بأن الجني المتلبس بالإنسان يتحكم في جسده وفي تصرفاته وأفعاله! وهذا يطرح إشكالا شرعيا وقانونيا كبيرا. هذا الإشكال يتمثل في السؤال التالي: هل الإنسان المسكون بالجن (على الشكل الذي يتصوره المؤمنون بظاهرة المس) مسؤول عن تصرفاته أم لا؟

إن قلنا إنه مسؤول وسيحاسب عليها، فهذا ليس من العدل الذي هو من أعظم القيم في الإسلام. إذ كيف نحاسب شخصا ونحن نعتقد أنه مغلوب على أمره؟ وقد أعفى الله المكره وفاقد العقل والصبي والنائم من المحاسبة، فكيف نحاسب المسكون بالجن مادام مغلوبا على أمره. إن الذي يجب أن يحاسب في الحقيقة هو الجني الذي يسكنه ويتحكم في جسده وتصرفاته وليس المسكون المسكين.

وإن قلنا بأن الذي به مس من الجن ليس مسؤلا عن تصرفاته وبالتالي لا تجب محاسبته، فمعنى ذلك أن المصابين بالمس مرفوع عنهم القلم! وهذا لم يثبت به نص شرعي. القلم مرفوع عن المجنون،والمجنون المراد به من فقد عقله. أما الذي به مس الجن (المزعزم)، فليس في الإسلام دليل على رفع القلم عنه. وإذا فتح هذا الباب فعلى العدالة السلام، إذ سيصبح حينها بمقدور كل إنسان أن يفعل ما يشاء، قد يقتل وقد يسرق ويخون ثم يقول: فعلت ذلك تحت تأثير المس. وسنكون ملزمين لتحقيق العدالة، بإجراء الرقية الشرعية وإحضار راق مع كل متهم قبل استنطاقه وقبل الحكم عليه، لاحتمال إصابته بالمس. وقد سمعت عبر وسائل الإعلام قبل سنوات خلت قصة من هذا القبيل حدثت في المملكة العربية السعودية، حيث حضر إلى المحكمة قاض كان قد اتهم بالفساد المالي فادعى أن كل ما قام به من جرائم كان تحت تأثير السحر. ولما عرض القاضي الفاسد على الراقي ورقاه، نطق الجني على لسانه وأكد فعلا أن القاضي “المسكين” مسحور حسب شهادة وتصريحات الراقي!(*).قد يبدو الخبر غريبا ومضحكا وقد يكون مدعاة للسخرية والاستهزاء من قبل البعض، لكن على الذين يؤمنون بظاهرة المس أن يدافعوا عن مضمون هذا الخبر لأنه لا يتعارض إطلاقا مع تصورهم لعلاقة الجن بالإنسان. فما دام الجن قادرا على السيطرة على جسد الإنسان

وفكره وسلوكه كما يتصورون، فلماذا لا يكون هو السبب وراء انحرافه وفساده إذا؟
من خلال ما سبق، يتبين أن الاعتقاد بأن الجن يمكن أن يسكن جسد الإنسان ويسيطر على فكره وتصرفاته، اعتقاد يترتب عليه إشكال عقلي ومنطقي، إذ لا يتماشي هذا الاعتقاد مع كمال العدالة الإلهية ولا مع رحمة الله سبحانه وتعالى بالإنسان حيث لم يكلفه ما لا طاقة له به ولا يتماشى كذلك مع سماحة الإسلام. هذا الاعتقاد أيضا،عقبة أمام تحقيق العدالة الإنسانية بين الناس في الدنيا بالإضافة إلى كونه مناف لحرية الإرادة والاختيار التي خص الله بها هذا الإنسان وسيحاسبه على أساسها باعتباره حرا مختارا مسؤولا عن تصرفاته وأفعاله، إلا في الحالات المستثناة والتي رفع فيها عنه القلم كما سبقت الإشارة إلى ذلك من قبل.
ثانيا: يزعم المؤمنون بظاهرة المس أن الجن يسكن جسد الإنسان ويتحكم في أعضائه بالشكل الذي يريد. إذ يصبح جسد الإنسان عين الجني التي يبصر بها وأذنه التي يسمع بها ويده التي يبطش بهاورجله التي يمشي بها ولسانه الذي ينطق به…ومعنى ذلك أن الجني يتحكم في جسد الإنسان بشكل تام. وهذا أمر لا يقبله العقل أبدا. إن جسم الإنسان يشتغل بشكل معقد جدا يجهله حتى الإنسان نفسه. ومما أصبح معروفا بين الناس عن طريق الطب أن الدماغ هو الذي يتحكم في حركات أعضاء الجسم. وليس الدماغ كله بل هناك مناطق خاصة دقيقة هي التي تعطي الأوامر لباقي الأعضاء بالحركة. فحينما نقول إن الجني يتحكم في حركات أعضاء الجسم فيحرك العضلات والمفاصل والأطراف وكل شيء في الجسم كما يريد، معنى ذلك أن الجني متحكم في قمرة قيادة الإنسان التي هي دماغه ويعرف بالضبط كل تفاصيل هذا الدماغ وكيف يشتغل! وهذا أمر يصعب قبوله عقلا. إذ لو كان الجن بهذه القدرة وبهذا العلم لسهلت عليهم غواية الإنسان وتطويعه كما يريدون. كيف لا، وهم يعرفون أدق التفاصيل عن جسمه بل وعن الدماغ الذي يتحكم في الجسم كله؟ ثم، هل يعقل أن يعطي الله الجن والشياطين كل هذه القدرة والغلبة على الإنسان ثم يأمرنا بمجاهدتهم؟ لا شك أن جهاد الإنسان ضد الشيطان حينها سيكون جهادا مآله الخسران ما دام الشيطان قادرا على السيطرة على دماغ الإنسان والتحكم فيه. فهل يقبل العقل هذا التصور لعلاقة الجن بالإنسان؟

ولتوضيح الصورة أكثر أسوق المثال التالي: إن نطق الإنسان بأي كلمة أو جملة يتم عبر عملية معقدة جدا. حيث يتم استحضار المعاني أولا في الدماغ ثم البحث عن الكلمات التي تحوي تلك المعاني ثم الحروف التي تتشكل منها تلك الكلمات. وبعد هذا كله يتم إخراج كل حرف من الحروف المكونة للكلمة المراد النطق بها من مخرج خاص معين، حيث من الحروف ما يخرج من الجوف ومنها ما يخرج من الحلق ومنها ما يخرج من بين الشفتين..هذه العملية يتدرب عليها الإنسان لسنوات بعد ولادته ولا يستطيع أن ينطق بالكلمات نطقا سليما إلا بعد سنتين على الأقل من ولادته. أما تركيب الجمل والاسترسال في الحديث بشكل سلس ومترابط، فلا يتم إلا بعد سنوات من الولادة. فكيف يستطيع هذا الجني المزعوم أن يسكن جسد الإنسان فينطق على لسانه بهذه السرعة؟ بسرعة البرق، عرف الجني كيف يشتغل دماغ الإنسان وكيف يوظف لسانه ومن أين تخرج الحروف وعرف كذلك بنفس السرعة كيف يجعل الإنسان يضحك ويبكي ويعبر بتقاسيم وجههعن أحاسيسه وعرفه عنه غيرها من الأمور التي لازال الإنسان نفسه يجهل حقيقتها وكيف تحدث. أي عقل يقبل هذا؟

ثالثا: يزعم المؤمنون بالمس كذلك أن قراءة القرآن تؤذي الجني المتلبس بجسد الإنسان بل قد تحرقه كما هو شائع في “عالم الرقية والصرع”،أي أن قراءة القرآن تحرق الجان! وهذا أمر يستبعده العقل والمنطق وتعوزه الأدلة الشرعية. فمن المعروف أن الجن كالإنسان مخاطبون بالقرآن ومكلفون بتكاليف الدين، حسب تكوينهم وطبيعتهم التي خلقهم الله عليها والتي لا يعلم حقيقتها غيره سبحانه وتعالى. ومن الجن مؤمنون ومنهم غير ذلك. وقد أخبرنا الله تعالى عن سماع بعضهم القرآن وإيمانهم به، بل ودعوتهم أقوامهم إلى الإيمان به. قال تعالى: (وَإِذْصَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا ۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) الأحقاف:29-30-31. فالقرآن إذا،كتاب دعوة للجن، هو هداية لمؤمنهم وحجة على كافرهم. ومادام الجن مخاطبين بدعوة القرآن مطالبين بالإيمان به، فلا بد أن تزول في حقهم عوامل الإكراه و تتوفر لديهم الظروف الملائمة لحرية الاختيار والقبول أوالرفض. وحينما نتصور أن سماع القرآن يعذب الجن ويحرقهم بل وقد يقتلهم! فإن ذلك يتعارض مع وظيفة القرآن الدعوية للإنس والجن على حد سواء.وسيصبح القرآن بهذا المفهوم، كتاب إرغام وإكراه لا كتاب دعوة وبرهان. بل إن الاعتقاد بأن سماع القرآن يؤذي الجن ويحرقهم…يتناقض تماما مع ما يجب أن يتوفر في كتاب الدعوة والهداية (الذي هو القرآن) من أوصاف التحبيب والتقريب والترغيب ليلقى القبول في آذان السامعين وقلوبهم من المخاطبين به سواء كانوا من الجن أو من الإنس. فالقرآن نزل لهداية الجن وليس لحرقهم!

إن الذي يظن أنه يعظم القرآن ويعلي من شأنه عندما يعتقد فيه حرق الجن وتعذيبهم واهم ومخطيء جدا. فالذين يدّعون حرق الجن وصرعهم وإخراجهم من الأجساد، لا يفعلون ذلك بالقرآن فقط. منهم من يدعي صرع الجن وحرقه بالقرآن كما سبق فعلا، لكن منهم من يفعل ذلك بالبخور وبالدخان وحتى بالموسيقى والأنغام! كنغمات (كناوة وعيساوة) مثلا عندنا في المغرب. فهناك أشخاص يدّعون هم أنفسهم أو يدّعي البعض أنهم مصابون بالمس، كلما سمعوا الهجهوج والسنتير والطبل والبندير صرعوا وربما سقطوا أرضا وأغمي عليهم. بل إن من أتباع الديانات الأخرى غير الإسلام من يدعي طرد الجن وإخراجهم بالصليب! والغريب أن ردات فعل المرضى الذين يظن بهم المسّ تتشابه وربما تتطابق، سواء تمت رقيتهم بالقرآن أو بالأنغام أو بالصليب! صياح وعويل واضطراب وتخبط ونطق للجن على لسان المريض…فهل يعني هذا أن هذه الوسائل الأخرى المستعملة والمجربة في علاج المس أيضا معظمة وعالية القدر لأنها تحرق وتقهر الجن وتطردهم كما القرآن؟ لكم واسع النظر.

ولأنني ختمت المقالة بالحديث عن القرآن وعلاقته بالجن، فساحاول إن شاء الله من خلال المقالة القادمة الوقوف بالتفصيل عند ظاهرة ما يسمى بالعلاج بالقرآن والرقية الشرعية، لنرى إن كان هذا المنتشر بين الناس فعلا رقية شرعية أم هو دجل واستحمار للناس باسم الدين؟. أستودعكم الله إلى ذلكم الحين.
(*) الخبر تم نشره على موقع قناة العربية ويمكن الرجوع إليه على الرابط التالي:
http://www.alarabiya.net/articles/2010/10/25/123560.html

[email protected]
https://www.facebook.com/charif.slimani.9