وجهة نظر

النسق السياسي وثنائية الإقالة والتعيين

نحن في حالة إصغاء للواقع السياسي المغربي، وهو يئن بفعل ضربات قوية تحت الحزام، أكثرمن خمسة شهور بلا مؤسسة تنفيذية، ومؤسسته التشريعية في حالة عطلة إلى أجل غير مسمى، فوضى وعربدة لا تقاس بميزان العقل ولا القيم أو الأخلاق، تأتي بعد كرنفال انتخابي فريد، لا يعبأ بحجم العازفين ولا المقاطعين ولا الأصوات الملغاة، المهم هو صناعة الديكور، وترميم الواجهات المتآكلة، وصناعة الصورة المختزلة والمحجمة لوجودنا السياسي، وترويجها خارجيا بعد طلاءها بكل ألوان قوس قزح الزاهية، لتحسين المكانة التي أصبحت تقرعها مطرقة التقارير الدولية كل سنة!.. وبعد كل هذا الانتطار ندخل في ذهاليز البلوكاج الممنوح والإقالة الممنوحة والتعيين الجديد الممنوح، ولا زال الغموض يكتنف المشهد، ولا أحد يعرف كيف سينتهي هذا المشهد، وحده كاتب السيناريو يحتكر المعلومة!..

نرابط على مساحات الظل فيه، بدون أن نغامر في اقتحام أحداثه، لأن ثنائية المركز والهامش هي التي تؤطره، والمركز لا يزال مرابطا عند بوابات معبده السياسي، يحمي أوثانه، ويعيد صياغة بنياته بشكل محكم، بعدما اهتزت أو تكاد في زمن حراك أعقبته فصول شتاء طويلة ، ومنذ انسحب الهامش من الميادين والساحات، خرج يجتر خيباته ويحمل ثقل هزائمه، ويخضع لعملية تخصية وتدجين “تعيد إنتاج الإنتاج”، بأشكال “العنف المادي والرمزي” الذي يحتكر رأسماله المركز، صارت البلاهة السياسية تملأ حياتنا صخبا وضجيجا، ولم تترك لنا مساحات للصمت حتى نصغي لموسيقى الوجود، ونكتشف ذواتنا من جديد.

الممنوح يستأثر بكل مساحات الركح السياسي، لا يسمح بهامش المبادرة، ولا يبيح لك أن تمارس وظيفتك الاقتراحية كفاعل سياسي، يريدك أن تتلقى الإشارات الإيجابية منه وتنفذها حسب أجنذته ولصالحه، ولذلك تأتي الإقالة ممنوحة يتلقاها المقال، مهما كان حجمه السياسي، عبر البلاغات والقصاصات الصحفية، وتأتي التعيينات ممنوحة يتلقاها المتعينون بلا مشاورات او ترتيبات، في إطار هامش ديمقراطي، فضرورات الممنوح تبيح محضورات الديمقراطية.

اليوم بنكيران ينسحب في عتمة الليل بلا أضواء، بعدما قضى نحبه السياسي ونفذت بطاريته، ومرر كل ما من شانه ان يعيد المغاربة إلى العصور البدائية الحجرية، هكذا هي الأعراف المخزنية تعمل حسب تقاليد معلومة، سيناريوهات معدة في شكل أفكار نافذة، وقواليب جاهزة، وفي كل مرة يأتي من يشخصها، تختلف الوجوه وطعم الحياة السياسية واحدا، أمر من الحنظل، وأنتن من الجيف، لا فرق بين اليوسفي وبنكيران أو فلان أوعلان أو “بنعرفة جديد” إنهم أقنعة لوجه واحد، وممثل واحد، دوره حسب مؤلف ومخرج السناريو إعادة تعميم ونشر البلاهة السياسية، بعدما يكون المجتمع استفاق من رقدته الطويلة، وقرر أن يخرج من النفق المظلم، الذي جعله محكوم بغريزة حيوانية مشدودة إلى “خديعة الاستقرار”، وعازف عن استخدام قواه العاقلة، لأنها لا تجلب له سوى الفوضى ودمار النفق المظلم عليه، وبعدما يكون النائم بدأ ينفض عن كاهله غفوة النوم، وتنقشع عنه غيوم التبلد الحسي، وتغزو عقله أحلام الشغب العادل، وحب المغامرة شرط التحولات الكبرى في التاريخ، يأتيه من حيث لا يحتسب محترف سياسي قدف به قدر السياسة المحتوم، ليسرق أحلامه ويعيده إلى حظيرة غريزته الحيوانية مدجنا منبطحا مسحوقا تائها في دروب البلاهة والغباء.

“ثنائية المركز والهامش” هي التي تطبع منظومتنا السياسية، وتوصم نسقنا السياسي، وتمارس شغبها على عالم الأشياء والرموز، لتجعل العقل الجمعي معتقل في ما يسمى ب”أسطورة الإطار”، غير قادر على التفكير خارج الدائرة.. أحادية المعنى السياسي تحتكر مجال التسويق والتصدير، وتملأ خزان المداخل، وتحاصر فوهة المخارج، ويرتج الهامش منكوسا داخل دوامة تحكم عليه بلعنة “العود الأبدي”.

بنية نسق الهامش تعمل بلا فواعل، تتحكم فيها العادة والأعراف وقاموس الأفكار المعلبة الجاهزة، إذا فكرت أو همست بكلمة أو صدرت منك حركة تغاير أو تساءل أو تنابذ السائد، قرعت أجراس اللاشعور السياسي في داخلك ومن حولك تحذرك من سوء صنيعك، وتعيدك إلى القطيع.

أما بنية المركز فهي أحادية هرمية ومتسلسلة من فوق لتحت، تحتكر العقيدة والقبيلة والغنيمة، فهي الناطق الرسمي باسم ما يفكر فيه الناس ويعتقدونه، وهي المهندس للرأسمال البشري وصانعة طبقاته الاجتماعية وأعيانه القبلية، وهي المستحوذ على ثرواته ومذخراته الإقتصادية، ولها سلطات فوق دستورية، وحصانة دائمة تحميها من المساءلة.

مسرح العبث السياسي هو الفن الوحيد الذي نثقن تشخيصه مركزا وهامشا، أبطاله ينتحرون قبل ان يصلوا إلى خط الوصول، ويرحلون إلى مقابر التاريخ بدون قصيدة رثاء.