وجهة نظر

مناورات مع بنكيران ومشاورات مع العثماني

كانت كل التوقعات تسير في اتجاه تشكيل بنكيران لحكومته الثانية بعد عودة الملك محمد السادس من جولته الافريقية،وكانت حتى أسوأ القراءات تقول بأن الهدف من هذا “البلوكاج” هو قرص أذن أقوى زعيم حزب في البلد، حتى يتعلم أن الدستور ليس جسدا فقط،بل وروحا أيضا.

بدا الحدث في البداية وكأنه مزحة، قبل أن تصغر أمامه كل النقاشات وتذوب في حضرته كلا الاختلافات. عاد بنكيران ليلة الأربعاء من الدار البيضاء وهو يحمل في جيبه ورقة ضمنها كرونولوجيا مسار تشكيل الحكومة، دون أن يستطيع لقاء الجالس على العرش.

عاد مصدوما كما قال هو نفسه، ليصدم معه كل المعتقدين بأن زمن الدسائس والمؤامرات قد دفن مع سلاطين ألف ليلة وليلة.

الأمرلا يحتاج تحليلا عميقا. كل ما هناك أن الدولة الموازية لن تتحمل لخمس سنوات أخرى رئيس حكومة يحمل معه “جنته في صدره”، رئيس حكومة يزاوج بين حبه الصوفي للملك وجرأته في انتقاد محيطه بلغة “إياك أعني”.ولذلك فالتوجه كان هو ازاحة هذه الصخرة، التي تحطمت عليها مصالح الكثيرين، أيا كانت الوسيلة ومهما كلف الثمن. ولأن الجبناء يهربون دائما من المواجهة، كان أقصر الطرق لرأس بنكيران هو الوقيعة بينه وبين الملك.

لم يكن الأمر يتطلب أكثر من تأسيس جريدة هنا أو إرشاء رئيس تحرير هناك، لتبدأ آلة الكذب في غزل حبالها الطويلة حول رقبة رجل وطني صادق وقف عندما هرب الأقزام في 2011 مدافعا عن ثوابت الأمة المغربية، ومؤصلا لمنهج “الإصلاح في ظل الاستقرار”. كان هؤلاء يدركون أن الاشاعة، إذا وجدت ما يكفي من الضخ الإعلامي، يمكن أن تتحول إلى مقصلة تنهي مسار أي زعيم سياسي مهما بلغت انجازاته ومهما أظهر من حبه للجالس على العرش.

خرج بنكيران-أو بالأحرى أخرج-من الحكومة وهو يناضل من أجل استقلال القرار الحزبي ورفض الاملاءات الفوقية، أخرج وهو يرفض أن يكون مجرد رئيس حكومة شكلي تتخذ القرارات باسمه،أخرج لأنه لا يريد أن يكون مجرد قنطرة عبور صغيرة على واد من الأحداث والتحولات الكبيرة،أخرج لأنه وقف دائما حيث يجب وقال ما كان ينبغي قوله. وقف في عز الربيع مدافعا عن الملك والملكية، ثم وقف وهو رئيس للحكومة داخل قبة البرلمان ثائرا مدافعا عن حق المواطنين في الثروة، مرددا “إذا الشعب يوما أراد الحياة”.

هل كان على بنكيران أن يؤدي هذا الثمن قبل أن يدرك الجميع أن المنصب لم يكن غاية بالنسبة له، وإنما وسيلة لخدمة الوطن والمواطنين؟ نعم، وإلا فأنه لا يستحق حب وثقة من كانوا يحجون بالآلاف إلى مهرجاناته الخطابية في المدن والقرى. لقد تمكنوا اليوم من إخراجه من الحكومة بعد خمسة أشهر من المناورات، لكن قطعا لن يستطيعوا إخراجه من الحكم. فالمواقف، ليست كالأشخاص، والزمن لا يزيدها إلى قوة وعنفوانا. والزعماء التاريخيون يحضرون رمزيا كلما غابوا ماديا. وهل هناك سلطة أقوى من السلطة الرمزية؟ لذلك سيذكر التاريخ بنكيران، كما يذكر اليوم عبد الله إبراهيم وبنبركة وعلال الفاسي وغيرهم، من الذين خلدوا أسماءهم، وسينسى كل هؤلاء المتآمرين عليه.

خمسة أشهر من “البلوكاج” كانت كافية ليقتنع الجميع أن المطلوب لم يكن هو تشكيل الحكومة، بل هو عرقلة تشكيلها لعزل بنكيران سياسيا. فالرجل ماكان لينجح في جمع أغلبيته حتى ولو قبل التحالف مع الاصالة والمعاصرة. وحتما كانت ستظهر هناك اشتراطات أخرى ستجعل ولادة حكومته الثانية غير ممكنة. هذه الاشتراطات التي اختفت دفعة واحدة مع تعيين الدكتور سعد الدين العثماني رئيسا للحكومة.