وجهة نظر

مسار “زعيم” يأبى الاستسلام!

1. على سبيل البدء..

سيبقى السيد بنكيران، رئيس الحكومة المغربية (2012 – 2017)، موشوما في الذاكرة السياسية المغربية، كما سيبقى حدث خروجه من هذه الحكومة عبر الإعفاء الملكي، حدثا تاريخيا متميزا، سيُحكَم، بالافتئات والقصور، على كل تحليل تاريخي، يستحضر هذه المرحلة من الزمن السياسي المغربي، بعد عقود أو حتى أجيالا من الزمن، ولا يشير فيها إلى هذه الشخصية التي لعبت دورا مثيرا في قيادة البلاد بعد حراك عشريني انتهى بتعديلات سياسية ودستورية، شكلت في ذلك الإبان ثورة عند الكثير من المتتبعين السياسيين، وحتى عند بعض قادة الحراك العشريني.

إذ لا يمكن لأي قراءة تاريخية مستقبلية تستحضر هذه المرحلة من تاريخ المغرب، ولا تقف مليا عند هذه الشخصية السياسية التي بصمت هذه المرحلة القصيرة من عمر الزمن السياسي المغربي بمشاغباتها، وولاءاتها، وصراعاتها، وجحودها السياسي، وخطابها الشعبوي، ومفاجآتها الغريبة، وكريزمتها المتميزة، وركونها لإملاءات الداخل والخارج،… أن تكون قراءة جديرة بالمتابعة، وقمينة بالإفادة.

فالسيد بنكيران استطاع أن يبني له “لوكا سياسيا” خاصا به، كما استطاع أن يخرج من جلباب الإسلامي المتهم بكل تعبيرات العنف، والتشدد، والماضوية، والظلامية، ناهيك عن تهم الارهاب، والانقلابية، ليعانق ثاني أعلى سلطة في البلاد، ويتحالف مع أغلب التلوينات السياسية والأيديولوجية الخصيمة المشكلة للمشهد السياسي والحزبي في البلد، ويدخل في مناورات ومناوشات كثيرة وغير مسبوقة مع الهيئات النقابية، والجمعوية، ومختلف تنسيقيات المجتمع المدني، ويتمكن من تقليم أظافرها، وحصر مطالبها إلى الحد الادنى، ومحاورتها على طاولة الشروط المسبقة. كما “نجح” في تمرير القرارات الأكثر إيلاما للشغيلة المغربية، التي لم يستطع أحد ممن سبقه مجرد أن يثيرها في الإعلام، أو يعبر عن رغبته في لملمتها، أو مناقشتها مع الفرقاء الاجتماعيين.

فقد وضع السيد بنكيران مصيره الشعبي والحزبي والسياسي في كف، ومصير الوطن في كف؛ ونادى في الملإ، بأعلى صوته، أنه مستعد أن يضحي بكل هذا “الرصيد” من أجل الوطن؛ فكانت المقاصة، والاضراب، والمقايسة، والتقاعد،… أهم “إنجازات” هذا الرئيس الذي كوفئ في انتخابات جماعية وتشريعية باحتلال المراتب الأولى. وكأن كل الصراخ الذي صاحب ولايته، وكل الضجيج الذي ووجهت به قراراته اللاشعبية، لم يكن موجها إليه، ولا إلى حزبه الحاكم، ولكن كان موجها إلى الحائط!!.

2. من أسرار التَّمَيُّز والفَرَادة:

فما السر في هذه الشعبية العجيبة التي نالها هذا السيد، في وسط يبدو أن الجميع ضده، وأن الشعب في واد وشخصه في واد؟ وما الذي يميزه عن بقية الزعماء السياسيين الذي بصموا التاريخ الوطني بإنجازاتهم في النضال والإدارة والتدبير السياسي؟

لا يمكن للمتابع النبيه للمسار السياسي والحكمي لهذه الشخصية الفريدة والمتفردة، ألا يلفت الانتباه إلى أمور مميزة تجعل من هذه الشخصية شخصية مثيرة للاهتمام، والفضول، وجديرة بالدراسة؛ نذكر منها:

· خطابه وتواصله:
لأول مرة في تاريخ المغرب السياسي يتعرف المغاربة على رجل دولة يخاطبهم بخطاب مليء بالصدق، ومشبع بالحرقة، وبعيد عن لغة الخشب، يمتح من عمق معجمهم الشعبي. فلم يجدوا كبير عناء في فك شفراته، وفهم مراده. فقد أفلح السيد بنكيران أن يدخل بيوت المغاربة دون استئذان، ويخاطب أمهاتنا وآباءنا بما يفهمون، ويلفت الانتباه إلى ما يقول؛ حتى أضحى حضوره على شاشة التليفزيون المغربي، يغطي على كل الأخبار، والمسلسلات والبرامج ومباريات كرة القدم. وقد شاهدنا أعدادا كبيرة من مرتادي المقاهي يتابعون، باهتمام كبير، خطبه البرلمانية، وتصريحاته الصحفية. والحقيقة أن هذا الاهتمام الملفت والعجيب بهذه الشخصية السياسية المغربية؛ لم يأت اعتباطا، إنما جاء نتيجة الضجر الذي أصاب المغاربة من جراء خضوعهم لحكم رجال ونساء، من مختلف التوجهات والأطياف والانتماءات، على شاكلة واحدة، ووفق سلوك في الحكم لا يتغير، كأنهم دُمىً متشابهة، يُسَبِّب إمعان الاستماع إليها، “دوخة” ودورانا يفقد كل قدرة على التركيز، ويدفع إلى الغثيان. مما أبغض إلى المغاربة السياسة وما يأتي منها؛ حتى جاء هذا الرجل، بأسلوبه الشعبي البسيط، ونجح في مصالحة المغاربة مع السياسية، وكون لها جمهورا معتبرا من عامة الناس. كما جاء هذا الاهتمام، أيضا، نتيجة الانتظار الطويل والممل الذي عاشه الشعب المغربي تحت نَيْرِ حكم سياسيين يضحكون على ذقونه، ويخلفونه الوعود، ولا يَصْدُقونه!.

لكن، كما أن لكل حصان كبوة، فقد أسقط هذا الخطاب العفوي والارتجالي السيد بنكيران في مَطبَّاتٍ وكوارثَ جرَّت عليه الكثير من الانتقادات من قبل خصومه السياسيين، وغير السياسيين، بل حتى من معجبيه، ومن أقرب مناصريه الحزبيين، ومناضلي حزبه، ممن ينظرون إليه كرجل دولة مسؤول عن كل التصريحات التي يتلفظ بها.

كما لم يسعفه هذا الخطاب المليء بالكثير من الصِّدقية والحُرقة والرغبة الخالصة والمجردة من كل غرض ذاتي خاص، أن ينجح في إقناع خصومه السياسيين، وحتى بعض أتباعه، بالحلول السهلة والجاهزة التي يقدمها أمام المغاربة لفك طلاسم الأزمة المزمنة التي تعاني منها البلاد.

· زهده ونقاء يده:
الحقيقة ما شهد به الأعداء، مثال ينطبق على الشهادات الكثيرة التي نطق بها خصوم السيد بنكيران، في الحديث عن زهده العجيب في الدنيا، و حرصه على اجتناب شبهات المال والأعمال. فلم يُسجَّل في حقه، طيلة توليه رئاسة الحكومة، ما سُجل في حق الكثير ممن سبقه من المسؤولين الكبار؛ من خفة اليد، وعدم التورع في التعامل مع مُقدِّرات الوطن، والتلاعب في الكثير من مشاريع الدولة المغربية، حتى انكشف أغلبهم، وأحيلت ملفاتهم على القضاء، وصدرت أحكام في حقهم، وعفي عن آخرين بتقديرات ظلت تثير الكثير من علامات الاستفهام.

فرغم هذا الجانب المشرق والفريد في شخصية السيد بنكيران، والذي ظل مطلبا شعبيا منذ الأزل، مع مرارة ما عاناه الشعب مع مسؤولين اغتنوا من مقدرات الوطن، واستنزفوا ثرواته، على حساب الحقوق الطبيعية للكادحات والكادحين من أبناء هذا الوطن؛ لم يشفع للسيد بنكيران هذا “اللوك” الشعبي، وظل على مرمى مدفعية انتقاد الخصوم، الذين ربطوا بين وعوده بمحاربة الفساد، وتلكئه عنها، رغم الامتيازات المَهَامِّيَّة التي خولها الدستور الجديد لرئيس الحكومة، والتي لم يستطع أن يصرفها في تنزيل مشروعه المجتمعي الذي جعل على رأس أولوياته محاربة الفساد، حتى وصل به الأمر أن يتطبَّع مع هذا الفساد، ويعلن عن عفوه الشامل على مقترفيه، ويحيل “قلة حيلته” إلى ممانعة أصنافٍ من الحيوانات والعفاريت ظلت المِشجَب الذي علق عليه قصوره!.

· إعفاؤه:
شكل حدث الإعفاء من مهمة تشكيل الحكومة، الحدث الأبرز الذي وضع السيد بنكيران تحت دائرة الضوء كما لم يوضع تحتها قط. وأصبح الحديث عنه مَشاعا إعلاميا؛ مغربيا، وعربيا، وغربيا. وأصبح المادة الدسمة الأكثر إثارة وجذبا للمحللين السياسيين من مختلف التوجهات والحساسيات السياسية والأيديولوجية. بين من اعتبر هذا الإعفاء تكريما للسيد بنكيران وتشريفا له؛ إذ خرج على إثره- حسب هذا الفريق- مرفوع الرأس، رابحا من تدبيره الحكومي غير خاسر، وهو الاعتقاد الذي جنح إليه أغلب مناضلي حزبه، بالإضافة إلى أسرته الصغيرة. ومن اعتبر الشكل الذي تم به هذا الإعفاء إهانة له، ومن خلاله لمنصب رئاسة الحكومة، من طرف أعلى سلطة في البلاد. إذ لم يتم استقباله ولم يسمح له بالدفاع عن نفسه، ولا بتبرير تلكئه عن الاستجابة للدعوة الملكية بالإسراع بإخراج الحكومة، وتجاوز حالة “البلوكاج”. مما جعل هذا الإعفاء أشبه- حسب هذا الفريق- بتعامل “سُخْرَوِي” (من السُّخْرة) منه بشيء آخر.

في حين اعتبر البعض الآخر هذا الإعفاء ضريبة لنجاح السيد بنكيران في تقديم أنموذج لرجل الدولة الشعبي والصادق، والأكثر قربا من هموم الناس، والأكثر صراحة، ومُمَانَعة للتحكم، ومظاهر الانتفاع، والتسلط. فقد جاء هذا الإعفاء- حسب هذا الفريق- عقابا له على خرجاته الجريئة وغير المسبوقة التي حاول جاهدا أن يوازن فيها بين دفاعه المستميت عن الملكية التنفيذية باعتبارها الضامن للاستقرار والوحدة، ومحاربته للتحكُّم والسلطوية. فكانت النتيجة أنْ سقطَ صريع محاولاته المستمرة في مواجهة وفضح رموز الفساد، والانتفاع، والتحكم!.

3. في حضرة الفقيد محمد بوستة :

رغم إعفائه من مهمة تشكيل الحكومة، لم يخْبُ هزيع السيد بنكيران، وظل يثير الحدث في كل المناسبات التي يسجل فيها حضوره. فقد استقبله أعضاء المجلس الوطني لحزبه، أياما قليلة بعد الإعفاء، استقبال الأبطال. وظل الإعلام يتتبع خطواته، ويغطي ظهوره بشكل غير مسبوق. ووصل الأمر، لأول مرة في تاريخ الزعماء السياسيين المغاربة، أن يتم استقباله من طرف مناضلين من غير حزبه، استقبال الأبطال، ويحتفوا به بشكل غير مسبوق، وذلك خلال حضوره حفل تأبين الراحل محمد بوستة رحمه الله. وهو الحضور الذي سجل فيه كلمة حملت الكثير من الإشارات، والرسائل، وكانت بمثابة خارطة طريق لمشروع عمله السياسي المقبل؛ حيث ركز فيها على أمور دقيقة وذات دلالات معبرة، نذكر منها:

– الهجوم على المنتفعين الذين يستأثرون بحلب خيرات البلاد، وطحن المستضعفين من الفقراء والمساكين.
– الإشادة بالمواقف الوطنية للسيد محمد بوستة، الذي ظل وفيا للملكية، والوطن، ورافضا للانبطاح.
– الدعوة إلى نبذ الثورية والتغيير الجذري والتشدد و الانسحاب من هموم الشعب.
– اعتبار نهج الوسطية والاعتدال الخيار الأصعب في مسار التغيير والإصلاح.
– اعتبار التنازل من أجل الوطن ليس تنازلا، ولكن التنازل هو التنازل المدفوع الثمن .. التنازل عن المبادئ من أجل المصالح.
– دعوة حزب الاستقلال لتوحيد الكلمة، ورص الصفوف، من أجل مواجهة التحكم الذي يشكل أحد أخطر مهددات الأمن والاستقرار بالمغرب.

وهي إشارات يمكن ان يفهم منها المتتبع النبيه، أنها تعنيه شخصيا، وتعني حزبه كذلك. فقد استغل هذا المهرجان التأبيني ليبعث برسائل إلى من يهمهم الأمر، وليجيب على الذين حكموا بنهايته، أنه لازال في الساحة، ولن ينسحب منها، وسيواصل رسالته السياسية بأريحية أفضل مما كان عليه وهو مُطوَّق بمسؤولية السلطة. و أن كل ما يقال من أنه سينسحب من الساحة باطل ولا أساس له من الصحة، بل هو أحد الخيارات المرفوضة التي نعاها على أصحاب المصالح الرخيصة من قبيلة المنتفعين.

كما أنها رسالة إلى كل الذين يظنون أنه واحد من هؤلاء الذين سهل طَمْرُهم في مطمورة النسيان، وأصبحوا خبرا بعد عيْن، وانتهوا إلى حافة التاريخ.

4. ختاما..

أخيرا وليس آخرا، فإن سبر أغوار هذه الشخصية التي ظلت تتسلق مراتب المسؤولية مُذْ كانت تقود الناس داخل المساجد، ثم الحركة، فالحزب، والسلطة؛ سيجعلك تستنتج أنها شخصية لا يضيرها قرارُ إعفاءٍ، أو حكمُ إبعادٍ، لأنها لا تعيش إلا داخل ماء “البروباغندا”، والظهور، ولا يمكن أن تسمح لنفسها بالنزوح إلى الظل، لأن الظل عندها هو القبر، ومنعها من الحركة هو إعدامها، لذلك فهي أكثر من شخصية عابرة ستنتهي بالموت أو الفناء الطبيعي أو غير الطبيعي، ولكنها ظاهرة سياسية واجتماعية تستعصي على النسيان، والإنهاء، والأفول!!.
دمتم على وطن.. !!