وجهة نظر

جيل Z بين وهم القطيعة و جدلية الامتداد

إن تشكل جيل جديد من الشباب في السياق الراهن لم يكن حدثا عابرا في سجل الإنسانية، ولا قفزة معزولة في مسار الوعي البشري كما يحلو للبعض أن يتصوره، بل هو حلقة ضمن سلسلة كونية طويلة، تتداخل فيها الأزمنة وتتعانق فيها التجارب لتعيد صياغة الإنسان في صور متعددة. ففي خضم هذا المخاض العالمي الذي أعاد رسم خرائط الوعي والهوية، برز في المغرب مثل باقي الدول ما اصطلح عليه في الخطابات الاجتماعية والسياسية بـ’جيلZ’، لا ككائن طارئ على الزمن، بل كامتداد حي لجهود أجيال سابقة نسجت بخيوطها الدقيقة ملامح الحاضر، وشيدت دعائم الوعي الجمعي الذي يغذي اليوم رؤى هذا الجيل، في حوار خفي بين الذاكرة والتطلع، وبين ثقل التاريخ ونبض العصر، إمتداد للأجيال التي عاشت بين صلابة الماضي وارتباك الحاضر، وأخدت على عاتقها أعباء الانتقال من العالم الواقعي إلى العالم الافتراضي، من ثقافة الورق إلى ثقافة الشاشة، ومن زمن القيم الثابتة إلى زمن السيولة الرقمية. لكن ما يثير الانتباه اليوم هو أن هذا الجيل الجديد “جيلZ”،الذي انخرط في موجات الاحتجاج الاجتماعي والسياسي مطالبا بإصلاحات بنيوية واستجابة لمجموعة من المطالب ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي والحقوقي. يتحدث بلسان يفيض بالثقة إلى حد الغرور، وبخطاب ينطوي على نوع من التعالي على التاريخ، كأنه جيل مخلوق من رحم المعجزة، وكأن من سبقه لم يكن إلا ظلا باهتا أو كائنا بدائيا في زمن ما قبل الانترنيت.

هذا التشكيل اللغوي الجديد الذي يطبع خطاب “جيلZ” سواء في وسائط التواصل أو في النقاشات العامة يكشف عن تحول أنثروبولوجي مفجع في نظرة “إنسان العصر الرقمي” إلى ذاته، إذ لم يعد الانتماء إلى الجيل معيارا للخبرة والتراكم، بل صار رمزا للتفوق الثقافي والمعرفي. فاللغة التي أضحى يوظفها أبناء هذا الجيل ليست مجرد وسيلة تواصل فقط، بل اخدوها كسلاح رمزي للهيمنة والتمييز. فهي لغة هجينة، تختلط فيها مفردات التقنية بالعبارات الساخرة، وتسقط عن الحوار كل وقار لغوي أو نسق تأملي، لتصير الكلمات رموزا لسرعة الانفعال أكثر من عمق التفكير. هذا الانزياح اللغوي يعكس الرؤية في الوجود و يرى في “الراهن” المطلق ومصدر الحقيقة الأوحد، وتنفي عن الماضي قيمته المعرفية، وعن المستقبل عمقه التاريخي.

فحين نقف لتأمل في خلفيات هذا التعالي، نكتشف أنه نتاج لوعي هش بالذات “فجيلZ”، في سعيه نحو بناء هوية مستقلة، حاول أن ينكر أصوله الرمزية والاجتماعية. و زاغ عن باله من رباه، وأطعمه، وعلمه، وغرس فيه القدرة على لمس الشاشة، وهو الجيل الأول و لنسميه مجازا “جيلA”، الذي كابد التناقضات وواجه الصدمات دون ضجيج. هذا الجيل الأخير هو من عاش التحولات الكبرى من بداية العولمة، ظهور الإنترنت، انهيار الحدود بين المحلي والعالمي، وتحول المعرفة إلى سلعة. وهو من وهب لجيل “Z” الأرضية المادية والمعرفية التي مكنته من أن يصرخ ويحتج ويعبر. غير أن هذا الجيل يبدو على أنه نسي ذلك في خضم الهتاف التكنولوجي، تماما كما ينسى دور المعلم حين يتفوق تلميذه، أو كما يهمل الجذر حين تزهر الشجرة.

وهنا يتجلى بوضوح ما أشار إليه “كارل مانهايم” في تحليله الكلاسيكي لمفهوم “الجيل”، إذ بين أن العلاقة بين الأجيال ليست مجرد تعاقب زمني، بل هي تفاعل جدلي بين الذاكرة والتجربة، وأن كل جيل جديد لا يولد من العدم، بل من رحم وعي سابق يورثه الزمن بمعانيه ومحنه. فالأجيال، في منظور مانهايم، ليست كيانات منفصلة، بل حلقات في سلسلة التاريخ الاجتماعي، يتخذ كل جيل منها موقعه عبر الصراع أو الاستمرار مع من سبقه. وعلى هذا الأساس، فإن ما نراه اليوم من تعال لغوي ورمزي لدى “جيلZ” ليس سوى شكل من أشكال القطيعة الرمزية التي يتحدث عنها مانهايم، حين يتحول وعي الجيل إلى رغبة في نفي الذاكرة الجماعية كي يبرر ذاته بوصفه بداية جديدة للعالم. غير أن هذه القطيعة، في جوهرها، ليست دليلا على النضج، بل علامة على هشاشة الانتماء وغياب التراكم المعرفي، بحيث أن كل من لا يعترف بجذوره محكوم عليه بأن يعيش بلا ظل ولا إمتداد.

من هذا المنظور، يصبح التعالي الجيلي الذي تمارسه بعض فئات “جيلZ” صورة جديدة من صور الصراع على المعنى، ذلك الذي يصفه مانهايم باعتباره معركة رمزية حول امتلاك شرعية القول والفكر. “فجيلZ” يرى في نفسه مالكا للحقيقة كونه ولد في زمن التكنولوجيا، بينما يتناسى أن أدواته نفسها هي ثمرة جهد معرفي وصناعي راكمه “جيلA” بصبر طويل. و بهذا تصبح محاولة إلغاء الأجيال السابقة لا تعني سوى إلغاء البعد التاريخي للذات، أي تحويل الوعي إلى لحظة عابرة لا أصل لها. هذا الإدراك الخاطئ للحقائق أنتج لنا ما يمكن تسميته بـ”فوضى الوجود”، وهي حالة من التمرد غير المؤطر معرفيا، إذ صار بعض أبناء “جيلZ” يتعاملون مع الفضاء الرقمي كأنه مختبر للقيادة، ومسرح للتنظير دون قراءة أو تأمل.

وأصبح كل من يمتلك حسابا في منصة اجتماعية يعتقد على أنه مفكر، وكل من نشر منشورا ساخرا يظن أنه ثائر أو مصلح. فقد تحولت الحرية لديهم من ممارسة نقدية إلى استعراض رمزي للذات، ومن مسؤولية فكرية إلى فوضى لغوية. في المقابل، ظل أبناء الأجيال السابقة الذين عايشوا مرحلة الزعماء والقادة السياسيين الكبار، أمثال عبد الله إبراهيم، وعبد الرحيم بوعبيد، وعمر بنجلون، وعباس المسعدي، وعلي يعتة، وغيرهم من الرواد الذين اضطلعوا بأدوار محورية في بناء مؤسسات الدولة المغربية الحديثة، سواء في بعدها السياسي أو الإداري، حاملين معهم مشعل التأسيس الوطني، وأسسوا لمرحلة التحديث وبناء المؤسسات الديمقراطية، متسلحين بروح الالتزام الوطني وبعد النظر الذي أسهم في ترسيخ الاستقرار وتطوير الممارسة المؤسسية داخل الدولة المغربية. أبناء هذا الجيل، اختاروا التريث والمراقبة الصامتة، لا عن عجز أو قصور في الفعل، وإنما عن وعيٍ نابعٍ من الرغبة في التأمل والتبصر في مسار الأحداث والتحولات.

كونهم ينتمون إلى ثقافة العمل لا ثقافة العرض. فهم أبناء الجيل الذي بنى المؤسسات، وربى الأبناء، وأرسى منظومة القيم التي يقوم عليها المجتمع، ومع ذلك يعاملون اليوم كما لو أنهم من الماضي الغابر. إن نكران الجميل الذي تمارسه بعض الفئات من “جيلZ” تجاه هذا الجيل ليس مجرد سلوك اجتماعي، بل هو مؤشر على انقطاع السلسلة القيمية بين الأجيال، وهو ما قد يفضي إلى أزمة في الهوية الجماعية، لأن المجتمع الذي ينكر جذوره يفقد القدرة على الاستمرار.

كما أن العمل على كشف هذا التعالي و نسفه لا يعني معاداة هذا الجيل الجديد “جيلZ”، بل هو محاولة في إعادته إلى محجة الصواب التاريخي و الطبيعي، نعم هو جيل ذكي ومبدع، لكنه ابن لأب صبور ومجتمع تعب من أجل أن يمنحه ترف الحرية والاختيار. فبدون الأجيال السابقة ما كان لجيل”Z” أن يجد الإنترنت في متناوله، ولا المدارس الرقمية، ولا اللغة الهجينة التي يتغنى بها اليوم. فالأجيال السابقة هي التي طورت أدوات الاتصال، وواجهت الأزمات الاقتصادية، وفتحت الأبواب أمام أبناء هذا الجيل الجديد ليعيشوا في عالم أكثر اتساعا.

وعليه، فإن المسؤولية الأخلاقية والمعرفية تقتضي أن يعيد “جيلZ” النظر في خطابه، وأن يتعلم التواضع المعرفي، لأن الحداثة الحقيقية لا تقوم على إنكار الآخر، بل على الاعتراف بالتاريخ كمصدر للشرعية الفكرية. فالتفكير لا يولد من الفراغ، والإبداع لا ينبت من العدم.

و الان ربما آن الأوان لنقول لهذا الجيل، بلغة هادئة وواضحة: أنتم لا تحوزون سر المعجزات و الكرامات، فهي ضوء بعيد على أفق الزمن، يلوح لكم دون أن يطرق أبواب أيديكم، ويظل غامضا كما هي طبيعة الخلق والقدر، بل أنتم امتداد لرحلة طويلة بدأها آباؤكم بصمت وعرق، وأنتم الحلقة التي ينبغي أن تصل لا أن تقطع. وإن كنتم أنتم أبناء الفضاء الرقمي، فهم أبناء الفضاء الواقعي الذي منحكم الأرض لتغرسوا فيها جذوركم الافتراضية.

و إن إعادة التوازن بين الأجيال ليست مسألة تربوية فحسب، بل هي رهان حضاري حتمي، لأن الأمم التي تنسى من أطعم أبناءها، تبدد طعم الغذ قبل أن يحين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *