منوعات، وجهة نظر

سلطة الإعلام بالمغرب

لا يكاد يختلف اثنين من المهتمين بالواقع المغربي والشأن العام تحديدا حول أهمية العلاقة بين السياسة والصحافة، فماهي التقاطعات الموجودة بين العنصرين أو السلطتين: السياسية (تشريعية وتنفيذية) والسلطة الرابعة؟

إذا كانت السياسة فن ترويض الآخر أو فن الممكن، فماهي حدود التجاذبات والتقاطعات بين الصحافة التي تعتبر ممارسة لسلطتها في الإخبار وتحليل المعلومة أو المواضيع الراهنة، وبين السياسة بما تعنيه لدى المواطن المغربي أساسا كمجال للإغراء والخدعة من جهة وكسؤال عن الديمقراطية والإصلاحات المؤسساتية ورصد مظاهر الفعل السياسي في علاقته بالاجتماعي والثقافي؟ فمتى يتوقف السياسي فاسحا المجال للإعلامي والعكس؟ فهل السياسة ترتكز على الصحافة في التأثير على المواطنين؟ وهل هذه الأخيرة تؤلب الرأي العام ضد السياسي؟ هل يحتاج الساسة إلى ذراع إعلامي لتسويق مشروعهم وكيف توظف الأنظمة السياسية أجهزة الإعلام لخدمتها بطرق أو بأخرى؟ وكيف ولماذا ومتى تتدخل لردعها؟

السياسة، الإعلام ولغة الخشب

من البديهي أن السياسة تحتاج لصحافة تعدد إنجازاتها تكون بمثابة “ماسح أحذية” وليس إلى صحافة تعري وتفضح وتكشف مواطن الخلل في صيرورة عمل السياسي. ولابد أن نحدد طبيعة المؤسسات الإعلامية، فهناك الصحافة المرئية -القنوات التلفزية- التي لا تزال كلها في يد الدولة رغم تحرير القطاع السمعي البصري، أما الدفعة الأولى للإذاعات الخاصة فلا تزال فتية إلا أن ذلك لا ينفي استقلاليتها ما دامت تنتظر نصيبها من الإشهار وتتحرك بدورها للترويج لخطاب سياسي معين. في حين أن الجرائد والمجلات بعضها حزبي وآخر مستقل، وهذه الأخيرة هي صوت مموليها بينما الجرائد الإلكترونية لا تزال تعاني من عثرات البداية إلا أن مستقبل الإعلام كله سيصبح بيد هذه الجرائد ومواقع الأخبار الإلكترونية.

وإذا كان الساسة غالبا ما يلجؤون إلى خلق وسائل اتصال ورقية لتصريف أيديولوجيا المؤسسة السياسية (حزب – أجهزة الدولة) فإن وظيفة الإعلام لا تخرج عن نقد مواطن الخلل في أشكال وطرق تدبير السلطة ملفات وأوضاع الشعب وخلخلة مجموعة من الثوابت التي كانت إلى وقت قريب عبارة عن طابوهات ومقدسات بيد أن صحافة أخرى لا تقوم إلى بتسويق رؤى فكرية وسياسية للتأثير على المواطن، وفي هذا الصدد يمكن استحضار التلفزيون العمومي والجرائد الرسمية والحزبية المعروفة بعمرها الطويل لأنها تتوفر على مقومات الصمود من دعم مالي من أطراف متعددة، وحماية خاصة من طرف النظام السياسي المدافعة عنه أو القريبة منه أكان سلطة تشريعية أو تنفيذية أو من أشخاص معنويين، وعلى هذا الأساس فإن ما يوحد السياسة والصحافة أكثر مما يفرقها، ولا يمكن فصل علاقتهما رؤية بانورامية يختلط فيها الحزبي والنقابي والإعلامي كوضع سوسيوثقافي يضمن الانتقال إلى مجتمع ديمقراطي، تحاول من خلاله صحافة جادة أن تجعل الشعب سيد نفسه الوحيد وتتحول فيه الدولة إلى أداة لخدمة المجتمع بخلاف ما يجري الآن من تطويع له عبر وسائل الإعلام -المقربة من أصحاب القرار- ومحاولة جز رأس الصحافة التي تغرد خارج السرب وتوظيف القضاء في القضاء عليها.

إن مقاربة علاقة السياسي والإعلامي ينبغي أن تتجاوز كل رؤية اختزالية حول حدود وظائف وأبعاد “السلطة الرابعة” ووضعها داخل سياق يتجاوز الدفاع عن مؤسسات الدولة -والرأفة بها وحجب اختلالاتها- إلى نقد الخطاب الرسمي وبالمشاركة في رسم تدبير مؤسسات الدولة والشأن العام.

المجتمع المدني والدعاية المجانية

لا ينبغي أن نغفل أن الإعلام أصبح تابعا للسياسي وخاضعا له، وأصبح يقوم “بتصريف” خطابه وبرامجه من خلال الإذاعات الرسمية والقناتين العموميتين وصحف قريبة من أجهزة الدولة، وهذا يطرح سؤال استقلالية الصحافة ومعالجتها الموضوعية للأحداث والوقائع ومدى مقاربة الواقع السياسي ورهاناته بحياد.

كثيرا ما يعتمد الإعلام الحزبي أو الرسمي على الهروب إلى الأمام في تغطية الشأن المحلي أو قضايا الوطن المصيرية. وكثيرا ما يتداخل السياسي بالجمعوي أو بالإعلامي لاسيما أن “المجتمع المدني” “وبعض الجمعيات الحقوقية” أصبحت متشددة في الدفاع عن قرارات سياسية لا تعنيها في شيء أكثر من المؤسسات التي يهمها الأمر.

في نفس السياق تبدو جمعيات “مدنية” أخرى تمارس السياسة بشكل من الأشكال على الرغم من أن المجتمع المدني -أي مجتمع مدني- في جوهره لا يستهلك السياسة ومنسلخ عما هو سياسي إلا أن بعض هذه الجمعيات المدنية لها خطاب سياسي -أو إيديولوجي- بل أنها استئصالية تجاه بعض الأحزاب أو تجاه المواطنين أنفسهم وتستخدم لغة تنتمي إلى “المخزن العتيق” فيها كثير من التبخيس لاتجاهات ومواقف المواطن سواء من خلال “مناشرها” أو “الدعاية المجانية التي تقوم بها في بعض وسائل الإعلام العمومية والخاصة، وتتجاوز ذلك إلى ممارسة نوع من الوصاية والحجر على المغاربة واستغبائهم دون احترام الحريات الأساسية الإرادة الحرة.

إطفائيو المنابر الإعلامية

رب قائل إن المغرب يتغير وأن صيرورة الإصلاح الديمقراطي – والمؤسساتي – تقتضي الانخراط في هذا المشروع إلا أن واقع الحال لا يعكس إلا شيئا واحدا أن لا شيء يتغير بالمغرب، وإذا كنا نتحدث عن الصحافة فلابد من النظر إلى أن السياسة والإعلام شريكان -وكسلطة في حد ذاتها- لنقد الواقع السياسي وصياغة وأجرأة السياسات العامة وترجمتها على أرض الواقع. هذا النقد هو ما ترفضه المؤسسة السياسية باعتبارها -منزهة عن النقد-.

والواقع أن السياسي يرى في وظيفة الصحافي مجرد إطفاء غضب الرأي العام، والدولة ترى في السياسة إطفاء غضب الجماهير، لا يتم اللجوء إلى الصحافة إلا لتبليغ رسالة معينة، ولذلك لا تخلو برامج الأحزاب السياسية من الحديث عن دمقرطة الإعلام العمومي وتعزيز حرية الصحافة وحقها في الحصول على الخبر والمعلومة لكن هذه مجرد شعارات للاستهلاك السياسي فقط لأن الواقع يرصد مجموعة من التراجعات في الحريات العامة كما حدث مع جريدة الوطن الآن وسجن مصطفى حرمة الله وقضية مدير نشر أسبوعية الأيام نور الدين مفتاح ورئيسة التحرير مرية مكريم على خلفية نية نشر صورة لوالدة الملك، وتغريم جريدة المساء وسجن رشيد نيني وغير ذلك كثير مع المواقع الإلكترونية المستقلة.

من جهة فإن الإعلام العمومي هو صوت الدولة لا صوت المجتمع والمواطن، وأن إنشاء الهيئة العليا للإعلام السمعي البصري التي رخصت لإذاعات خاصة في انتظار ظهور قنوات تلفزيونية خاصة لاحقا لا يعبر إلا عن اتجاه سياسي معين ولا يخدمه إلا هو ويوظف لأغراضه مما يضرب الاستقلالية والأخلاق المهنية، حيث يتواطأ السياسي والإعلامي لخدمة مصالح خاصة لفئة ذات حظوة في الدولة لكنه لا يتجاوب مع مطالب باقي مكونات المجتمع الأخرى الأقل حظوة.

إذا ما ربطنا السياسي وعلاقته بالإعلامي فإنه لا يمكن الفصل بين عنصرين، الأول يمارس دوره في نقد وتعرية مكامن الخلل داخل مؤسسات الدولة والمجتمع وهفوات تدبير الشأن العام، وهذا ترفضه السلطة “والمخزن” لأنه يصورها على أنها فاشلة أو عاجزة عن معالجة هذه الاختلالات. فهي تسعى إلى ترويض وتطويع الإعلامي وإن لم يستجب لها فإنها تتصيد هفواته وتقوم بسجن الصحافيين أو تغريم المنشآت الإعلامية “المارقة”.

أما الصنف الثاني، فهي صحف تم تأسيسها لخدمة مشروع سياسي معين. ودور الإعلام لا يخرج عن سياق تاريخي يستحضر التحولات التي تعرفها البلاد وتمثل جواب السياسي والإعلامي على الأسئلة التي يطرحها راهن الواقع السياسي والمجتمعي المرحلي واستحضار أبعاده.

السياسي والصحافي: من التابع ومن المتبوع؟

إذا كانت أية مؤسسة سياسية أداة لتنظيم المواطنين الذين يتقاسمون اختيارات موحدة سياسية وإيديولوجية… فإن الدور نفسه ينطبق على المنشآت الإعلامية كانت سمعية بصرية أو صحف ورقية أو إلكترونية.

ففي سياق التحول الديمقراطي الذي يشهده المغرب والإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية التي شرع في تطبيقها فيما يسمى بالعهد الجديد وترسيخ نظام الحكامة “الرشيدة” فقد أصبح القطاع الإعلامي ضرورة لا محيد عنها لمواكبة التطورات التي تعرفها البلاد من جهة، ومن جهة أخرى تنامي الوعي بأهمية الإعلام لبناء مجتمع ديمقراطي حداثي.

فالمؤسسات الصحافية تعيش على إيقاع تعثرات تعيق استمراريتها. فأمام التحولات التي تعرفها “صناعة الإعلام” الورقي من ارتفاع أثمان الورق وتزايد مصاريف الطباعة والنشر والتوزيع فإن التمويل لا يعتمد إلا عن قوى سياسية أو اقتصادية لكون المبيعات لا يمكنها تغطية هذه التكاليف باعتبار أن المجتمع المغربي ليس بمجتمع قارئ، هذه القوى المدعمة أو الممولة للجرائد تعمد إلى ترويج خطابها وتضمن كذلك عدم المساس بمشاريعها، وهذا يمس بحرية الصحافي ويضرب مصداقية الصحيفة ويعيد طرح سؤال الموضوعية.

وليس لغوا القول إن الجرائد تعيش وتنمو وتضمن حياتها بالتمويل المقدم من قبل عدة أطراف في غياب دعم الدولة الذي يظل رهين تدخلات قوى نافذة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا مما يمس بالخط التحريري وبالتالي ضياع هوية الصحيفة وضياع نسبة مهمة من القراء.

منطق المكافأة والعقاب: الصحافة والمخزن

ينحصر رهان صحافة في البحث عن المستشهر الذي سيغطي تكاليف الإنتاج هي رهينة لسلطة سياسية (تشريعية تنفيذية) تحاول التأثير على الرأي العام وتوجيهه، ويصبح سوق الإشهار كابحا لحرية الصحافة بدل المساهمة في تطويرها نوعا وليس على مستوى الكم حيث أن العدد الكبير من الصحف بقدر ما يعكس التعدد والتنوع والاختلاف فإنه يعمل على تمييع العمل الصحافي وتبخيسه.

على النقيض من ذلك نجد صحفا تحاول الضغط على بعض الشركات المحتكرة لسوق الإشهار بإثارة ونشر أخبار ومواضيع تسيء إليها مما قد يدفع هذه الشركات إلى الاستجابة لرغبة المقاولات الصحفية في الاستفادة من امتيازات وحصص للإشهار ويغيب المهنية ولا يخدم المصلحة العامة.

إن على الممارسة السياسية إذن أن تكون أخلاقا لتعزيز دولة الحق وتعزيز البناء الديمقراطي والتداول على السلطة دون “بوليميك” إذا أريد لها أن تكون فعالة وذات جدوى وغير عقيمة.

من جانب آخر على الإعلام أن يسأل الواقع وحدود عمل السلطة وإمكانياتها. حيث أن السياسي يوظف الإعلامي ليخدم طروحاته بفرض الوصاية عليه أو تحين الفرصة لإدانته باستعمال سلطة القضاء إذا لم يخدمه خاصة إذا طرح سؤال شرعية المؤسسات السياسية أو مناقشة قواعد الحكامة والشفافية المطلوبة في كل من يتحمل مسؤولية تدبير الشأن العام.

أما الوجه الآخر للصحافة فهي صحافة أو أمر تنتظر إملاءات الجهات العليا لمعرفة متى تتحدث ومتى تصمت ومتى تنحني حتى تمر العاصفة ودورها تلميع صورة السلطة أو الواجهة دون النبش في مظاهر الفساد والفشل والإختلالات.

إن ما يميز إعلام الدولة هو المحاباة وتمجيد المنجزات والبصبصة بالذيل والتمسح بالأعتاب، أما الإعلام الحقيقي الجاد فذلك حديث آخر لا نجد له أثرا إلا في قانون العقوبات.