وجهة نظر

عين النعامة أكبر من دماغها

يقول ارلوند توينبي في كتابه الجامع ” دراسة للتاريخ ” أن الشعوب التي تجد المبررات للفشل والتراجع هي شعوب لا تستحق الحرية لانها غير مستعدة لخوض تجربة التغيير، كلام الانجليزي توينبي يجد حضنا دافئا في التحليل التاريخي للعملية السياسية في المغرب خصوصا ما بعد الاستقلال , فان كانت الاحزاب مؤسسات تبحث عن السلطة وتتدافع نحوها بشكل تعاقدي فدور الملكيات كيفما كانت هو الحفاظ على السلطة وعليه فان السياسة في البلدان ذات النظام الملكي تكتسي طابع الجدال والنضال نحو اكتساب مساحات اما لصالح الاحزاب فتسمى ” ديمقراطية ” واما لصالح ” القصور” فتسمى مساحة الاستبداد , ففي 1957م انتبه علال الفاسي لهذا الامر فالقى خطابا في مدينة طنجة من نفس المنصة التي تكلم منها محمد الخامس وقال ان على القصر اقتسام السلطة مع حزب الاستقلال مراعاة للثقل الاجتماعي ولظروف بناء الدولة التي اعلن محمد بن يوسف نيته البداية في تكوينها , واستمر اكتساح حزب الاستقلال لمساحات الديمقراطية زمنا استمر وازداد حجمه مع حكومة عبد الله ابراهيم حتى ان وزير الخارجية الامريكية انبهر بمستوى الديمقراطية المغربية مع اعتبار ان المغرب حديث عهد بالاستعمار والدمار , لكن الحزب الذي اخرج الاستعمار انهار في عتبات القصر بسرعة وانشق عن يمينه احزاب وعن شماله انبثق الاتحاد الوطني للقوات الشعبية لتلد الامة ربتها قبل حلول الغروب بموت الزعيم في بوخاريست سنة 1974م وانهارت الاسطورة التي شكلت قنديل الانعتاق ومصباح العدالة .
في مغرب ما بعد الاستقلال تتغير الاحداث لكن السياقات ثابتة , فسياق الامس اشد وقعا من سياق اليوم وأوراق التفاوض لا تختلف كثيرا بين حزب الاستقلال زمن علال الفاسي وحزب العدالة والتنمية في لحظة ما قبل تشكيل حكومة العثماني بل ونحسب ان المرجع الشعبي في ثقله قد اعاد نفسه زمن العدالة والتنمية لتكون سياقات التنازل تحصيلا محصلا من الفرملة الذاتية التي يمارسها السياسي المغربي منذ سنوات الرصاص , اليوم وبغض النظر عن التفاصيل سقطت صور اسطورية غلفت ذهنية المناضل الحزبي في العدالة والتنمية سواء المتعلقة بالاشخاص او بالمنهج تماما كما اعلن المرحوم بوستة يوم اصبح قائدا لحزب علال الفاسي ان استقلال الامس ليس كاستقلال اليوم , واليوم في العدالة والتنمية سقطت اسطورة ” الصف الاول ” من القيادات والتي كان اشعاع الكلمة يخفي كل عيوب التدبير والتصريحات والنيات , فذهنية حزب المصباح تختلط بذهنية الدعوة والتي تاريخيا كانت نمطا يحتفظ باهل السبق والسابقة في الحفاظ على بيضة الاسلام تماما كفضل اهل بدر على سائر الفئات مهما بلغت في تعبدها , هذا المنطق الدعوي كان سببا في قمع الاصوات والتيارات التي كانت تريد ممارسة حقها الداخلي في المحاسبة لتجد الايات والاحاديث في فضل اهل السبق وحرمة اعمالهم وتنزيهها عن كل ما قد يخالج فعل السياسي من خطأ او شهوة او طمع , الصف الاول اليوم ينسف اسطورته بيده بعد كل هذه التنازلات غير المبررة بل والتي تعدتها القيادة الى التدليس والكذب على المناضلين ومحاولة تعميم النفس التبريري , فرغم المسطرة المتبعة ديمقراطيا الا ان الصف الاول يستغل ثغراتها ويستغل الوقع النفسي للثقل التاريخي لنضالهم ليضربوا مبدأ الزهد في المناصب الذي ميزهم او كما عرفوا التمثيل بانه يميزهم .
الاسطورة الثانية التي سقطت هي ” المواقف ” فالرميد الذي خرج من مقر وزارة الداخلية غاضبا منتفضا على محاولة التزوير في موقف بطولي صفق له القواعد هو نفسه الرميد الذي يقول اليوم ان بنكيران انتهى وانه ارتكب اخطاءا خسر معها الحزب اشياءا كثيرة , والخلفي الذي واجه استبداد الدولة في الاعلام هو نفسه الذي اغلق هاتفه في وجه رئيسه في الحزب , لقد كانت قوة الدفع البنكيرانية هي المحرك الاساس لكل هذه المواقف فكاريزما الرجل طاغية وتشجع كل جبان وتقوي كل رعديد اما والرجل تعثر بفعل فاعل وغاب بعلة بينة فقد اخذت اوراق الصف الاول تسقط تباعا , سقوط المواقف جر بالضرورة سقوط الثقة والتي اعتمدها بنكيران كمنهج لاختيار المؤهلين لخدمة الشعب في بعض المناصب , فالتدبير يحتاج لأمرين الثقة والكفاءة والاخيرة يسجل الحزب نقصا ونزيف حادا في الكوادر والاطر والتي تفتقر اليها الاجهزة الداخلية لحزب العدالة والتنمية ولهذا سيجد الوزراء الجدد انفسهم امام المحاسبة بالكفاءة والتدبير عكس ما كان سائدا مما سيظهر للعادي والبادي ضعف التدبير في القطاعات الحكومية التابعة لحزب المصباح .
اسطورة اخرى ايلة للسقوط وهي الشباب او سوء الفهم الكبير , لقد ظهر تيار شبابي داخل حزب المصباح يبرر كل شيء وينتفض عن كل رأي وينتظر كل محطة انتخابية للبحث عن الغنيمة يغير جلده ورأيه بمجرد ان يلبس الجلباب الابيض البرلماني , شباب يبتسمون حد التملق بحثا عن مناصب في الدواوين متناسين اصل وجودهم السياسي الا وهو البوصلة والطريق والتخريج , شباب يضيق صدره بالنقاش اذا ناقش ويخاصم لمجرد الاختلاف في الرأي , ان صائدي الجوائز وسط الشباب ظاهرة استشرافية لانه محدد اساس لمستقبل الحزب الحاكم في المغرب وتظهر افقا عميقا من حيث طبيعة المواجهة في قادم الايام مع الفرقاء السياسيين لهذا فان اخر متراس امام التحكم هم الشباب فان هم سلموا الامر سلمنا نحن للمقاصل .
اليوم شبيه بالامس والمصدق او المكذب هو ما سيقع في المؤتمر الوطني المقبل لحزب المصباح حيث هناك اطروحتان ستصطدمان في جدال قد يبلغ فيه النزيف حده او سيكون في مائدة الديبلوماسية الهادئة المهم ان النقاش سيكون غير النقاش والكلام غير الكلام فاليوم يدخل الحزب الى مؤتمره بدون اساطيروبدون صف اول او رجال ثقاة بدون ثقل نفسي وهلامي حول الاشخاص وسيجتر الكل كلام المشاكسين الذين نادوا منذ التأسيس بان هناك خلل , بان هناك امر جلل يمهد للهزيمة وبان اسباب الانتصار هي نفسها كانت اسباب الهزيمة وأننا نظرنا الى الانتصار بدون تفكير في الهزيمة …وان عين النعامة اكبر من دماغها