وجهة نظر

العدالة والتنمية… في الحاجة إلى موجة جديدة من المراجعات

في موضوع حكومة العثماني، القضية أكبر من مجرد خلاف داخل حزب العدالة والتنمية، وأكبر من سجال حول من اتخذ القرار ومن تفاوض وما إذا كان قرار أفراد أم قرار مؤسسات، القضية تتعلق بمسار دولة ومصير شعب، وقدرات نخبة الحزب الذي بوأته الانتخابات المرتبة الأولى، على القيادة والتفاعل مع المستجدات المتسارعة والمعقدة.

ينبغي الاعتراف بكل شجاعة أن النخبة القيادية في حزب العدالة والتنمية، بتولي الحزب مواقع في تدبير الشأن العام، وجدت نفسها في مساحة اشتغال بعيدة عن كل الرهانات والتمثلات التي طبعت مرحلة تأسيس وبروز الحزب/الجماعة، ومع الأسف عوض الاشتغال على تكييف هذه الرهانات مع مستجدات المسار الذي ارتضته الدولة وآثاره على المجتمع، عملت على التعسف في إيجاد التبرير لقراءاتها إنقاذا لماء وجهها “القيادي” أمام الأعضاء، ولذلك انحسر النقاش الفكري أساسا داخل الحزب، وعوّضه نقاش جديد لم يكن له من هدف إلا التغطية على هذا النقص، من خلال تضخيم الحديث عن الأطر والكفاءة والاجتهادات التنظيمية التي مست هيكل الحزب.

ويمكن القول إن مظاهر الارتباك الذي يطغى على الحزب خلال هذه الفترة، بدأت في الظهور مباشرة بعد الوصول إلى الحكومة، ولولا اجتهادات الأمين العام للحزب الأستاذ عبد الإله بنكيران، الذي شبّ عن الطوق، لكان الارتباك أكثر حدة، ولتحوّل الحزب في سرعة قياسية إلى مجرد خادم جديد لدى الدولة ونخبها.

وبقدر ما كانت الاجتهادات التي برزت من خلال مواقف الأستاذ بنكيران المستندة إلى رؤية متميزة لتاريخ الدولة وحدود وإمكان التأثير في بنيتها، فرصة لاعتبارها أرضية أمام الحزب لتجديد رهاناته وربطها بالتحولات التي عرفتها الدولة، وصياغتها وفق تحولات المجتمع كذلك، بقدر ما واجهتها بنية جامدة في الحزب قررت التحالف موضوعيا مع بنية الجمود في الدولة، جمود يستهدف منسوب الديمقراطية ومنسوب إشراك المواطنين في العملية السياسية ومنسوب ربط القرار السياسي العمومي بمخرجات المجتمع المعبر عنها بالانتخابات نفسا وروحا وليس أرقاما فقط، وهذا ما دفع ببنكيران إلى استغلال لقاءاته العامة ومع شبيبة الحزب أساسا، ليعرض فيها في كل مرة جانبا من اجتهاداته، تُوّجت بالإقبال غير المسبوق على مهرجاناته الخطابية، وبالتصويت المكثف على حزبه خلال الانتخابات.

الإشكال إذن يتعلق برؤية وليس بمنهج ولا بتكتيك ولا بتغيير معطيات، ويتعلق عند الجهة التي اختلفت مع بنكيران داخليا، باستعمال قراءات ومرجعيات وسياقات مختلفة لا علاقة لها بالوضع الذي أفرز هذه الحكومة الصورية، قراءات جامدة توقف التاريخ عند أصحابها في لحظة الانتقال من المعارضة إلى المشاركة في السلطة، وهو ما جعل الواقفين خلف قرار المشاركة في الحكومة يلجؤون إلى تبرير كل التنازلات التي قدموها وورطوا الحزب فيها، واستعادة الحديث عن وضعية الحزب بعد أحداث 16 ماي 2003، وإلى المقارنة السطحية بين حكومة 2013 وحكومة 2017، في تهرب واضح من مواجهة الأسئلة الراهنة، والتغطية على عجز وفشل القراءة المتبناة للسياق والمعطيات، خاصة أن نتائج انتخابات السابع من أكتوبر تنسف كل دفوعاتهم.

طبيعي إذن أن يستمر ما يشبه حوار الطرشان الدائر حاليا، إذا لم يمتلك أعضاء الحزب تشخيصا موحدا لما جرى، وأن يحتكموا جميعا إلى مرجعيات موحدة، قادرة على فهم واستيعاب في أي اتجاه تسير الدولة، وتدقيق التحولات التي تعرفها العلاقات داخلها، واستحضار إرادة المواطنين دفاعا عنها ووفاء لها، والابتعاد عن الاحتكام إلى قراءات الجمود التي أفرزت مشاركة مهينة لحزب العدالة والتنمية ولمن صوتوا لصالحه في حكومة ينظر الجميع إليها كأنها فيلم بالأبيض والأسود في زمن الألوان!

بكلمة، هناك حاجة ماسة اليوم قبل الغد، إلى موجة جديدة من المراجعات داخل حزب العدالة والتنمية، تُسائل الكثير من القراءات التي باتت أقرب إلى المسلمات، وتستنطق الكثير من المنطلقات التي باتت أقرب إلى المقدسات، مراجعات تأخذ بعين الاعتبار مختلف التحولات داخل الدولة وداخل المجتمع، لترصيد المكاسب التي تحققت لصالح الشعب، ولتوضيح المسار الذي يمكن أن ينجح فيه الحزب من موقعه الجديد في قيادة تيار مجتمعي، بعد أن تجاوز وضعية الجماعة الصغيرة التي ظلت تتلمس طريقها وتخشى أن يتخطفها الناس، مراجعات تستهدف النظر إلى المستقبل وتساهم في إفراز شروط تعاقد مجتمعي جديد تشارك فيه كافة القوى وكافة النخب.