منتدى العمق

الحاكم والمحكوم في ميزان ابن المقفع

يعد ابن المقفع قلما، حبره الأدب الرفيع، والرأي السديد، والفكر الدقيق، وبه تبددت فكرة خيانة الترجمة، الشيء الذي جعل أفكاره تجد صداها في نفوس الناس خاصتهم وعامتهم، وعند رجال الفكر والرأي، لمنطقية فكره وسداد رأيه ورجاحة عقله، فقد اجتمع ابن المقفعبالخليل بن أحمد الفراهيدي وتبادلا أطراف الحديث، فلما تفرقا قيل للخليل : كيف رأيته؟ قال: لن تلد امرأة مثله قبل ألف سنة وعلمه أكثر من عقله. وسئلابن المقفع أيضا: كيف رأيت الخليل؟ قال: لن تلد امرأة مثله قبل ألف سنة وعقله أكثر من علمه. بالإضافة إلى أن ابن المقفع يعد من أشهر المعارضين لسياسة الحكم التي ضلت طريق الشورى والديمقراطية في اختيار الحاكم والحاشية، فقطعوا لحمه حيا وشوي في النار أمام عينيه ولم يستجد ولم يستعطف بل دفعته جرأته للصدع بكلمة الحق إلى أن قال بيتين شعريين أثناء تعذيبه وقتله، خُطَّا بدمائه ولحمه حيث قال:
إذا مــــا مــــــات مـــــثلي ///// مـــــات بموته خلق كثير
وأنت تموت ليس يدري ///// بموتك الصغير ولا الكبير

في لمحة بسيطة خاطفة نشير إلى أن الباطل ضعيف وإن حاول الظالمون أن يظهروه قويا متماسكا، ومهما بذلوا من جهد لتمتينه، وقد عبر الله جل وعلا عن ذلك ضمنيا في سورة يوسف عندما قال “وغَلَّقَتِ الأبوابوقالت هيت لك” ذلك أن كلمة “غلَّق” بتشديدهاتفيد المبالغةوالتأكيد على أن الأبواب موصدةالغلق ومحكمة لدرجة يعسر فتحها، والغلق لم يختص بباب دون آخر بل شملها جميعها، ورغم إطباق امرأة العزيز للأبواب أخبرنا الله تعالى أنها سابقته نحو الباب “واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر”، ليدل هذا التعبير على أن فعل السباق نابع منهما؛ فلماذا سابقته وهي تعلم أنها أحكمت إغلاق الأبواب؟!!!لأنها تعلم أن الباطل ضعيف وحجته واهية فرغم أن ابن المقفع مات مقتولا لا يعني ذلك أن الباطل انتصر على الحق، فالحق باق والباطل دائما إلى زوال، إذا كان الملك أبو جعفر المنصور لم يقبل نصيحته وعدَّها تطاولا على مقامه، فقد عملت الدولة على تنفيذ نصائحه بعد قتله على يد سفيان بن معاوية والي البصرة بأمر من المنصور، فلم تذهب جرأته سدى، هذه الجرأة التي انعدمت في غيره ممن نشأوا تحت الحكم الأموي العاض الذي نشأ فيه ابن المقفع، القائم على توريث الحكم، وهي مهزلة تاريخية عرفها الحكم الإسلامي، ومظلمة شنيعة ارتكبت في حق الشعوب آنذاك ولا زالت مستمرة مع الحكم الجبري وهو خروج عن المنهج الإسلامي، فوجب على الأحرار والمؤمنين الوقوف ضده والعمل على تقويضه وإعادة المياه إلى مجاريها، ومما قام ضده علماء مثل التابعي سعيد بن جبير وابن المقفع وغيرهم، فتناولوا الحاكم والمحكوم أو الوالي والرعية أو الملك والشعب كما يحسن للبعض أن يسمي، من وجهة نظر مختلفة، ونركز هنا على وجهة نظر ابن المقفع لهذه المسألة، إذ تناول موضوع الحاكم في معظم أعماله في مقدمتها كتاباه الأدب الكبير و الأدب الصغير وكذا رسالة الصحابة والدرة اليتيمة، وكلها تتمحور حول الآداب العامة، والعلم الصحيح والسلوك السوي، ومن أهم القضايا التي شغلته في جل أعماله اختيار حاشية الحاكم، فعَدَّ صلاح الملك التام من صلاحها وفساده من فسادها الشيء الذي يدفعنا هنا أيها للتساؤل، ما هو معيار فساد الملك وقديما قال ابن خلدون ” إذا تعاطى الحاكم التجارة فسد الحكم وفسدت التجارة”، يا ترى هل ولج حكامنا هذا الميدان أم أنهم غاصوا في خدمة مصالح الناس والأمة؟!!!وهل استطاعوا أن يختاروا الحاشية المناسبة لصلاحهم؟!!!، ربما هذه الأرقام التي سنسردها ستجيب بشكل واضح عن هذا التساؤل. فحسب قانون المالية كما قال عبد الرحيم العلام إن أجور كل من الملك ونواب البرلمان والحكومة وميزانية البلاط تكلف خزينة الدولة المغربية أرقاما مالية خيالية وأنقل لكم بعضها:
237,164750 درهم شهريا؛ أي: 23,716,475,000 مليار سنتيم شهريا؛ أي:790,549,166 مليون في اليوم؛ أي ما يعادل توظيف 47,432 معطل براتب شهري مقداره 5000درهم وهذه بعض التفاصيل:
– الملك: 2576769000 درهم في السنة (ميزانية البلاط حسب قانون المالية)؛ أي 214730750 درهم في الشهر، أي 21473075000 سنتيم شهريا ( 715 مليون سنتيم يوميا)؛ أي ما يعادل توظيف 42900 معطل براتب شهري مقداره 5000 درهم…………………………………………………………………………
– البرلمان (أجور البرلمانيين فقط، أي من دون احتساب المصاريف): 20034000 مليون درهم في الشهرأي 2 مليار و 34 مليون سنتيم في الشهر.

مع العلم أن الحاكم كان يختار عقول ربات الحجال من الناس وسفلتهم ليقوموا بأعمال أقل ما يمكن أن نقول عنها إنها ليست أخلاقية وغير إنسانية، فهذا عبد الملك بن مروان قد نصَّب الحجاج واليا على العراق كان سيفَه المسلول، فقام بقتل كبار الصحابة كعبد الله بن الزبير، وكبار العلماء التابعين كسعيد بن جبير، الذي قال فيه الإمام أحمد : “والله لقد قتل سعيد بن جبير، وما أحد على الدنيا من المسلمين، إلا وهو بحاجة إلى علمه”. مثل هذه الأفعال الإجرامية جعلت ابن المقفع يركز على هذه القضية ونبه أيما تنبيه الحاكم إلى التروي في اختيار الحاشية لما لها من دور مهم في صلاح الحاكم والمحكوم، فصلاح الحاشية يؤدي إلى صلاح الحاكم وصلاح الحاكم يؤدي إلى صلاح الرعية، ويرى ابن المقفع أن “الولاية ابتلاء” من الله عز وجل من ابتلي بها عليه أن يوطن نفسه على نكران الذات، قال الله تعالى” يوثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة” وأن يستعين بالأخيار قال في مقدمة الأدب الكبير: “إن ابتليت بالإمارة فتعوذ بالعلماء، واعلم أن من العجب أن يبتلي الرجل بها”، وقال في مقدمة “الأدب الصغير” ” ولاية الناس ابتلاء عظيم” فولاية الناس تكليف وليست تشريفا وعلى طالبها أن يروم رضا ربه بخدمة الصالح العام لا أن تُصدر باسمه أحكام غاشمة كما وقع لمناضلي حراك الحسيمة، الذين حكمت عليهم المحكمة الابتدائية ب 18 شهرا سجنا، وكذا الأحكام الانتقامية على مناضلي قبيلة أولاد الشيخ، الذين قاموا ضد قرار عزل إمام مسجدهم. وقد قدم ابن المقفع نصيحة للحاكم أن يعوِّد نفسه الصبر على من خالفه، والتفرغ لأمهات القضايا من هنا يصير أمره نفع وطنه لا ملذاته ورفاهيته والانصياع لأهوائه، وقدم ابن المقفع الحاكم في صورة الخادم للرعية وصلاحها من صلاحه وفسادها من فساده قال في رسالة الصحابة ” حسن رؤى الرعية من حسن سياسة الحاكم، وصلاحها من صلاحه”، ولتأكيد نظرته للموضوع والتأكيد عليها ردد عبارة ” الناس على دين ملوكهم” في أماكن شتى من كتاباته إذ يعتبر الحاكم السبب والمسبب كل منه وإليه وخير نموذج نمثل به لهذا الطرح عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه تعالى.

لم يفت ابن المقفع أن ركز اهتمامه أيضا على الجيش، ودعا إلى إبعاده عن النفوذ في الحياة السياسية والاقتصادية والحرص على إشاعة العدل الذي أصبح منعدما في هذه الأيام، وتعالت أصوات الظلم والفساد ومما يدل على ذلك ملف الأساتذة المتدربين المرسبين والإعفاءات وأحداث قبيلة أولا الشيخ، وما عرفته الحسيمة من أحداث وأفعال إجرامية ارتكبتها الدولة في حق مواطنين عزل لم يحملوا حجرا ولا سكينا، حملوا شعارات يطالبون من خلالها بحقوقهم العادلة والمشروعة، ودعا ابن المقفع أيضا إلى الانتصار للمظلوم، والضرب على يد الظالم ، فما بالك إذا كان الحاكم هو الظالم، هنا يبدأ دور الرعية ، قال الله تعالى ” ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وقال ابن خلدون ” الظلم مؤذن بالخراب”.