منتدى العمق

حكاية علم

وسط فرقته الموسيقية، وعلى شاكلة منتخبات كرة القدم، اصطف المطرب عبد الله الداودي لتحية العلم الوطني المغربي و ترديد النشيد الوطني بتحية عسكرية، بعد الانتهاء من أداء وصلته الغنائية بمهرجان موازين. المغنى عبر عن حبه لوطنه “الأم” بتحيته الملك في أخر أغانيه ملتحفا العلم الأحمر و الأخضر، قبل أن يغادر ليتسلم شيكه السمين و يشد الرحال لوطنه “الزوجة”: الولايات المتحدة الأمريكية.

وطنية اختزلت في أداء المغنيين و المغنيات لوصلات موسيقية بعشرات الملايين ملتحفين الأعلام الوطنية فرحين بها، مع أن جلهم لا يقيم بهذا الوطن العزيز، بل فقط يتعامل معه بمنطق موسم الحصاد، حيث يأتي وقت “الصابة” لكي “يجمع الغلة و يتغنى بالملة” قبل أن يغادر لوطنه الحقيقي: أمريكا، كندا، مصر و الخليج.

وطنية خرجت شرائح كبيرة في الريف للمطالبة بها، لكن دون الالتحاف بعلم المغرب، مفضلين علم الهوية الأمازيغية التي يرى فيها الكثيرون كرامة سلبها وطنهم الأم لسنين عددا. وطن وصفهم بالأوباش و قاطعهم أربعين سنة، تاركا قطعة من دمه و لحمه فريسة تجار الحشيش، و رهينة ما تجود به أوروبا من تحويلات أبنائها المهاجرين المكافحين.
علم لا يظهر إلا مع متملق أو مدفوع أجر أو انتهازي. ظهر في مسيرة الحمير التي قادها حميد شباط ضد بنكيران في بداية سنوات ولاية المغفور له سياسيا. كما ظهر علم المغرب في مسيرة “البلطجية” و الناس “لي جايا ما عارفة لاش جايا”. مسيرة نظمها حزب الأصالة و المعاصرة ضربا في حزب بنكيران أواخر عهدته، فرأينا “الشماكرية” و الشباب العاطل يحملون الأعلام، بعد أن دفع لهم مدعين حماية الوطن من الأخونة !
الوطنية افتخر بها مسئولونا عندما هتفوا بالنشيد الوطني بعد رجوعهم “لأمهم أفريقيا”، و نسو و تناسوا أن كثير منهم حرم أبناء الوطن من العيش الكريم نهبا و سرقة و إفلاتا من العقاب. غيرة وطنية يعبر عنها مسئولونا غير المسئولين بصدق أكبر عندما يطلبون جنسيات دول أخرى، و يتحدثون بلغة أمهم فرنسا في ملتقيات تفخر كل دولة فيها بلغتها و هويتها. وطنية تظهر بقضاء “الويك أند” في فنادق باريس و لندن بعد الانتهاء من رعي القطيع مساء كل جمعة، على حد تعبير وزير التشغيل السابق: الصديقي.

وطنية يتشدق بها مسئولون في البرلمان معروفون بأكلهم الغلة و سبهم الملة في السر، لكن في الجهر هم مستعدون لحمل السلاح لمحاربة البوليساريو حماية لتراب وطنهم العزيز.

العلم الوطني لم يعد يعرف له المغاربة طعم و لا لون. اختفى من طوابير الصباح المدرسية، بعد أن تحولت مؤسسات تعليم الوطن من التربية و التعليم، إلى الجريمة و المخدرات و شراء المتعة مع “بنات الليسي” في سويعات مقابل دراهم معدودات happy hours .

علم لم يعد دلالة المواطنة و المساواة بين مختلف مكونات الأمة المغربية في ما يشبه كلمة السواء التي بشر بها محمد صلى الله عليه و سلم: لا إله إلا الله. لا فرق بين غني و لا فقير، و لا أبيض و لا أسود، و لا عربي و لا أمزيغي و لا صحراوي إلا بتقوى. تقوى القانون و احترام عدالة يجب أن تساوي بين الأفراد كأسنان المشط.

“حكرة” ورثها للشعب من يدعون أنهم يسهرون على حوزة الوطن و سلامة أراضيه، لكن ليس كرامة مواطنيه. فأصبحنا نرى أعلام الهوية الأمازيغية ترفرف بدل الأعلام الوطنية، و هو ليس احتقار لجزء من تراثنا و ثقافتنا كمغاربة، إنما تحذير مما قد يحدث.
قد يأتي على المغاربة حين من الدهر يتخندقون علنا تحت الطائفة و المنطقة و اللغة و اللهجة، فيسلكوا مسالك العراق و سوريا، حيث الجار يقتل جاره على الهوية و الانتماء. في تشبه بعالم الغابة، حيث الولاء للون الجلد بين قطعان الحيوانات، فلن تجد حمارا وحشيا يحاور فرس نهر !

كلمة السواء و جامع المواطنين الوحيد يجب أن تكون المواطنة لا غير. مواطنة تجمع تحت ظلها كل فئات المجتمع بمعايير الكفاءة و الإخلاص في العمل، و بضمانات العدل و المساواة و معاقبة المسيء قدر إساءته و مجازات المحسن قدر إحسانه.
” إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع و هو شهيد”.