وجهة نظر

الملكية ومأزق الشرعية بعد تعنيف المحتجين

علاقة العوام بالملكية في المغرب ليست كأي علاقة عادية من التي تجمع بين حاكم ومحكومين في أي بلد، فهي ليست بالضرورة قائمة على طبيعة “الخدمة” التي سيقدمها ذلك الحاكم للشعب والتي في مضمونها هي الميثاق الذي يجمع الطرفين، بقدر ما أن الناس في هذا البلد تنظر إلى الملك ك”ضرورة شرعية” بالأساس وليس كحاجة سياسية واجتماعية، لذلك فقد ظل المواطن في المغرب ومنذ قيام الدولة يتعامل بمنطق أنه هو من يجب أن يقدم ويضع خدماته تحت تصرف السلطان (الشريف) وليس بالعكس.

وإذا كانت المخيلة الشعبية غنية بالصور والأحداث والأساطير التي تعطي للمخزن قوة وعنفا وبطشا يستعملها إزاء العاصين والخارجين، فإن النظام السياسي المغربي يسعى إلى تثبيت هذه الثقافة الشعبية نظرا لمفعولها المؤثر في أوساط المجتمع بل شكلت هذه الصورة عاملا بارزا في ضمان الاستمرارية والتواجد على رأس سلطة الحكم المركزي بالمغرب طيلة كل هذه القرون.

وفي هذا الصدد يمكن اعتبار خروج الملكية منتصرة من معظم المعارك الكبرى التي كانت تهدد وجودها ليس مرتبطا بالضرورة بتفوقها أو كونها أكثر ذكاء من الآخرين، بل إن الأمر في جزء كبير منه مرتبط بمنظور وتعامل العامة من الناس مع “الملك” ومع دور السلطان (الشريف) داخل المنظومة، وذلك باعتباره “حاكم شرعي” يستمد حكمه من مشروعية دينية تستند بالأساس على نسبه الشريف كسليل للرسول عليه السلام، وبدرجة ثانية كأمير مؤمنين بمهمة حماية الملة والدين ووفق نص الدستور خلال مرحلة لاحقة.

فمنذ القدم والسلاطين العلويين كانوا دائمي الحرص على التغني بهذه المرجعية، لما لها من قدرة على إخضاع الرعية بشكل شبه مطلق، وذلك لما لعنصر الدين من أهمية في حياة العامة والمجتمع بشكل عام من جهة، ثم من توظيف واستغلال لذلك العامل الديني في “وجوب الإمامة من نسل قريش” كشرط ضروري لصحة إسلام الناس من جهة ثانية (حسب إحدى الأحاديث النبوية)، وهو الأمر الذي منح تلك الاستمرارية ونوع من السلاسة في ممارسة الحكم، كما شكل ذلك أيضا عاملا حاسما وفعالا لتبرير إخماد أي تمرد أو عصيان بشكل قاسي ووحشي في محطات كثيرة، وذلك كعقاب للخروج على طاعة الإمام وولي الأمر خاصة من بعض القبائل والمناطق فيما يسمى “بلاد السيبة”.

فاستناد المؤسسة الملكية والإحالة على المشروعية التاريخية ودورها التاريخي التحكيمي لترسيخ أقدامها كقوة مركزية متعالية على جميع الفرقاء والفاعلين، وذلك باعتبار الملك (الصالح) ينحدر من النسل والنسب الشريف، بما يمنحه قدرات وامتيازات لا تتأتى لغيره، حيث بسبب ذلك تكتسب السلطة السياسية ميزة خاصة تصبح بموجبها العلاقة بين الملك ورعاياه قائمة على الطاعة والخضوع لرمز وحدة الأمة، كما أنه يضفي على العلاقة مغزى خاصا، إذ إذا كان الدستور والقانون الوضعي يجعل هذا الانضباط واجبا مدنيا، فإن الشريعة من خلال البيعة تجعله واجبا شرعيا.

المعطى الجديد الذي لا تستطع الملكية التغاضي عنه ولا مواجهته هو أن الجيل الجديد لم تعد تهمه المعادلة السابقة أو المنطق التاريخي الذي تحكم في طبيعة العلاقة بين الملك والرعية سابقا، والتي عاش بها الآباء والأجداد وشكلت ميثاقا لعلاقتهم بالسلطة الحاكمة.

بل إن التاريخ يحتفظ بالعديد من المحاولات من لدن أشخاص أو أطراف من التي صارعت سلطة العلويين على الحكم بالمغرب، حيث كان القاسم المشترك بينها أنها قد لعبت كلها على هذا العامل كأساس في عرض نفسها كبديل للنظام القائم، فالفرنسيين مثلا سعوا إبان فترة الحماية إلى تنصيب الجنرال محمد الكتاني رئيسا ل”جمهورية المغرب” وعندما لم تنجح الخطوة جربوا الأمر مع “ابن عرفة” كبديل لمحمد بن يوسف، كما نافس الكتانيين كذلك نظراءهم من العلويين على نفس المرجعية وسعوا للحلول محلهم، فيما سعى الألمان إلى إعادة المولى عبد العزيز إلى ملكه الضائع، أما الاسبان ففكر الجنرال فرانكو بطلب ملك العراق ليرسل أميرا من السلالة الهاشمية لتنصيبه ملكا على شمال المغرب…، بما يعني أنه حتى مع القوى الاستعمارية الأجنبية كانت مؤمنة أشد الإيمان أن أسرع طريق لإخضاع المغاربة هو من هذا الاتجاه.

بالمقابل كذلك سعى النظام خاصة في مرحلة الاستقلال إلى إعطاء ذلك صبغة حداثية وقانونية من خلال العديد من الفصول في مختلف الدساتير التي عرفها المغرب خلال تاريخه الراهن، وهي نفس الفصول التي تقف دائما ضد أي مشروع أو محاولة تسعى لخلخلة أو السعي لإحداث أي تغيير في بنية النظام. وذلك باعتقاد دائم بكون الملك وبوصفه أميرا المؤمنين يعد مرجعية قانونية أساسية سابقة على القانون الوضعي ، فالظهير مثلا كشكل من أشكال القرار الملكي كان دائما تشريعيا من الناحية التاريخية، كما أن عراقة وأصالة الملكية لا تنبثق من البنية المدنسة، فالأسبقية القدسية للعاهل تجعل منه مرجعية يمكن أن تعصف بذلك القانون الوضعي في أي لحظة .

بل وإلى حدود اليوم مافتئ الملك يعرض نفسه كٙحٙكم يسمو على كل الأطياف والتيارات السياسية ودائما ما يسعى للحيلولة دون ربطه بدعم وتأييد لطرف أو لأي فاعل سياسي بعينه دون الآخر، فقبل سنة مثلا شدد في إحدى خطاباته على تأكيد حياد المؤسسة الملكية بقوله أنه: ” ملك لجميع المغاربة مرشحين وناخبين، وكذلك الذين لا يصوتون، كما أنني ملك لكل الهيآت السياسية دون تمييز أو استثناء. وكما قلت في خطاب سابق، فالحزب الوحيد الذي أعتز بالانتماء إليه هو المغرب”.

لكن أين يتجلى المشكل في كل ما سبق إذا؟.

إن استمرار الملكية في المغرب إدارة شؤون الحكم بمنطق “المرجعية التاريخية والدينية” واستمرار التوظيف المكثف للرموز والدلالات الدينية الأسماء والألقاب (أمير المؤمنين، الخليفة، الأمة ..) أو المناسبات والأعياد الدينية، دعاء الجمعة والصلوات..).. وذلك بما يروم أساسا تصويغ شرعنة احتكار السلطة وتمرير ذلك بين ثنايا الحديث عن “مشروعية” النظام السياسي، فهي بذلك تخاطر بشكل كبير وصريح على وجودها، كما أنها بذلك تجعل مسألة وضعية البلد برمته رهينة منطق غير عقلاني قروسطوي ومتجاوز في إدارة شؤون الدولة، حيث ستجد نفسها إذا لم تعد كثيرا من حساباتها اليوم قد تجاوزها التاريخ وبالتالي ستجد بحكم الأمر الواقع غير قادرة على الإجابة على أسئلة المواطن المختلفة ومعالجة أي من مشاكله الاقتصادية والاجتماعية ب”منطق دنيوي”.

فالمشكلة أن المعطى الجديد الذي لا تستطع الملكية التغاضي عنه ولا مواجهته هو أن الجيل الجديد لم تعد تهمه المعادلة السابقة أو المنطق التاريخي الذي تحكم في طبيعة العلاقة بين الملك والرعية سابقا، والتي عاش بها الآباء والأجداد وشكلت ميثاقا لعلاقتهم بالسلطة الحاكمة.

فالجيل الجديد من المواطنين اليوم ليسوا مستعدين للعيش في جلباب “الرعايا”، كما لم تعد لهم نفس نظرة سلفهم بكون الملك “ضرورة شرعية” يشكل الاستغناء أو معارضته خروجا عن الدين (الجماعة). بما يعنى حتى أن إحدى أكبر الركائز التي بنت عليها الملكية مشروعيتها أصبحت تتآكل شيئا فشيء وتفقد معها أهميتها الحيوية للنظام.

فميل هذا الجيل نحو النموذج المدني للدولة يفقد السلطة ورقتها الأهم والتي كان في مضى يتم بها تبرير كل ما يصدر عنها من ممارسات، ويتم على أساسها تعريض العوام لعملية تنويم عامة عن أي سلوكات أو سياسات غير سوية تصدر عن الحاكم.

وهو ما يجعل حتى مسألة السعي للتحايل على الأمر والظهور بمظهر النظام الحداثي المواكب لتطورات العصر، من خلال الملكية الدستورية “المنفتحة والمتنورة” غير مجدية، بل الأخطر من هذا أن المواطن في طريقه فعلا لفقدان الثقة في أي عملية إصلاح مستقبلية يتبناها النظام الملكي في ظل عمليات النكوص التي تتم بعد كل محاولة إصلاح مفترضة.

حيث أصبح هذا الجيل مدركا أن تلك المبادرات الإصلاحية بين الفينة والأخرى تدخل ضمن التأويلات والتجديدات التي يسعى النظام إليها دائما لتكييف بنيته ومشروعيته حسب كل مرحلة، لكن دون أن يمس ذلك حقيقة جوهر ومضمون الأشياء، وهو ما يجعلها لا تؤثر بايجابية على صناعة القرار أو تغير شيئا من المنطق غير السليم الذي تدار به الدولة، خاصة وأن التاريخ و التجربة بينت أكثر من مرة أن الملكية لا تتوانى في توظيف مشروعيتها الدينية كسلاح قابل للاستعمال وفي أي ظرف من الظروف ودون أن يكون مضطرا للرجوع إلى الدستور خاصة ضد المعارضة.

هذا الأمر جعله معه كون المطالب والأصوات الداعية إلى التدخل الملكي في الحراك الاجتماعي في منطقة الريف لم تعد بذات الأهمية كما في السابق، بل حتى تدخل الملك كحكم قد لن يكون مرحبا به كما كان الأمر سابقا، خاصة وأن الجميع يعرف أن كل القرارات والإجراءات من اعتقالات وتدخلات أمنية ضد المحتجين كانت بأمر ملكي أو على الأقل تمت بعلم منه، فكل يوم تصله كله التفاصيل عن ما يحدث وبالتالي لا يخفى عليه شيء.

بل يبقى الشيء الأكثر خطورة على الملكية هو أن تصل إلى مرحلة يكون فيها سؤال “شرعية النظام” الذي كان مقتصرا فيما مضى على بعض التيارات الراديكالية من اليسار واليمين فقط مطروحا كذلك بين الناس العاديين والبسطاء.

فصحيح أنه إلى حدود اليوم لا يزال الكثيرين حريصين على عدم توجيه اتهامات مباشرة لرأس النظام، لكن الأمور لن تبقى على حالها كثيرا، بل من يتمعن في الخطاب المتداول من على مواقع التواصل الاجتماعي سيجد بوضوح أن هناك تزايد غير اعتيادي لتوجيه أصابع الاتهام لشخص الملك كمسؤول مباشر عن كل التدخلات الأمنية العنيفة ضد المحتجين، وبالتالي كمسؤول عن الأزمة برمتها.

فاستمرار الملك في التعامل بنفس المنطق البابوي والأبوي مع الشعب/الرعية في تدبيره لأزمة الريف يجعل معه طرح سؤال “شرعية النظام” على المحك وبشكل جدي، فالأزمة وصلت لشهرها الثامن مخلفة خسائر باهضة لا على مالية البلد ولا على مسألة تأثيره السلبي على “الشعور الجمعي” للمواطنين بالمنطقة والذي يتزايد يوما بعدا ليكون احتمال تحولها لعقدة نفسية تاريخية من النظام أكبر من أي وقت مضى، لكن على الرغم من ذلك لم يكلف نفسه حتى عناء خطاب بسيط موجه للمواطنين لمعرفة تصوره للأزمة أو على الأقل لتهدئة الأوضاع ورفع يد السلطة الأمنية على المحتجين.