وجهة نظر

في الفقه السياسي .. رؤى نقدية لجدلية الفصل والوصل

الجزء الأول ..

إن الفقه الإسلامي يقصد إلى ضبط السلوك البشري بأحكام الله تعالى وذلك من حيث بيان حكمهوحاكميته على الفعل البشري، وضبط فعل المكلف بمقاصد الشارع في الحال والمآل، فيصير الإنسان في حياته عبدا لله اختيارا كما هو عبد لله اضطرارا، ومن جملة ما يضبطه الفقه الاسلامي ويحكمه: تصرفات المكلفين، وعلاقاتهم الاجتماعية، ومن جملتها علاقاتهم السياسية وتدبير شؤونهم العامة.

ولا شك أن المتتبع للساحة العلمية والثقافية يجد ركاما كبيرا من الدعاوى تزعم في مجملها أن الإسلام قاصر عن إيجاد نظرية سياسية تؤصل لمفاهيم الحكم والسلطة والمواطنة وغيرها، وهي دعاوى لا تسندها أدلة حقيقية، بل إن غالبها ظنون وافتراءات أريد لها أن تكون براهين على شيء موهوم ليس له تصور ولا تصديق في منظومة الإسلاموواقع الناس.

ونظرا لخطورة مثل هذه الدعاوى التي تؤول إلى محاولة إقصاء الإسلام من الحياة العامة وتدبير شؤون الحكم والسلطة والثروة، وجعله دينا حبيس رفوف التاريخ وطقوس العبادة، فإننا نرى في هذه المقالة القصيرة أن نعرض معالم تؤكد اهتمام الإسلام  بالجوانب السياسية وتنظميها وجعلها محكومة بأحكامه الشرعية والمصلحية على حد سواء، ومن ذلك:قصور نظر من يزعم أن الإسلام لا يتضمن نظرية سياسية:

ولعل من برز في هذا الزعم من داخل البيت الاسلامي الدكتور علي عبد الرازق _رحمه الله_ في كتابه (الإسلام وأصول الحكم) فقد زعم أن الإسلام لا يهتم سوى بالجانب النسكي والديني المحض من حياة الناس، وأن الفضاء الوحيد للإسلام هو قلوب ومساجد المسلمين، أما حياتهم العامة ومرافقهم المدنية والعسكرية فهو بعيد عنها لا يفقه منها شيئا ولا دخل له فيها !! وقد كفانا مؤنة الرد على هذا الزعم العلامة الشيخ الطاهر بن عاشور _رحمه الله_ في كتابه الذي تولى فيه كشف زيف مزاعم علي عبد الرازق، ومن جملة ما يُرَد به عليه أن الله تعالى جعل الإمامة في الدين والدنيا أحد المقاصد الحضارية للأمة بعد التمكين لها في الأرض، يقول الله تبارك وتعالى (الَّذِينَإِنْمَكَّنَّاهُمْفِيالْأَرْضِأَقَامُواالصَّلَاةَوَآتَوُاالزَّكَاةَوَأَمَرُوابِالْمَعْرُوفِوَنَهَوْاعَنِالْمُنْكَرِوَلِلَّهِعَاقِبَةُالْأُمُورِ) ، يقول الطاهر ابن عاشور “وأماالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلتنفيذ قوانين الإسلام بين سائر الأمة من تلقاء أنفسهم” .

فمفهوم التمكين في الأرض مفهوم حضاري قوامه تنزيل أحكام الشريعة على واقع المكلفين من موقع السلطة والولاية العامة على الأمة. ومما يزيد الأمر بيانا وعد الله المؤمنين أن يجعلهم خلفاء في الأرض ومسؤولين على تدبير شؤونها ومصالحها في إطار وظيفة العبادة والاستخلاف الحضاري، يقول الله تبارك وتعالى {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض} [النور: 55].

فمفهوم الاستخلاف فيه من الدلالات الساطعة على أنه تجل من تجليات الحكم والتسيير وتدبير موارد الأرض برؤية مؤمنة ومسلمة، وهذا من فقه السياسة الشرعية في التصور القرآني العظيم.اقتصار من يهاجم الفقه السياسي الإسلامي على تنظيرات كتب لا علاقة لها بفقه التأصيل للسياسة الشرعية، وذلك كاقتصارهم على ما ورد عند ابن خلدون في مقدمته أو كتاب الأغاني للأصفهاني وغيرهما من كتب الأدب والتاريخ التي لم تعن بالتأصيل للنظرية السياسية في الإسلام، وهذا خطأ منهجي فادح، فكيف يطلب التأصيل في غير مظانه؟ !

والحال أن كل العلوم تؤخذ من منابعها الأصلية، والفقه السياسي من الفروع التي ينبغي تلمسها في كتب الفقه وتنظيرات الفقهاء واجتهاداتهم المصلحية .. ولعل من أفنى جزء من عمره لكشف هذا الزيغ من هؤلاء المنتقصين من التراث السياسي الاسلامي هو الدكتور محمد نصر عارف في كثير من كتاباته وأهمها كتابه (في مصادر التراث السياسي الاسلامي)، وهو كتاب نذر فيه على نفسه أن يكشف خبط وغلط من وقع في إشكالية التعميم قبل الاستقراء والتأصيل وهذا الذي زعمه هؤلاء الباحثون منه وشاهد عليه.

بيان أن القرآن الكريم على وجه الخصوص والسنة النبوية بالتبع صرحا بأصول الحكم الاسلامي والسياسية الشرعية ومبادئها الكلية، وذلك مثل الشورى والعدل والحرية والاستقامة ومراعاة المقاصد الشرعية، وتكثير المصالح وتقليل المفاسد، حتى وصل الأمر بالفقهاء إلى تقعيد قاعدة فقهية تضبط مجال اشتغال الحاكم وتحدد نطاق عمله، وهي قولهم (تصرف الحاكم منوط بالمصلحة) وهي المصلحة الشرعية التي لا تنساق وراء الأهواء والتبريرات غير المنضبطة والمتجردة لله تعالى.

إن دائرة الفقه السياسي الاسلامي ونطاقه لم تنص عليه النصوص الشرعية ولم تحجر عليه، بل اكتفت ببيان الأصول والمبادئ والأحكام الكلية التي ينبغي أن ترجع إليها كل التصرفات والاجتهادات السياسية، وما عدا ذلك جُعل للعقل المجتهد الفردي والجماعي في نطاق مراعاة المصالح وتكثيرها ومراعاة المفاسد وتقليلها، وبهذا يكون الاسلام قد صبغ النظرية السياسية بالاجتهاد المصلحي بعيدا عن التنميط السياسي لنموذج السلطة والحكم.