مجتمع

روبورتاج: عمال البناء بالمغرب.. بين “الأعمال الشاقة” وضحالة الأجور

مياومون وعمال دائمون يساهمون في رفع نسبة الساكنة النشيطة بالأعمال الشاقة

عثمان واسو – العمق المغربي

هم شباب وأناس يقتربون من الشيخوخة، اختاروا هذه المهنة الشاقة لكسب قوت يومهم بطريقة شريفة، تجدهم ينتظرون فرصة شغل في “المواقف”، يستيقظون مع الظلام وينتهي عملهم مع الظلام في غالب الأحيان، وفي بعض المرات يلجئون إلى ما يسمى ”العطش” لينهوا عملهم باكرا، شعارهم الدائم هو التقشف لادخار دريهمات قليلة، تأتي عليها مصاريف التنقل إلى حيث يقطنون بعد أشهر من الغياب في المدن الكبرى التي تعرف انتعاشا بسيطا في قطاع البناء عكس بلداتهم وقراهم البعيدة، وتأتي على الباقي مصاريف بيت الأسرة حيث الوالدين والإخوة الصغار الذين يتابعون دراستهم، أو مريض ينتظر ما تجود به جيوبهم الصغيرة لشراء الدواء.
http://al3omk.com/content/uploads/2017/07/596743460082bed733d60082c054fa160143ff24d8a6017fff6de9460180000dbdb601814d841416018264da6ccf.jpg
بهذا الربورطاج المكتوب، سنقتحم بعض الأسوار الحديدية المنصوبة على طول الشوارع في المدن والبوادي لننقل لكم ما يجري داخل بعض أوراش البناء، ونجالس بنائين قدامى وجدد لنعرفكم على آمالهم وأحلامهم وانتظاراتهم تحت الرافعات، فمن تكون الفئة العمرية التي تلجأ إلى العمل في البناء؟ من هم وما هو توطينهم في المملكة؟ ثم هل يستمرون في مهنة تهدد صحتهم وتهدّها يوما بعد يوم؟ التحقيق الذي بين أيديكم سيجيب عن هذه الأسئلة وغيرها، لنتابع…

الأوراش الشاقة
http://al3omk.com/content/uploads/2017/07/596743460082c0cce1b6013e69a1616c.jpg
قبل شهور أتت الجرافات على جزء كبير من أحد أقدم الأحياء الصفيحية في العاصمة الرباط، دوار الكورة الذي سيصبح بعد ذلك في خبر كان. بعد ذلك بأيام قليلة أصبح المكان محاطا بسور حديدي ليصبح مشروع بناء عمارات من أربع طوابق، كان هو أول ورش بناء في جولتنا لإنجاز هذا الروبورطاج للتقرب من حياة عمال البناء.

الفضاء توجد فيه ست رافعات مثبتة بشكل دقيق لتسهيل نقل كل ما سيحتاجه العمال بعد تجاوز الطابق الأرضي. كان الكل نشيطا ويعمل بجد، بعد جولة صغيرة ضربنا موعدا مع أحدهم للدردشة معه، بعدما وجدناه ينتظر استخلاص أجرته النصف الشهرية والمعروفة ب”الكانزة” والتي قال لنا إنها تتأخر دائما من يومين إلى أربعة أيام عن موعدها الذي من المفروض أن تصرف فيه.

بعفوية كان يجيبنا موحى على أسئلتنا، وهو شاب من مواليد 1989 في الجنوب الشرقي من ورزازات بالضبط، قبل ولوجه أقسام الدراسة جلبهم والده الفلاح إلى ضيعة فلاحية يعمل فيها منذ سنوات في ضواحي وجدة، كان الوالد قد سئم الرحلات المتكررة والمكوكية من وإلى حيث يوجد منزله وأسرته الصغيرة، لذلك قرر الأب ذات يوم رفع لافتة احتجاجية في وجه مشغله مكتوب فيها بالخط العريض مطلبه بالالتحاق بالزوج نيابة عن زوجته وكذلك كان.

تابع موحى دراسته في الداخلية في مرحلته الإعدادية بعدما كان يسافر راجلا ولمسافة سبع كيلومترات ذهابا وإيابا لمتابعة دراسته في الصفوف الابتدائية، قضى بعد ذلك في الداخلية سنتين فقط ليضع حدا لمسيرته الدراسية نظرا لقلة ذات اليد، التحق مباشرة بسوق الشغل وعمره لا يتجاوز ستة عشر ربيعا في ملبنة بمبلغ شهري لا يتجاوز الست مئة درهم، كان يقوم بخدمات مضنية ولساعات عمل لا تنتهي، كانت من الظلام إلى الظلام، من مسح زجاج الواجهة مرورا بغسل الأواني ومسح الطاولات وصولا إلى إعداد طلبات مرتادي المحل لمدة عام كامل.

في عيد ميلاده السابع عشر الذي تصادف بوجوده في حافلة تقله إلى العاصمة الاقتصادية حيث ينتظره خاله “المْعلم”، وفي نفس الوقت مقاولا صغيرا في البناء، في الصباح الباكر فتح عينيه على المدينة التي تسير بسرعة ولا تعرف التأني، رافقه الخال مباشرة إلى حيث يعمل، كان الورش صغيرا وكان خاله مشرفا عليه، كان ذلك أول عمل له في البناء، في ذلك النهار كلفه بنقل الأكياس الثقيلة من مكان إلى آخر، ونفس الشيء للآجور وجلب أسطل المياه لتحضير الخليط الإسمنتي “لْبغلي”. ورغم عمره الصغير وكون المشرف قريبه لم يشفع له ذلك بتاتا لأخذ قيلولة مطولة لإزالة تعب السفر الطويل.

في المساء انحشر موحى في باص مزدحم ومتاعه القليل بجانبه رفقة الخال وأبناؤه متجهون إلى الغرفة التي توجد في حي شعبي، لتبدأ فصول حياة جديدة عنوانها عامل بناء متنقلا بين العديد من المدن مقابل أجر هزيل لا يوازي ما يقوم به من خدمات شاقة.

الورش الثاني الذي قصدناه كان بين مدينتي سلا والقنيطرة وبالضبط قبالة شاطئ الأمم، وهو عبارة عن ورش ضخم لبناء الفيلات والشقق الفاخرة. استقبلنا السيد سكو بحفاوة والساعة تشير إلى الثانية عشر، وهو موعد خروجه مؤقتا لتناول وجبة الغذاء البسيطة قبل مواصلة عمله الشاق، مررنا من مكان وسط الورش وهو عبارة عن مقاهي بنيت على عجل وبشكل عشوائي تقدم فيها بعض النسوة القاطنات في الدواوير القريبة أكلات عبارة عن القطاني كالعدس وغيره والطواجن لعمال البناء الذين يفضلون الأكل خارج المسكن.

الشركة قامت ببناء حي عشوائي للعمال وسقفته بالقزدير وزودته بالكهرباء وأنبوب مياه ومرحاض على رأس كل زقاق وأحاطت الكل بسور حديدي، كما قام المشرف على العمال بترقيم ”الغرف” لمعرفة الشاغرة منها في حالة أرادوا إضافة العمال الجدد، دلفنا إلى غرفة سكو المتواضعة التي يقتسمها مع زميل له، الحديث معه كان ذو شجون، ولما لا وهو الذي يزاول عملا مضنيا، وبعيد عن أسرته الصغيرة المكونة من زوجة وثلاثة أبناء يزورهم في العيدين ومرة كل ثلاثة أشهر، “طرف الخبز صعيب” هكذا يقول بين جملة وأخرى. كأغلب عمال البناء فسكو لم يترك أية مدينة في جهات للمملكة إلا وعمل فيها، عمل في الناظور وطنجة والدار البيضاء بشكل كبير.

يتقاضى نهاية كل أسبوعين ألف وخمسمائة درهم، ويعمل ما معدله تسع ساعات يوميا، وبالتفصيل الدقيق فإنه يتقاضى نظير ساعة من العمل ثلاثة عشر درهما تخصم منها ثمانون سنتيما لفائدة الضمان الاجتماعي. بالإضافة إلى مائتي درهم عن كل ابن.

الأيام المطيرة بالنسبة لسكو ولجميع البنائين في كثير من الأحيان تعتبر بمثابة أيام يقابلها الخسران ماديا، لأن الأمطار التي تدوم أياما عديدة تجعلهم يجلسون بدون عمل، ولأن العمل في مجال البناء الذي ليس فيه أي إجازة مؤدى عنها فإنهم يضطرون للجوء إلى مدخراتهم البسيطة في انتظار انحسار الأمطار لمواصلة العمل.

بناؤون مثقفون

العمل في البناء لا يقتصر على ذوي المستوى التعليمي المحدود أو من لم يسبق لهم أن ولجوا المدرسة وجلسوا على مقاعد الدراسة يوما، بل يتجاوزهم الأمر إلى شبان تدرجوا وانتقلوا بسلاسة بين المراحل التعليمية إلى حين وصولهم إلى الجامعات للحصول على شواهد عليا.

يوسف طالب مجاز يتحدر من الجنوب الشرقي، اختار بعد حصوله مباشرة على الاجازة السفر إلى مدينة تمارة للعمل في ورش البناء تاركا وراءه كل ما تعلمه من المدرسة إلى الجامعة، كان قد عوّد يديه الرطبتين على حمل القلم وتخزين الدروس في العقل بعد ليالي السهر الطويلة، أما الآن فقد آن الآوان لأن يتخلى عن كل ذلك وصار لزاما عليه تعويد يديه على الخشونة والجروح وعوض الاعتماد على العقل، فمن الآن فصاعدا عليه أن يعتمد على قوته الجسدية النحيلة، في اليوم الأول تعلم أبجديات العمل، وكأي جديد في الأوراش كلف بعدة أشغال وأوامر لا تنتهي إلا لتبدأ، حمل الأكياس، نقل الرمال من مكان إلى آخر، نقل الآجور، جمع أكياس الاسمنت الفارغة…

وبعد مدة شهرين قرر أن يبحث عن عمل آخر وكان الأقرب هو طرق أبواب المدارس الخاصة للاشتغال كمدرس، في الحقيقة كمدرس وحارس وعساس للتلاميذ المشاغبين في أوقات الاستراحة، في نهاية المطاف كان قد غير عمل شاق بعمل لا يقل عنه شقاء في انتظار فرصة العمل في القطاع العمومي التي قد تأتي وقد لا تأتي لكنها في النهاية أتت.

يوسف وغيره من الطلبة يلجؤون إلى أوراش البناء، ليس بعد الإجازة فحسب وإنما خلال الدراسة الجامعية، إذ في كل عطلة صغيرة أو متوسطة أو العطلة الصيفية ينزح الآلاف من الطلبة إلى أوراش البناء القريبة للعمل، كمساعدين عابرين لتوفير بعض المال، يصرفونه في تسديد الديون المتراكمة في الكراء ودفتر قروض البقال القريب وشراء مستلزمات الدراسة كمساعدة جانبية منهم للمنحة الهزيلة التي تصرف لهم على رأس كل ثلاثة أشهر، على العموم حياة التقشف والسكن المشترك ونمط العيش لا يختلف بين “البنايا” والطلبة، يمكن تغيير الورش بالكلية فقط أو العكس ليصبح البنّاء طالبا أو العكس.

السلم المتحرك للبنائين
http://al3omk.com/content/uploads/2017/07/601368a20b586013ac9e8cd6018329b5d8e0.jpg
البداية تكون بعامل بسيط يبحث عن عمل من لا عمل له، وهو البناء، ويكون ذلك بالتوجه للورش، وهي أول درجة في تسلق سلم مهنة البناء، وهي درجة لا تتطلب أية تجربة مسبقة، وهو الأمر الذي يحتم على العامل الجديد تقبل أي طلب يطلب منه من طرف الآخرين، كنقل أكياس الاسمنت من مكان إلى آخر، ونفس الشيء للآجور والحديد وأكوام الرمل وحفر القنوات وغيرها.

بعدها ينتقل العامل البسيط إلى درجة المتعلم، وهي الدرجة التي يتم فيها تعلم أصول الحرفة عن قرب تحت إشراف الرئيس المباشر الذي يسمى “المْعلم”، هذا الأخير يكون في خدمته غالبا متعلمان على الأقل، يمدانه بما يحتاجه من خليط وحجر وآجور وغيرهم، ويتقاضى العامل في هذه الدرجة من سبعون إلى مئة درهم في اليوم حسب نوعية العمل الذي يقوم به، أما المعلم فيتقاضى من مئة وعشرون إلى مئة وخمسون درهما في اليوم.

بعد المتعلم تأتي درجة “المْعلم” وهو نوعان، مْعلم متخصص في الخشب ومْعلم متخصص في البناء، الخشاب يكون متخصصا ومتقنا لكل ما يتعلق بالخشب مثل تهييء خشب ”السواري” وهي الأعمدة الاسمنتية التي يعتمد عليها البناء وتكون غالبا على شكل متوازي المستطيلات قاعدتها عبارة عن مربع بعده يتراوح بين خمسة عشر سنتيمترا إلى خمسون سنتيمترا حسب حجم البناء وثقله، من المنزل البسيط وصولا إلى البنايات الكبيرة، وهناك شكل آخر ل”السواري” وهو عبارة عن أسطوانات.

قبل ذلك يكون على موعد مع تهييء “السوميلات” وهي عبارة عن حفر هندسية الشكل غالبا مكعب، وهي أساس الأعمدة الاسمنتية في الأرض، يتم تهييئها بالخشب استعدادا لملئها بالاسمنت والحديد والحجر الصغير. أما بالنسبة للمتخصص في البناء فهو يكون متقنا لكل ما يتعلق بالبناء من حيطان ووضع اللمسات الأخيرة لأي شيء تم بناءه.

بعد “المْعلم” تأتي مرتبة رئيس الفريق وبعدها رئيس الورش وهو الذي يشرف على الكل ويكونون تحت مراقبته طوال مدة الأشغال، وهناك أيضا ما يصطلح عليه “لبوانتور” وغيره وكل واحد يساهم بمسؤوليته في الورش.

ضحك البنايا حقيقة أم خيال

كثيرا ما نسمع ما يصطلح عليه في الأوساط الشعبية ب”لعب” أو “ضحك البنايا” وهو أمر لا يمت بأية صلة باللعب أو الضحك، كمعنى لين ومرن وباعث على البهجة والسرور، الأمر مخالف لذلك تماما إلى حد التناقض وفي أغلب الأحيان يتم إضافة بعض البهارات بشكل مبالغ فيه، ونظرا لطبيعة العمل في الأوراش الذي يبدو قاسيا وشاقا وتوفره على الآلات لتسهيل ما صعب من الأشغال من طرْق وحفر وشحن، كالمطرقات والفؤوس و”البالات” إلا أنها يمكن أن تتحول في أية لحظة خلاف إلى أداة لارتكاب جريمة تصل إلى حد إلحاق عاهة مستديمة أو قتل الأخر، كما وقع في مدينة تحناوت عندما دخلا بنائين في ورش في مزاح ثقيل ومميت، إذ سدد أحدهما إلى الأخر ضربة إلى الرأس بآلة “لبالة” ليرد عليه الأخر بالمثل وبنفس الآلة ولكن بشكل أعنف هذه المرة إلى الرأس لتخر قواه بسبب الجرح العميق وفقدانه لكمية كبيرة من الدماء، ليسلم روحه بعد مدة وجيزة نتيجة ضحك غير نبيل.

الكثير من الحكايات حول عنف “البنايا” تكون من نسج خيال من يحكونها، ولعل أبرزها على الإطلاق أن ضربة بيد البناء هي ضربة “البالة” نفسها، وهناك حكايات أخرى تقول أن البناء يهوي على زميله في العمل والسكن بضربة بواسطة قطعة خشبية “بلانشة” ليقول له “نوض تعشى”، على العموم، يمكن إدراج الظاهرة في نطاق المقالب والدسائس بين العمال، أغلبها من وحي الخيال لا غير.

عمال البناء.. من هم وما توطينهم؟

عمال البناء هم مواطنون يتحدرون من البلدات البعيدة والضواحي التي ينهشها الفقر والتهميش، هم أناس تتراوح أعمارهم بين بداية الشباب إلى الكهولة ولو بنسبة قليلة لأن أغلبيتهم يعتزلون البناء قبل ذلك، ويغيرونه بالتجارة غالبا، هم أيضا مواطنون من كل الفئات، متعلمون وأميون لم ينالوا حظهم من التعليم بسبب البعد عن المدارس، أو كونهم من أبناء الرحل الذين نزحوا إلى الضواحي بسبب الجفاف.

أغلب العمال في البناء يتحدرون بنسبة كبيرة من مدن الجنوب الشرقي كالراشيدية وكلميمة ووارزازات، وبنسبة متوسطة من نواحي أزيلال ودمنات والمدن القريبة منهما، وبنسبة أقل من مدن الخميسات وقلعة السراغنة وبني ملال، وعلى العموم الأغلبية الساحقة منهم يتحدرون من وسط المملكة.

أمال وإنتظارات

العمال في البناء مثلهم مثل كافة الحرفيين البسطاء وأصحاب الأعمال الشاقة لديهم أمال وإنتظارات لتحسين مستواهم المعيشي ولو قليلا، أولى الانتظارات كما استقينها من بعضهم كانت هي تقليص عمر التقاعد إلى أقل من الستين، لأنه لا يمكن لأي أحد منهم الاستمرار في الاشتغال في مهنة شبابية بامتياز إلى أكثر من ستين سنة لما تتطلبه هذه المهنة من قوة وصحة. من أمالهم أيضا، أن يعلموا أبناءهم للظفر بفرصة شغل تنقذهم جميعا من مذلة السؤال في أرذل العمر.

تعليقات الزوار

  • يوسف الريفي
    منذ 7 سنوات

    تحقيق واصف لجانب من حياة وآمال هذه الفئة المهمشة، مع أنها أساس تقدم أي بلد، فلولاهم لما شيدت الطرق، القناطر، المؤسسات، الموانئ، محطات القطار والحافلات، المنازل.....