منوعات

القباج يكتب: استقالة العماري وفشل مشروع الكذب السياسي

(صِدْقُ بن كيران ينتصر على كذب العماري)

النظرية السائدة تزعم بأن السياسة لا ينبغي أن تلتزم بالأخلاق الكريمة، وأن السياسي الناجح هو الذي يتحرر من قيود تلك الأخلاق؛ كالصدق والأمانة والرحمة ..الخ.

ومن هنا قال أحد المؤمنين بهذه النظرية؛ وهو (كوبلز): (اكذب ثم اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس).

و(كوبلز) هذا؛ هو صديق هتلر ورفيقه، وكان هو وزير الدعاية للنازية، وقد وصف بأنه أحد العباقرة في مجال الحرب النفسية، وأحد أبرز من وظفوا واستثمروا وسائل الإعلام في هذه الحرب ..

غير أنه كان صاحب الكذب الممنهج والمبرمج الذي يعتمد الترويج لمنهج النازية وتطلعاتها، ويهدف لتحطيم خصومها ..

وإذا كانت الفكرة النازية إحدى أكثر الأفكار التي نشرت الفساد والدمار في العالم؛ فإن “الكذب السياسي” كان هو العامل الأبرز الذي أدى إلى الترويج لتلك الفكرة ..

بتتبع مسار حزب الأصالة والمعاصرة منذ تأسيسه؛ يبدو لي أنه أحد الكيانات السياسية التي بنت مشروعها على الكذب السياسي وبيع الوهم للمغاربة ..

وهو سلوك استمر عليه وتمسك به السيد إلياس العماري حتى وهو يقدم استقالته في اجتماع المكتب السياسي لحزبه قبل أيام؛ زاعما أن هذه الاستقالة لم تكن خاطرة على باله حتى اطلع على تقارير الأداء البرلماني والجماعي لمندوبي الحزب؛ عندها قرر أن يستقيل!

هذه الاستقالة التي دُفِعَ إليها السيد إلياس العماري؛ هي نوع اعتراف بالفشل الذريع لمشروع قام على الكذب والنفاق واستمر كذلك؛ من كذبة: (حركة لكل الديمقراطيين) إلى كذبة: (قدمت استقالتي تحملا للمسؤولية وتجاوبا مع الخطاب الملكي)!

فلا الحركة كانت ديمقراطية .. ولا الخطاب والأداء كانا سببا للاستقالة .. ولا يُصَدّق الأمرين وما بينهما من مئات الكذبات إلا مغفل أو مُغيَّب أو طماع. (وما أكثر السياسيين الذين لهثوا وراء أكاذيب البام؛ فانطبق عليهم المثل المغربي: الطماع يغلبه الكذاب).

ولا بأس أن نستحضر هنا بعض تلك الكذبات التي رُوِّجَ لها للتسويق لهذا الحزب:

• أنه حزب الأصالة والمعاصرة
• أن حزب العدالة والتنمية أكبر مهدد للانتقال الديمقراطي
• البام هو من قرر عدم الحصول على المرتبة الأولى في انتخابات 2011
• العماري صديق الملك
• مزاعم عن المستوى المعرفي والفكري، والرصيد النضالي للعماري
• الوعود التي قُدّمَتْ لشباط ليشارك في مخطط إفشال حكومة ابن كيران الأولى

(بالمناسبة: أظن أن السيد حميد شباط هو أكثر المغاربة تضررا من كذبات البام؛ وكان قد فتح لها معدة جشعة؛ فامتلأت كذبا لدرجة التخمة التي جعلته يتجشأ ثم يتقيأ؛ ولم يجد دواءه إلا في صيدلية واحدة؛ هي: صدق بن كيران)

• أكاذيب متنوعة تستهدف تشويه سمعة بن كيران
• زعيم البام سينهض بالريف ويكفي الدولة مشاكله الموروثة والمتنامية
• الملك سيدعم البام ليحصل على الرتبة الأولى في الانتخابات الجماعية ل 2015
• مسيرة الدار البيضاء ضد أخونة الدولة
• إيهام الناخبين بأن التصويت على البام في انتخابات 7 أكتوبر مطلب ملكي
• مناورة فتح دور القرآن
• سبب استقالة العماري هو عجز المستشارين الجماعيين عن أداء واجبهم
• كون سبب الاستقالة هو التجاوب مع الخطاب الملكي ..

إلـخ لائحة طويلة من الكذب السياسي السمج والمكشوف …

أعتقد بأنه ليس في مثل هذا الكذب السياسي شيء جميل؛ ولو ترتب عليه شيء جميل؛ فهو أنه لم يصدقه المغاربة؛ مع ما سُخِّر له من إمكانيات كبيرة ..

وأظن أن من أهم أسباب فشل هذا الحزب في إقناع المغاربة بمشروعه؛ هو ما قابل كذبه من صدق تحلى به الخصم الأول لهذا الحزب: الأستاذ عبد الإله بن كيران؛ فصمود هذا الأخير وتمسكه بسلوك الصدق مع المغاربة؛ ساعد بشكل كبير على افتضاح كذب خصومه؛ ولو سلك بن كيران مسلك المراوغة والمداهنة؛ لربما وجدت تلك الكذبات (البّامية) سوقا تروج فيها ..

ومن أبرز محطات صمود الزعيم الوطني عبد الإله بن كيران: رفضه القاطع التلاعب بإرادة الناخبين بعد استحقاقات 7 أكتوبر الماضي؛ وتمسكه بخيار تجسيد إرادة الناخب في تشكيل الحكومة ومواصلة مسيرة الإصلاح ..

لقد تابع كثير من المغاربة باهتمام -وبشغف أحيانا-: فصول المعركة السياسية التي جرت بين بن كيران والعماري؛ والتي انتصر السيد بن كيران في كل فصولها التي تمت أمام الجمهور، انتصارات تُوِّجتْ برفع السيد العماري الراية البيضاء بإعلان استقالته؛ وهو ما يؤكد أن مشروع “الكذب السياسي” يمكن أن يُهزَم -مهما كانت إمكانياته- إذا وجد من يواجهه بصدق وصمود ..

لقد صدق الأستاذ بن كيران مع ملكه، ومع ناخبيه، ومع عموم المغاربة ..؛ بل ومع خصومه أيضا (وقد شهد كثير منهم بهذا الصدق؛ ومنهم من أعلن ذلك ..)
وقد أفرز صموده مشهدا حزبيا يتجاذبه حزبان اثنان بمشروعين:

1 مشروع يتحرى الصدق في تبني الخيار الديمقراطي والإسهام في استمرار ونجاح الإصلاح السياسي
2 ومشروع يتبنى نظرية الكذب السياسي وبيع الوهم للمغاربة ..

ولم يكن صعبا على المُشاهِد أن يميز بين الفجر الصادق والفجر الكاذب ..

وخلقَ صدق بن كيران وعيا متناميا لدى عموم المغاربة بحقيقة ما يجري في كواليس السياسة ..
وساعدت على انتصاره في هذه المواجهة: عوامل منها: حسن استغلال حزبه للإعلام البديل الذي أضحى مرآة مصقولة تكشف وتميز بوضوح الوجه الصادق من الوجه الكذاب ..

ومنها: تمسك النخب المغربية الوطنية بالخيار الديمقراطي وتنزيل مضامين دستور 2011؛ وهو موقف كثير من السياسيين والمثقفين والأكاديميين والإعلاميين الذين قاوموا كل محاولات الالتفاف على المضامين الديمقراطية المتقدمة للدستور، ومحاولات إجهاض تنزيل مضامينه ..

ومنها أيضا: حرص جلالة الملك -رئيس الدولة-؛ على أداء أمانته وتحمل مسؤوليته في ضمان نزاهة الانتخابات؛ (ومعلوم أن تزوير الانتخابات ومحاولة التحكم في نتائجها؛ هو أحد أبرز مظاهر الكذب السياسي الذي راج في مرحلة ما قبل الربيع العربي) ..

هذه العوامل -في نظري-؛ أسهمت بشكل كبير في فشل المشروع الكذاب لحزب البام؛ واضطرت أصحابه للخروج من الكواليس ومواجهة المغاربة ومخاطبتهم من أجل محاولة إقناعهم بذلك المشروع ..

ولما كان أصل المشروع قائما على الكذب؛ فإن ذلك الخطاب سيضطر إلى الكذب؛ فالمطلوب هنا هو إقناع المغاربة بصدق الكذب!

وهو أمر صعب في ظل العوامل المتقدمة؛ لذلك فشل السيد إلياس العماري الذي يمكن أن نصفه بأنه تنطبق عليه مقولة: “ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الناس كذابا”.

بل وصفه أحد أصدقاءه القريبين منه بأنه “يكذب بالقدر الذي يتنفس”!

وما دام صار هكذا عند الناس؛ فلا جدوى من بقاءه زعيما علنيا لهذا المشروع؛ فكانت الاستقالة المعبرة عن الفشل والهزيمة ..
لا أدري ما هو مآل هذا المشروع؟!

لكنني أرجو صادقا أن تستجيب الدولة لصوت الحكمة الذي ينادي بفسح المجال أمام أحزاب سياسية مستقلة وحرة؛ تتجلى فيها إرادة المغاربة وتُمَكّن من أداء دورها في تأطير المواطنين وخدمتهم بكل شفافية ومصداقية، في إطار الثوابت الوطنية؛ صوت الحكمة الذي ينادي بالقطع مع منهجية “اختلاق أحزاب وهمية” وتبذير الأموال والطاقات للنفخ فيها والترويج لكذبها السياسي ..

كما أرجو أن يخفت صوت العناد الذي ينادي ببقاء الأحزاب عرائس ذميمة تلعب بها أنامل مرتبكة في مسرحية هزلية تبكي أكثر مما تضحك ..

وإذا علا هذا الصوت -لا سمح الله- فهذا يعني استمرار مسلسل الكذب على المغاربة؛ الذين سيدركون بأن مشروع الإصلاح السياسي وهم وكذب: الإصلاحات الدستورية كذب، الخيار الديمقراطي كذب، مبدأ تداول السلطة بشكل شفاف كذب، نجاعة الإصلاحات الاقتصادية كذب، مغرب الحق والقانون كذب .. الخ.

هكذا ستبدو الصورة للمتابعين؛ وهي صورة قاتمة تولد اليأس وتغذي العزوف السياسي، وتُذْكي نيران الاحتجاجات الشعبية التي تؤكد المؤشرات والأحداث أن نسبتها في ازدياد ورقعتها تتوسع ..

لقد انتقد الخطاب الملكي بمناسبة ذكرى عيد العرش: السلوك الحزبي الذي أدى إلى جعل رجل الأمن في مواجهة المواطن؛ وهذا واقع بالغ الخطورة ..

لكن الأخطر منه؛ هو إقصاء القيادات الحزبية الوطنية الصادقة؛ والتساهل مع سلوك إنتاج كائنات حزبية كاذبة؛ لا تتحمل مسؤوليتها وتجعل المواطن في مواجهة المؤسسة الملكية ..

وقد أكد جلالة الملك في خطابه؛ بأن المشهد الحزبي لا يخلو من وطنيين صادقين؛ كما أكد الواقع بأن في الأحزاب السياسية رجال ونساء خدموا مشروع الإصلاح السياسي بصدق وأمانة، وجعلوا من أنفسهم حاجزا أمام الماكرين الذين يسعون لجعل المواطن وجها لوجه مع المؤسسة الملكية ..

والعقل والحكمة يناديان بضرورة استغلال هذا الواقع لخلق أداء حزبي وحكومي وبرلماني صادق قائم على الثقة المتبادلة والتوافق الوطني والتداول الديمقراطي للسلطة؛ في ظل المبادئ الدستورية ..

لم يعد لدى حزب الأصالة والمعاصرة رأس مال كاف يروج به الكذب ويبيع به الوهم؛ وهو ما كشفته احتجاجات الريف بوضوح لم يعد يحتمل التقية والمداراة ..

وأرجو صادقا أن تكون استقالة إلياس العماري خطوة نحو تخليق حقيقي وجاد للممارسة السياسية والاقتراب بها من الصدق الذي يهدي إلى البر؛ مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر .. وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور ..”. [متفق عليه].

والبر يشمل معاني منها: الإصلاح السياسي والعدل وأداء الحقوق؛ كما أن الفجور يشمل الفساد والفجور السياسيين بكل أشكالهما ومظاهرهما ..