أخبار الساعة، أدب وفنون

شهادة القاص عبد الواحد كفيح بمناسبة أربعينية الروائي محمد غرناط

نظمت جمعية الأنصار للثقافة بخنيفرة مؤخرا أربعينية الفقيد القاص والروائي محمد غرناط بقاعة الندوات بغرفة التجارة والصناعة والخدمات بخنيفرة.

اللحظة القوية في هذه الأمسية كانت شهادة القاص عبد الواحد كفيح صاحب رواية “روائح مقاهي المكسيك” الذي قرأ على الحضور بتأثر كبير شهادته وهي عبارة عن رسالة كان قد بعثها إلى الراحل محمد غرناط من مدينة الفقيه بن صالح يوم 20 يونيو 2012 وهذا نص الرسالة الشهادة:

“إليك أنت بالضبط عزيزي غرناط

تحية برائحة فواكه الحاج حماد الساساوي

في زمن انتفاء تقاليد الرسائل، وفن الترسل وانقراض سعاة البريد، أبعث لك اليوم برسالة، لمد جسور التواصل الإبداعي في زمن اغتراب الرسائل، التي ما عادت إلا كلمات قزمية قصيرة جدا، ما خطتها ريشة، ولا سودتها أقلام على بياض، ولا حملها سعاة بريد، رسائل كالسحر وما هي بالسحر، تسبح بالملايير في ازدحام مذهل في فضاء أثيري لا متناهي الأبعاد.

أنت الذي امتشقت القلم يا محمد، في زمن بعيد، وفي الوقت الذي كتبتَ وأبدعت، كنت لا أعرفك. ولكن أسمع عنك. لم أكن أتخيلك إنسانا عاديا على شاكلة البشر، بل مخلوقا خرافيا ليس ككل البشر، لِما أسبغه عليك عشاق الحرف آنذاك في حلقاتهم ومسامراتهم الأدبية، بصالون بيروت للحلاقة من أوصاف مدهشة تفوق الخيال، حتى أنهم كانوا يحلمون بك في منامهم ويقظتهم، يتساءلون عن أي حكيم أو عراف ذاك الذي دلّك على صندوق العجب العجاب الذي تنهل منه قصصا قصيرة باذخة، بحجم شلالات عسل. كنا نسمع بك ولا نراك. إذ كيف لنبيّ أن يأكل الطعام ويمشي بين الناس في الأسواق والطرقات ..أتذكر يا محمد كيف كنا ننتظرك في محطة الحافلات عند أوبتك من الرباط أو البيضاء.

كيف كنا ننتظر قصصك على صفحات العلم الثقافي بلون عنوانه الأحمر آنذاك؟ هل كانت كتابة خارجة عن سياق ما يكتب داخل الزوايا والمساجد؟ هل كانت الكتابة آنذاك يا محمد جرما أو مروقا وخروجا عن المألوف في تجمع سكاني يحمل إسم ضريح، يتحلّق حوله الدراويش ليل نهار؟ خرجت من قمقم الأحجيات والحكايا الساحرة التي يرويها الآباء والأمهات للأبناء، حين أوبتهم مساء، عن مغامراتهم وتعبهم اليومي في الحقول الممتدة على مرمى البصر، بين سهول بني عمير وبني موسى. حيت تأوي لحضن الجدة الدافئ، ترتوي من حكايات هينة واحديدان الحرامي. تُرى بماذا كانت توحي لك هينة الجميلة؟ ماذا كان يحكي لك صديقك وحيد؟ هل كان، كما احديدان ،يمرق في غفلة منك ويسرق فواكه با با حمادي؟. مجموعة قصصية تتخلّق من رحم البيوت الواطئة، في تجمع سكاني على قد الحال.مجموعة قصصية تُدَسّ خلسة وبعشق، من يد ليد كمنشور أو بيان شيوعي لا يدرك كنهه إلا المبشرون بالنار في جهنم .عنوان غريب مرعب ، يلفّه الغموض حدّ السحر “سفر في أودية ملغومة” انتشر في “المدينة” انتشار النار في الهشيم، وماذا في هذا الكتاب؟ لم يكن أحد يسمع بهكذا عناوين إلا على أفيشات وبوستيرات سينما كاليبسو أليس كذلك ؟ .أما اسم غرناط ، فكان يحيل على جنان الأندلس ،من فراديس غرناطة مرورا بقصور الحمراء وشعراء بني عباد.خرجت عن المألوف و اخترت أن تعبد طريقا مخالفة تماما لكل الطرق المألوفة والعادية والمتكررة التي دأب عليها عامة الناس، لأنك تعلم سلفا ،أنها لن تؤديَ في نهاية المطاف إلا لمحطات عادية ومألوفة وأنت تبحث عن المحطات العذراء والمدهشة التي لم تطأها أفكار إنسان، أو حتى جسارة جنود وعفاريت سليمان.

تُرى كيف استقبل الحاج حماد ي الساساوي حكاية كتابة كتاب؟ وهو الذي لم ير أبدا في البيت – كما هي العادة – لا دواة ولا سمقا ولا قلما قُدّ من قصب.قَضمتَ في غفلة من فقيه المسيد كسرة من صلصال ولعقت قلم القصب، ما لبثت مع مرور الزمن أن احتسيت من الدواة جرعة “وميض الحبر” فأصبت، على حين غرة، بلوثة الكتابة وعرشت بدواخلك شجرة الحروف والكلمات، بل قل “شجرة الحكاية” و أصابك مسّ من السحر أو كالسحر والجنون، ونبتت لديك أجنحة من خيال تجوب بها عوالم الجمال ،حلقتْ بك َعاليا عاليا وبعيدا جدا، لتخلق لنا ، نحن الملسوعين بلذة الحرف،على الورق، محطات من الدهشة والإمتاع.أما الآخرون فقد اعتبروك نوتة نشازا تغرد خارج السرب، لأنك “لاحس لقلم”.

أبناء مدينتي شدّوا الرحال إلى ما وراء البحر المتوسط اللّعين، وغرقوا فيه، وأنت على غير العادة ،غرقت عميقا في لجج بحر الحكايا الساحرة باقترافك خطيئة الكتابة الكبرى.كنت سندباد عصرك، تحكي من صنع خيالك ،عن ممالك وعوالم مدهشة.غصت عميقا في بطون أمهات الكتب ،لأنك اكتشفت أن فراديس الجنان لا توجد في بلاد الروم ،كما قيل لنا ،وإنما بين كل سطر من سطور رواية أو قصة وحكاية.لم تُنظّر لهم -كما الرواضي- أن الشمال هو مستقبل الجنوب، بل اهتديت إلى بوصلة لا تعشق الشمال ولا يجذبها أبدا سحر الشمال.

مازلتَ يا محمد شامخا كالطود، كشجرة مباركة توتي غلالها على مر الفصول بكرم وسخاء. لم تمتلك من “متاع الأبكم ” أقول من متاع الدنيا شيئا، غير يراعك، فتأبطت رقعك ومسوداتك وأقسمت ألا تمتهن قط في حياتك، وألّا تنشد في دنياك، غير اقتراف فن الحكي.

خالفت المألوف وشددت عن العادي والمتكرر وكسرت النظرة النمطية التي طبعت مدينتك، كونها منذ عهد راجع، لا يكبّلها ويشغلها إلّا هوس القرض والجدارمية إلى الهجرة السرية.فطوبى لنا بك ياصاحب اليراع الباذخ وطوبى لوحيد بك صحبة ورفقة”.