وجهة نظر

الساسي يكتب: حراك الريف .. خصوصية الاختبار (الحلقة الخامسة)

اختلاف التقدير داخل محيط القرار في الدولة

أبان الحراك عن وجود تباين في الرأي بين مؤسسات الدولة وداخل محيط القرار نفسه، ويمكن الاستدلال على ذلك من خلال عنصرين اثنين: العنصر الأول هو بلاغ المديرية العامة للأمن الوطني الذي ينتقد محتوى التقرير المنجز من طرف المجلس الوطني لحقوق الإنسان، والذي يعتبر بأن ثبوت التعذيب من عدمه هي صلاحية خالصة للسلطات القضائية، وفي ذلك إشارة إلى أن المجلس ربما ترامى على اختصاص غيره وسمح لنفسه بممارسة مالا يخوله له القانون؛ فالتناقض، بين موقف المديرية وموقف المجلس الوطني لحقوق الإنسان، ليس بسيطاً. ونحن، هنا، أمام تقرير للمجلس الوطني لحقوق الإنسان يخلص إلى استنتاجات بناءً على خبرة طبية أُجريت على المعتقلين، ومن جهة ثانية أمام رفض قاطع لهذه الاستنتاجات من طرف المديرية العامة للأمن الوطني، والتأكيد على أن موظفي الأمن يحرصون على تطبيق القانون.

هذا النوع من التباين في المواقف، الذي يصل إلى حد المنازعة في نظامية السلوك الذي قام به كل من الطرفين، لم يسبق أن عرفه المغرب، بكل هذه الحدة.

العنصر الثاني هو المواقف التي عبر عنها الإعلام المقرب من حزب الأصالة والمعاصرة، عموماً، بخصوص حراك الريف، فهو أبدى درجة من “التفهم” لمطالب الحراك، وقدم تقديرات يُستشف منها، ربما، التسليم بشرعية الحراك، وعدم سلامة الاتجاه إلى اعتقال قادة الحراك وقمعهم، علماً بأن الأمر يتعلق بحزب يُنْظَرُ إليه على أنه خرج من رحم الدولة ونشأ في ظروف وملابسات اعتبر المتتبعون أنها تعكس مشروعاً من داخل الدولة لمواجهة أطراف سياسية بعينها، وكانت الانتخابات الأخيرة في 2015 و2016 مناسبة تَبَيَّنَ فيها بشكل ملموس حجم الروابط بين أجهزة الدولة وبين هذا الحزب.

خطاب عيد العرش: التأشير الملكي على خطة التشدد

أثناء بداية الحراك، لم يكن الرأي العام المغربي مجمعاً على التعاطف مع الحراك. هناك من كان له نوع من التحفظ. لكن لما اقترب موعد خطاب العرش، أصبحنا نلمس سيادة تيار عام يأمل أن يكون الخطاب مناسبة لإطلاق إشارة رأفة وعطف وتهدئة ورحمة؛ لكن الخطاب اعتبر، ربما، بأن هذه الإشارة ليست ضرورية الآن، كما أنه اندرج ضمن جيل الخطب النارية و”المعارضة” التي تركب لهجة نقدية إزاء مؤسسات الدولة الأخرى وعملها.

أكد الخطاب بأن القوات العمومية قامت بكل ما كان يجب أن تقوم به، وأنها التزمت بالقانون، وأنها لم تكن لتواجه الأمر بشكل مباشر لو لم يكن هناك فراغ تتحمل مسؤوليته أطراف ومؤسسات أخرى.

الخطاب لم يضع أي هامش، ولم يفتح أي قوس بخصوص نظامية أو عدم نظامية سلوك الأجهزة الأمنية. فلم يَقُلْ، مثلاً، إن هناك بعض الممارسات المحدودة، التي لا أثر لها على السلوك العام، والتي يمكن أن يكون فيها تجاوز، وسيتم تتبع الأمر وإنصاف من يستحق الإنصاف.

الخطاب ركب لغة تعميم مطلقة لا تستحضر أي استثناء، ونفى الخطاب وجود تباين في وجهات النظر بين تيارين، أحدهما متشدد والآخر معتدل على مستوى أعلى أجهزة الدولة. وهذا النفي هو طريقة للتأكيد على الانتصار لرأي أو تيار، وتزكية له، ولو إلى حين، واعتبار أنه يشخص الموقف الذي يجب أن تلتئم حوله كل مؤسسات وأجهزة الدولة في هذه الظرفية. والخطاب حمَّلَ المسؤولية، بالنسبة إلى كل ما وقع في البلاد وما يقع فيها، إلى الأحزاب السياسية والإدارة والمنتخبين؛ فالفراغ الذي تَحَدَّثَ عنه الخطاب، والذي وجدت القوات العمومية نفسها، بسببه، وجهاً لوجه مع الساكنة، هو، في نظر الخطاب، ناجم عن عدم قيام هذه الأطراف بأدوارها على الوجه المأمول. هناك خلل ما على مستوى إدارة الشأن العام، ولكن هذا الخلل لا يتحمله القصر بل تتحمله الأطراف الأخرى.

والخطاب الملكي أكد على ضرورة تفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، لكن هذا المبدأ، في نظام ملكي وراثي، لا يمكن، في نظرنا، أن يكون إلا في ظل نظام ملكية برلمانية، لأن المحاسبة درجات، وأقصى درجات المحاسبة هي الإقالة أو تغيير الحاكم، فإذا كان يمتلك سلطته وراثياً، فلا محاسبة إذن.

وأكد الخطاب الملكي على جودة نظامنا المؤسساتي، مما يعني أنه لا يحتاج إلى أية مراجعة في المدى المنظور، بينما نرى أن نموذجنا المؤسسي يكرس اللامسؤولية المنظمة. و لَوَّحَ الخطاب الملكي بإمكان اتخاذ قرارات من طرف الملك شخصياً. ففي حالة تخلف المسؤولين عن القيام بواجبهم، يرى الملك أن مهامه الدستورية تلزمه بضمان أمن البلاد واستقرارها وصيانة مصالح الناس وحقوقهم وحرياتهم. ففي سبيل سد الفراغ، المتحدث عنه سابقاً، والذي تتحمل مسؤوليته الأطراف الأخرى، حسب الخطاب الملكي، فكل الطرق ممكنة. الملك، إذن، يريد أن يحتفظ لنفسه بحق اتخاذ الإجراءات الملائمة والاستثنائية التي يمكن أن يفرضها الظرف، ما دام هناك فراغ، والخطاب أكد على وجود هذا الفراغ؛ وقيامه، حالياً، يعنى أنه ليس هناك أي عائق، أمام الملك، لاتخاذ الإجراءات التي يراها ضرورية لضمان أمن البلاد واستقرارها وضمان مصالح الناس.

الخطاب أقام نوعاً من المفاضلة بين القطاعين العام والخاص، فاعتبر بأن القطاع الخاص يسير سيراً مثالياً، والقطاع العام، في الكثير من أوجهه، يشكو من ضعف الحكامة والنجاعة والجودة.

وعلى العموم، يمكن أن نستخلص من الخطاب الملكي بأن مشاكل المغرب هي مشاكل إدارية وليست سياسية، وأن الاختيارات الرسمية التنموية هي عموماً صائبة، وأن المشكلة هي فقط في التنفيذ، وأن المشاكل الحقيقية تتمثل في سوء التنفيذ وليست مشاكل متعلقة بطبيعة القرارات والاختيارات والبرامج والأولويات. فربط المسؤولية بالمحاسبة بهذا المعنى هو ربط للمسؤولية بالمحاسبة الإدارية فقط، أي أن المحاسبة، التي يشير إليها الخطاب، ستجري على مستوى التنفيذ لا على مستوى التقرير. لن نحاسب، إذن، من يقرر ولكن سنحاسب من ينفذ، وعن كيفية تنفيذه. فإذا قررنا محاسبة رئيس الحكومة عن برنامج “الحسيمة منارة المتوسط”، مثلاً، فإننا سنحاسبه عن تنفيذ برنامج  لم يعلم بوجوده إلا عبر جهاز التلفاز، ولم تُتح له، بالتالي، فرصة تقدير مدى نجاعته.

حراك من نوع خاص

حراك الريف يمتلك بعض مظاهر الخصوصية، وهي متأتية من خصوصية المنطقة، وجراح الماضي، التي استفاقت مع حادث مقتل محسن فكري، ومن تراكمات الحاضر أيضاً. ولذلك، فهناك من صَنَّفَ الحراك ضمن جيل جديد من الحراكات. وهكذا يختلف حراك الريف عن الحراكات السابقة التي عرفها المغرب، ومن بينها طبعاً حركة 20 فبراير، والحركات الاحتجاجية الأخرى. ومـع ذلك، يجب الاعتراف بأن حركـة 20 فبراير كانت، بالنسبة لعدد من نشطاء حراك الريف، مصدراً لتلقي الدربة الأولية ولاستخلاص الدروس من أخطائها ولتطوير تقنيات الاستفادة من شبكات التواصل الاجتماعي في تحضير وإعداد المشاريع النضالية في الشارع، والتعريف بها على أوسع نطاق.

ومن المعلوم أن المغرب يعرف حركات احتجاجية، على طول البلاد وعرضها، لها طابع اجتماعي أو قطاعي أو فئوي أو حقوقي أو محلي، بدون أن تنخرط في أفق سياسي شامل. وهناك حراك 20 فبراير الذي انطلق بأفق سياسي وطني، ولكنه لم يستوعب الحركات الاحتجاجية الأخرى. وبمعنى آخر، هناك، في المغرب، مجريان إثنان : مجرى الحراك الاحتجاجي المتنوع ذي النفس الاجتماعي والمحلي والفئوي والقطاعي. وهناك مجرى حركة 20 فبراير، الذي كان له دور كبير على المستوى السياسي وخلخل كثيراً من البنيات، وزَوَّدَ البلاد بطاقة فعل، وخلق الحدث السياسي، حتى وإن لم ينجح في إقناع الكتلة الحرجة بالالتحاق به.

أما حراك الريف، فقد انبثق من مجموعة من العوامل، منها عوامل تهم المغرب كله بمختلف مناطقه، ومنها عوامل خاصة بمنطقة الريف. تتلخص العوامل العامة في الشعور بالظلم “الحكرة”، وضيق سبل العيش أمام فئات واسعة من المواطنين، ووجود خلل عميق في التواصل مع الدولة. وهناك عوامل خاصة بالمنطقة باعتبارها منطقة نائية ومهمشة جغرافياً وتاريخياً وثقافياً، من جهة، وباعتبارها كانت مسرحاً للحدث الشرارة المتمثل في مقتل محسن فكري، من جهة أخرى. الحدث الشرارة في حراك الريف كان وطنياً والحدث الشرارة في حراك 20 فبراير كان خارجياً (بدايات ما سُمِّيَ بالربيع العربي).

وتتجلى المشاكل الخاصة التي تفاقمت في المنطقة، والتي هيأت جواً من الاحتقان، في تعامل مؤسسات الدولة مع حدث الزلزال، ومع القضية الأمازيغية، وتراجع الموارد المتأتية من الهجرة، والصعوبات المستجدة على هذا الصعيد، وطبيعة المنتخبين والمسؤولين المحليين، وواقعة مقتل مجموعة مـن شباب المنطقة على هامـش حراك 20 فبراير 2011، والسخط المتنامي في المنطقة، والمنصب على بعض الشخصيات والرموز اليسارية، التي كانت في الماضي ناطقة باسم آلام الساكنة، ومعبرة عن معاناة أبنائها، والتي دخلت في تسويات وترتيبات تخدم الاستراتيجيات الفردية ولا تفي بمتطلبات المصلحة العامة، مما دفع أجيالاً جديدة من الشباب إلى النزول للميدان للتعبير عن المعاناة المحلية بشكل مباشر، وخارج وصاية تلك الرموز والأسماء والشخصيات.

خصوصيات الحراك

ومن مظاهر خصوصيات حراك الريف، نذكر ما يلي:

– المعطى الزمني (طول مدة الحراك) : يستعد الحراك لتخليد ذكراه السنوية الأولى في أكتوبر المقبل. هذا النفس الطويل مُتَأَتٍّ من مصادر مختلفة، وهو عنوان بارز على الإحساس العميق بضرورة التغيير في المنطقة، والشعور بجدية القضية التي التأم حولها المتظاهرون والنشطاء الذين تشكلت لديهم إرادة وعزيمة قوية وإصرار على السير بالحراك حتى النهاية. أصبحت هناك قضية يمكن أن نسميها اليوم قضية الريف، ونجح الرافعون للواء هذه القضية في التأقلم مع القمع، وجمعوا بين عدة مسارح وساحات للفعل، من أسطح البيوت إلى البحر، ومن الإضراب إلى تشغيل منبهات السيارات، ومن مقاطعة صلاة الجمعة إلى مقاطعة عائلات المعتقلين لطقوس العيد…إلخ.

– وجود ملف مطلبي متكامل : تمت صياغة الملف المطلبي للحراك بسهولة وبدون تعقيدات أو مشاكل، فلم تُطرح خلافات من قبيل تسقيف أو عدم تسقيف المطالب، وتَمَّ الوصول إلى حد أدنى توافقي رغم التنوع القائم داخل بنية الحراك، وهذا منحه قوة معنوية، وفي نفس الوقت، كان الملف المطلبي حجة على غياب أية نزعة انفصالية أو مطلب يُستشف منه عدم الولاء للدولة المغربية.

– أفرز الحراك قيادة موحدة ذات كاريزما، وهكذا حظيت قيادة الحراك بحب الناس، وفرضت نفسها كناطقة باسم الحراك كله، الشيء الذي افتقدته حركة 20 فبراير، إذ ظل نشطاؤها يتحدثون بأسمائهم كأفراد فقط. أما على مستوى حلبة الحراك الريفي، فقد ساد الشعور بأن الزفزافي ورفاقه يعبرون عن الحراك، وهؤلاء في ممارستهم وتدبيرهم لفعل القيادة، كانوا يستحضرون محمد بن عبد الكريم الخطابي، ويستحضرون القضية الأمازيغية، ويستحضرون التراث الديني، ويستحضرون تاريخ المنطقة، ويستعملون الأمازيغية والعربية الدارجة والفصحى. ولا شك أن قائداً ميدانياً، مثل الزفزافي، كان واعياً، مثلاً، بالنجاحات التي حققها بنكيران بفضل قدراته التواصلية. ففي تواصل الزفزافي نعثر على شيء ما من البنكيرانية بالمعنى الإيجابي. هناك، اليوم، وعي بأهمية التقنيات البلاغية التي استُخدمت في خطاب القائد السياسي الإسلامي، ولكن تصوراتهما للأشياء مختلفة، طبعاً، رغم بعض عناصر التماهي على المستوى التقني والتواصلي.

ويجب الاعتراف بأن الزفزافي قَدَّمَ خدمة كبيرة للمغرب والمغاربة. فهو وَحَّدَ حراك الريف، وهَمَّشَ أصحاب الطروحات المتطرفة. لكن النظام، رسمياً، وبعد انبثاق هذه القيادة الكاريزمية، رفض التفاوض معها من منطلق أنه لا يتفاوض مع قيادة “غير معترف بها”، ولكن هذه القيادة نفسها ترفض التفاوض مع القيادات “المعترف بها “من طرف النظام (أحزاب، منتخبون، حكومة)، لكنها اشترطت التفاوض مع ممثل مباشر لرأس النظام أي ممثل مباشر للملك.

– كثافة المظاهرات التضامنية بالخارج. إن اتساع حركة التضامن مع حراك الريف بالخارج، من خلال المظاهرات والمسيرات والوقفات المتعددة في البلدان المختلفة، هو دليل على حيوية الدور الذي يلعبه المهاجرون الريفيون في مختلف تلك البلدان. فمن المعروف أن هناك شخصيات من أصول مغربية ريفية، تتولى مناصب هامة في مؤسسات دول الهجرة. ويجب الاعتراف بأن المظاهرات التضامنية في الخارج خلقت صدى عالمياً لمطالب الريف ولحراك الريف.

– بروز دور المرأة في الحراك. طبعاً في حركة 20 فبراير كانت الوجوه النسائية حاضرة بقوة، لكن هناك، مع ذلك، نقطتا خلاف وتمايز مع الحضور النسائي في حراك الريف. نساء الريف كان لبعضهن حق الحديث كقيادة حائزة على نوع من الاعتراف العملي في الميدان. ونستحضر هنا، على وجه الخصوص، شخصية نوال بنعيسى، التي اعتُبرت “خليفة الزفزافي”. ومن جهة ثانية، هناك تنوع، أكثر، في بروفايلات ومسارات وحياة النساء المشاركات في حراك الريف. فهن من أعمار ومن انتماءات سوسيومهنية وتعليمية مختلفة؛ بينما في حركة 20 فبراير كانت الوجوه النسائية الأبرز، في النواة الأصلية للحركة، تنتمي للفئة العمرية من 20 إلى30 سنة، وأغلبهن عازبات، طالبات، ومنحدرات من الطبقات المتوسطة.

بالنسبة إلى حالة نوال، نلاحظ أن وضعها كمتزوجة وأم لعدة أبناء لم يمنعها من أن تكون ضمن الصف الأول لقادة حراك الريف. وبعد الاعتقال، سيبرز، أيضاً، دور أمهات وقريبات المعتقلين، وسوف تنطلق دينامية للفعل النسائي، من داخل الحراك، في شكل مظاهرات ووقفات نسائية. وهذا كله زَوَّدَ الحراك بطاقة إضافية، وَوَفَّرَ له شروط الاستمرارية.

– التئام النشطاء حول قَسَمِ الريف. فكرة أداء قسم جماعي هي من “المستجدات”، فلم تشهدها، مثلاً، حركة 20 فبراير. لا شك أن هذه الفكرة تسهم في تصليب اللحمة الرابطة بين نشطاء الحراك، وتعطيها بعداً دينياً وتعاقدياً. وإذا أضفنا إلى هذا سلسلة الأغاني والأناشيد التي تُدُوولت بمناسبة الحراك على نطاق واسع، فيعني ذلك أن قضية الحراك أو ما سيسمى قضية الريف، هي في طور الاستقرار في النفوس، باعتبارها قضية مصيرية وذات أولوية، وأن درجة الالتزام بها والانضباط لمتطلباتها تتصاعد باستمرار. وأداء القسم تَمَّ في مرحلة تَوَّفَرَ فيها للحراك زخم غير منتظر، فأصبح قضية شبه إجماعية، ولهذا فإن الهدف من ذاك القسم كان هو الحرص على ألا يتبدد هذا الزخم قبل الوصول إلى نتائج ملموسة.

– موقف رفض الحوار مع الأحزاب والمنتخبين والحكومة. قد يبدو هذا الموقف متصلباً ومفاجئاً، علماً، مثلاً، أن حركة 20 فبراير كانت قبلت التعاون مع بعض الهيئات السياسية. لكن إذا تأملنا عناصر السياق، الذي جاء فيه هذا القرار وجاء فيه الحراك ككل، سيبدو الأمر عادياً. فنشطاء الحراك يريدون، من خلال هذا الموقف، التأكيد على أنهم ليسوا مستعدين لكي يُلْدَغُوا من الجحر مرتين. بمعنى أن لهم أزمة ثقة مع المؤسسات، ولا يمكن لهم أن يثقوا بسهولة في الوعود، لأن هناك سوابق تثبت صواب موقفهم المتحفظ من تلك المؤسسات.

الأحزاب، بالنسبة إلى نشطاء الريف، هي على العموم مجموعة دكاكين ليس إلا. الأمر، هنا، يتعلق بنشطاء، ربما، لم يشاركوا في الانتخابات، ولم يصوتوا على أي من تلك الأحزاب، وبالتالي فهم غير معنيين بكل ما ينبثق عن هذه الانتخابات من مؤسسات وأجهزة. وهذا المعطى ليس غريباً، فالأغلبية الساحقة من الشباب تقاطع الانتخابات، والملك سبق أن قال إنه ملك جميع المغاربة، سواء الذين شاركوا في الانتخابات أو الذين لم يشاركوا فيها. هؤلاء الذين أحجموا عن التصويت نزلوا إلى الشارع، إذ لا يمكن أن يحرموا أنفسهم من وسائل النضال والفعل للتعبير عن مطالبهم، والسعي إلى تغيير وإصلاح أوضاعهم، وهم يريدون مد قناة حوار غير مباشر مع الملك الذي اعترف لهم بالمواطنة وبأنه ملكهم أيضاً، ولا يستثنيهم من الشعب. إنهم عموماً يخشون من أن الحوار مع بعض المؤسسات التي لا تملك القرار، قد يكون مصيره مثل مصير الوعود التي أُعطيت، بمناسبة حركات احتجاجية سابقة، ولم تُنَفَّذْ.

– اضطرار فروع الكثير من الأحزاب إلى مساندة الحراك، ولو ظاهرياً، وذلك في تناقض، أحياناً، مع المواقف التي عبرت عنها القيادات المركزية. حراك الريف، إذن، أفضى إلى ظهور حالات لأحزاب تحفظت قياداتها الوطنية، في وقت من الأوقات على الحراك، وتبنت قياداتها، محلياً، مطالب الحراك واعترفت بشرعيته.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *