وجهة نظر

فيديو التلميذ والأستاذ.. محاولة لفهم السلوك ومعرفة المدان

تألمتُ كما تألّمَ الكثير بعد مشاهدة واقعة ضرب تلميذ لأستاذ داخل قسم.
قرأتُ عشرات التعليقات. الكثيرُ منها يُجرّمُ التلميذَ ويدينه، ويطالب بمحاكمته.
بعضها، يربطُ بين قضية التلميذ والأستاذ، وقضية القبلة بين التلميذين.
بعضها، يُرجعُ السبب لسياسة وزيرٍ. وبعضها لسياسة منظومة تعليمية.
بعضها، يتحدث عن أن هذا السلوكَ جديدٌ على المؤسسة التعليمية، وأن التلاميذ صاروا فاسدين، وأنهم لم يكونوا بمثلِ هذه التربية من قبل (هذا أمرٌ مُستحدث).
الذي أثارني في مُعظم التعليقات، هو أن السببَ وراء السلوك تمَّ تقزيمه في منظومة التعليم، وفي سياسة وزير، بل وصلَ التقزيم، إلى أن السبب هو بعض المذكرات الوزارية، والتي كما قرأتُ، سيتم تنظيم وقفة وطنية للأساتذة تنديداً بإحدى هذه المذكرات.
والجانب الآخر، هو أن التلميذ، مُجرمٌ مُدان، وعليهِ أن يُعاقب، لأنه (كما قال البعض) جزار ولن يكونَ يوماً طبيباً.
بدايةً، كلُّ تحليلٍ ينبني على عاطفة، سواء اتجاهَ التلميذ، أو الأستاذ، فإنه لا شكّ، لن يكونَ تحليلاً موضوعيّاً دقيقاً. ولو أن الذاتية لا بدَّ أن تحضرَ، لكننا سنحاول أن نكونَ موضوعيين بقدرِ الإمكان.
لا شكَّ أن جميعنا (أو معظمنا) غضبَ من سلوكِ التلميذ، وغضبنا ذلك، ربما يُوجّهُنا الى إدانتهِ (التلميذ، وليس السلوك)، والتعاطف بشكل مباشر مع الأستاذ (لأنه الضحية).
والسلوك النفسيّ للإنسان، أنه يتعاطف مع الضحية، حتى دونَ الإطلاع بملابسات الواقعة.
سأطرحُ أسئلة، ليست جوهرية في مقالي، لكنها فقط لمحاولة ترشيد وعقلنة سلوكنا النفسيّ. ما سبب النزاع بين الأستاذ والتلميذ؟ ما الذي جعل الأستاذ في موقف ضعف، رغم أنه في البداية أبدى مواجهة للتلميذ، لكنه بعدها تركَ التلميذ يقوم بما يشاء؟ ما الذي جعل التلاميذ يتركون الأستاذ لوحدهِ في صراع مع التلميذ، ونحن نعرف أن في هذا المجتمع، لا يُتركُ اثنان يتصارعان لوحدهما، إلا إذا كان أحدهما يحمل سلاحاً، وأحياناً، تجد من يُقاوم حتى السلاح، ليفكّ النزاع. فلماذا تراجع التلاميذ، وتركوه وجها لوجه معه، الى أن أسقطهُ أرضاً؟
لا شكّ أن هناكَ أسباباً، لا أحدَ منا يعلمها، فلماذا نتسرّعُ في التعليق؟ بل الإدانة والتجريم؟
الأسئلة أعلاه لا قيمة لها بالنسبة للموضوع الذي أريد أن أطرح هنا. فلا تشغلنَّ قارئ هذه الأسطر. ولا أرى أنه من الجيّد التوقّف عندها وحدها.
فلننتقل الآن الى أسئلة أخرى أرى أن من الواجب علينا أن نطرحها، ونحاول الإجابة عنها بشكل واقعيّ.
هل واقع التعليم كان جيدا في وقتٍ مضى، وتغيّر؟ ومتى كان جيدا؟
هل التربية عندنا في تدهور؟ متى كانت في مرحلة جيدة؟
هل منظومة التعليم وحدها المسؤولة عن فساد تربية هذا الجيل؟
هل هي سياسات وزير أو وزراء، ما أفقدَ التعليم قيمته؟
بِعجالة واختصار، أعتقد أن التعليمَ بالمغرب لم يكن يوماً جيدا، ولا كانت التربية ولا التعليم أولوية عند صُنّاع القرار، ولا منفّذي القرار، ولا الأسر، ولا المجتمع عموماً.
متى كانت عندنا التربية؟ لو كانت عندنا التربية (أتحدث عن التربية كمفهوم فلسفيّ، وليس “التربية” المفهوم المُتداول). متى كانت عندنا التربية على قيم الجدية، العطاء والأخذ، الاحترام والكرامة، الحرية والمسؤولية، النظام والجرأة، الإختلاف والتسامح، الإجتهاد والتواضع، المنافسة والتقدير،…
أعتقد أننا مجتمع لم يعرف التربية (على الأقل في العقود الأخيرة)… وما كان يُسمّى تربية، كان خوفاً يسمى احتراماً، (فالتلميذ كان يخاف من الأستاذ، لأنه سيضربه، ويسمى ذلك احتراما). كان الناس يخافونَ من رجال الأمن، لأنهم سيعتقلونهم وربما يسجنونهم. كان النساء يخونونَ أزواجهن، ولما يلدنَ بعدَ سنة من وفاة أزواجهن (يسمونه “الراكد”). كان الرجال يضربونَ زوجاتهم، يمنعونهنَّ من حقوقهنَّ الزوجية (لا وجودَ للكلمة الحسنة، لا ملامسة ولا عطف، وأحيانا يحرمونهن حتى من الجنس). فتصبرُ النساء، لأنهنَّ يخفنَ على مستقبلهنَّ ومستقبل أطفالهن، وغير ذلك من المشكلات الإجتماعية التي تجعل النساء يصبرنَ على كل ذلك. (ليس المجال للتفصيل في هذا الموضوع).
والعكسُ صحيح، فربما يُحرم الرجل من مجموعة من حقوقه، ويصبر، لعدة أسباب.
ويسمى أن مؤسسة الزواج كانت قوية، والآن صارت في تدهور. السؤال هو متى كانت هذه المؤسسات قوية مُترابطة؟ الأكيد أننا نحتاج الى دراسات سوسيولوجية وسيكولوجية للتدقيق في هذا التغيير (الذي يطلق عليه، أن مؤسسة الأسرة تغيَّرت للأسوء).
حتى أن المغاربة يقولونَ مثالاً (أكرهه، من حيث تخلّفهِ، وتمثيلهِ لأحد أخلاق العبيد)، “إلى شفتي جوج مزيانين، عرف باللي واحد فيهم صابر”.
هذا أبداً لا يؤسس إلى مجتمع التعاقد، ومؤسسات التعاقد.
العلاقة بين فردين، تمتد الى الأسر، والمؤسسات، ومع الدولة…
فإن رأيتَ تماسكاً بينَ الملك والمواطنين، بين الحكومةِ والمواطنين، فاعلم أن “أحدهما صابر على الآخر”. (أينَ التعاقد هنا؟)
وإن رأيتَ زوجين متماسكين فاعلم ان “أحدهما صابر على الآخر”… الى غير ذلكَ من الأمثلة.
هذا المثل الشعبيّ رغم تهافتهِ من الناحية التأطيرية، إلا أن له قوةً من الناحية الوصفية والتفسيرية. ويؤكدُ ما نذهبُ إليه من أن العلاقات الإجتماعية من داخل مجتمعنا لم تكن يوماً في وضعٍ مثاليّ، وصارت الآن في وضع متدهور. بل كانت دوماً هشة، لكن الغلافَ الآن اختفى (فالخوف لم يعد كما كان، وغيره من الأسباب التي كشفت الستار).
فلنعد الى قضية التلميذ والأستاذ (بورززات، على حسب ما انتشر).
أؤكدُ أنني أدينُ السلوك الذي شاهدناهُ جميعاً في الفيديو. لكن، هل أدينُ التلميذَ كذلك؟
سبقً لي أن تحدثتُ في آخر تدوينةٍ لي بتاريخ 29 أكتوبر 2017، عن مسؤولية الإنسان؟
خلُصتُ فيها إلى أنني لا أنفي المسؤولية الجنائية لسلوك الأفراد. لكن المسؤولية الأخلاقية لا بدَّ أن نضعها في المجهر، للتحليل والدراسة.
لستُ أريدُ خلقَ مجتمع الفوضى، فأنا لا أنفي عن الناس المسؤولية الجنائية لأفعال إجرامية. لكنني أبتغي فهمَ السلوك البشريّ، بتفكيكهِ، وفهم العوامل المتدخلة في إنتاجه. فنحنُ نقف عند المُخرجات، دونَ الإنتباه عادة إلى المُدخلات. وهي عندي أهمُّ في الدراسة من الأولى.
كيفَ يتزوجُ الناس في مجتمعنا؟ ما هي شروط الرجال في النساء، وشروط النساء في الرجال؟
ما هي المُكتسبات القيمية والمعرفية والسلوكية التي يدخل بها طرفان لهذه المؤسسة؟
ما هي أهداف خلق مؤسسة الأسرة عند أفراد مجتمعنا؟
ما هيَ أهداف إنجاب الأبناء عند الرجال والنساء، وأسرهم، والمحيطينَ بهم؟
ما رؤية المجتمع لمؤسسة الزواج؟
كيف تُربّي النساء أولادهن؟ وما علاقة الآباء بأبنائهم؟
ما هي الظروف التي يعيشها الأبناء داخل أسرهم، علاقة الوادين، علاقة الزوج بأسرة الزوجة، علاقة الزوجة بأسرة الزوج. ما هي ظروف الحياة في منازل المغاربة. ما الدور الذي يقوم بهِ الآباء في تأطير أبنائهم؟
وما هو الحيّز الزمنيّ الذي يُعطيه الآباء لأبنائهم.. (أتحدث عن البداية.. منذ ولادة الإبن، الى أن يصيرَ بالغا فمراهقا فراشدا (السنّ القانونيّ).
بعدَ ذلك، ننتقل الى دور المؤسسات الأخرى، الشارع، الإعلام، المدرسة، الجمعيات، الأحزاب، الدولة…
ولنأخذ من إجاباتنا الصادقة، الجواب عن سؤال مسؤولية التلميذ (الأخلاقية) الذي عنّفَ الأستاذ داخل القسم.
ثم لنُحلّل شخصية الأستاذ المغربي. وليعذرني أصدقائي في هذا القطاع، لا أريد أن أقومَ بالتعميم، ولا بتخصيصِ نقدي للقطاع، لكني أحاول أن أقومَ بنقدٍ موضوعي لواقعة الأستاذ والتلميذ؛ وإلا فما سأقولهُ عن الأستاذ، ينطبقُ على كل القطاعات الأخرى.
الأستاذ المغربيّ، لا يتوفر على زادٍ معرفيّ، ولا زادٍ قيميّ.
معظم الناس، أو الكثير منهم، ولجوا الوظيفة، للعمل، خلق أسرة، بناء منزل، وسيارة، اشتراء ملابس جديدة، التمتع بالحياة،… وهذا حقّهم الطبيعيّ. لكن هل هذا كل شيء؟ أينَ دورُ الأستاذ في التربية، والتثقيف، وخلق الوعي عند أجيال. والكثير منهم (هم أنفسهم) يفتقدونَ ذلك.
لن أضغطَ أكثرَ على الأستاذ، فيظهرَ أنني متناقض في حديثي، ففي البداية أنفي المسؤولية الأخلاقية عن التلميذ، وألصقها بالأستاذ، كأنه ليسَ إنساناً تسري عليه كل العوامل التي سبق ذكرها.
الأكيد (في نظري) أن الأستاذ كذلك تعرض لكل ما يتعرض له غيره من تنشئة اجتماعية فاسدة. هي التي أنتجت لنا أساتذة (لا يرونَ إلا مصلحتهم الذاتية). وأنتجت لنا تلاميذ (يمارسون الشغب بأعلى مستوياته). وهذا كله ليسَ جديداً، فأنا شخصيا درستُ عندَ عشرات الأساتذة، في (المدرسة الابتدائية، الإعدادية، الثانوية، الجامعة، معهد فرنسيّ، معهد أمريكي،…) ووالله لا أتذكّرُ إلا أستاذينِ كانا جادّينِ في تدريسنا، ولن أُخفيَ أنني كنتُ كسولاً طيلة سنوات من الدراسة.
لن أنفيَ مسؤولية الوزارة، والحكومة والدولة. كما لن أنفيَ مسؤولية الأسرة، والإعلام، والأستاذ.
وفي المغرب، الوحيد الذي له كل الصلاحيات للتغيير، هو رئيس الدولة.
ما يجعلني أختم حديثي بما ختمَ به المثقف بنسالم حميش مقاله المنشور بجريدة هسبريس اليوم 05 نونبر 2017:
“وجماع القول أن قطاع التربية الوطنية والتعليم أمسى في مسيس الحاجة وألحها إلى تدخل الملك محمد السادس”.
غيرَ أنني أضيف أن التدخل عليهِ أن يشملَ معظم القطاعات. فوحدهُ له كل الصلاحيات.
لكن هذا لا يجب أن يجعلنا ننتظر تدخل الدولة (فربما تكونُ لها أسبابها في عدم الرغبة في التدخل، وهذا يحتاج حديثاً طويلا، ليس المجال للخوضِ فيه). فالتغيير يبدأ منكَ أنتَ قارئ هذه الأسطر.
ما الذي تقومُ بهِ للمساهمة في التغيير (للأحسن، أو للأسوء)؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *