وجهة نظر

أمحجور يكتب: احترام الإرادة الشعبية .. تدقيق وتحقيق

في سياق تداعيات الأزمة السياسية التي عشناها عقب انتخابات 07 أكتوبر 2016، وما أفرزته من أحداث ووقائع ومواقف، تم في كثير من الأحيان استخدام مفهوم “الإرادة الشعبية”، وقد تم ربط كثير منتداعيات ”البلوكاج” والإعفاء بهذا المفهوم، خاصة من قبل أعضاء ومناصري حزب العدالة والتنمية. وقد ازداد حضور هذا المفهوم خصوصا عقب الاختلاف الكبير والواسع في تقييم ما وقع. وقد وصل الأمر إلى حد ربط تقييم الوضع العام وتقدير المواقف الملائمة بمدى احترام الإرادة الشعبية، حتى بلغ الأمر حد الاصطفاف خلفها “خيانة” أو “وفاء”. بل إن الأمر بلغ حد الشخصنة المطلقة للإرادة الشعبية “فتناسخت” روحها وانتقلت إلى “موجود أسمى” أصبح هو ممثلها الرسمي والوحيد، وحاميها من تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.

والحقيقة أن المتأمل في الخلفية “النظرية” والمذهبية السياسية لحزب العدالة والتنمية، والراصدلمسلكيته السياسية وما أفرزته من اختيارات ومواقف وتحالفات وممارسات، سرعان ما سيتضح له أن مفهوم “احترام الإرادة الشعبية” كما مارسه الحزب على أكمل وجه ممكن عبر مساره السياسي الممتد والوافر عطاء ونجاحا، لا علاقة له بما يراد لهذا المفهوم أن يحمل من إصر وأغلال.

فمن الناحية التصورية والمذهبية العامة، وإذا سلمنا أننا نعيش في بلد لم ترسخ بعد أقدامه في الديموقراطية، وإذا اتفقنا أن أننا نصنف كبلد “هجين ديموقراطيا” باعتبار مؤشر الديمقراطية المعتمد من قبل ”مجموعة ليكونوميست” البريطانية (المرتبة 105 على 167 وب 4,77 نقطة على 10)؛ إذا اتفقنا على هذه المقدمة فينبغي الإقرار والاعتراف أن احترام الإرادة الشعبية رغم أنه معطى أساسي في كل عملية ديموقراطية، إلا أن معامله في “البلدان الهجينة ديموقراطيا”، يزيد وينقص بحسب موازين القوى المتغيرة بحسب السياقات والظروف. فمثلا إذا كان هذا المعامل قد ارتفع بشكل غير مسبوق في سياق الربيع الديموقراطي، فإنه لا يمكن لعاقل إلا أن يقر بأنه قد تعرض إلى “سقطة حرة” في سياق “الخريف الديموقراطي”وما يشهده من تراجعات.

ومن جهة ثانية إن ” نظرية العمل” كما استوت ورسخت عند حزب العدالة والتنمية، وقبله عند المدرسة الإصلاحية التي مدته بأغلب أطره وقادته، تنطلق من مسلمة أن المسؤولية الرسالية والتاريخية في تدبير الإصلاح تقتضي التفاعل الواعي والمسؤول مع معطيات الواقع، وعدم الانجرار وراء الرغبات المنطلقة من عقالها، والعمل على الإسهام الواعي في إصلاح أوضاع الوطن بالاستفادة من أحسن الظروف والمعطيات، والاشتغال الذكي في إطارها لتحقيق أكبر عائد إصلاحي ممكن، والذي هو أيضا كما الإيمان يزيد وينقص.

ومن جهة ثالثة وأخيرة في هذا المستوى التصوري العام، لا بد من الإشارة إلى أن المنهج الإصلاحي العام الذي نشتغل به وفي إطاره منذ عقود، قد بنى كثيرا من “قناعاته” استنادا على مراجعات عميقة لكثير من التجارب الإصلاحية، وعلى رأسها بعض تجارب الحركات الإسلامية التي لم يفهم قادتها أن مجال اشتغالها مجال معقد ومركب، وأن مقاربته بطريقة تبسيطية واختزالية قوامها “مشروعية الأمة” وغلبة “الشرعية الشعبية” من خلال عدد وحجم الأصوات المحصل عليها في الانتخابات، إنما هي أخطاء منهجية قاتلة لا تأخذ بعين الاعتبار تعدد القوى وتنوعها وتشابك علاقاتها ومصالحها في ظل الهشاشة السياسية والديموقراطية والاقتصادية والاجتماعية التي تسم الواقع الذي نعلم.

وهنا لا نشير فقط إلى النموذج الفاقع المتمثل في تجربة الجبهة الإسلامية للإنقاذ، بل يمكن الإشارة إلى تجربة النهضة التونسية في السنوات الأولى التي أعقبت نهاية العهد البورقيبي، ويمكن على الخصوص التوقف مطولا أمام التجربة المريرة للإخوان المسلمين في مصر ليس فقط تاريخهم القديم، ولكن وعلى وجه التحديد تدبيرهم للربيع المصري وكيف تحولت الشعبية الجارفة و “الإرادة الشعبية” إلى شرك محكم الإغلاق، أدى بهم إلى ما هم عليه اليوم من محنة. ويحق لنا اليوم أن نبحث معهم عن تلك الملايين من الأصوات التي استأمنهم عليها شعب مصر لتحقيق الإصلاح المنشود، لنتيقن أن لا الأصوات حفظت، ولا الإرادة الشعبية صينت واحترمت، ولا الإصلاح تحقق. طبعا لا يعني هذا الكلام بأي حال من الأحوال تزكية الانقلاب ولا تبرئة مقترفيه، لكن حقائق الواقع الذي لا يرتفع اليوم هي ما ذكرته.

لنتناول الآن المسلكية السياسية لحزب العدالة والتنمية، ولننظر كيف تعامل في مساره مع “رغبات الجمهور” وكيف دبر “الإرادة الشعبية” كما عبر عنها مناصروه من المواطنين. وسأسرد بعض الأمثلة الدالة كما يلي:

1. في الانتخابات التشريعيةلسنة 2002 حل الحزب ثالثا بــ 42 مقعد وراء كل من الاتحاد الاشتراكي بــ 50 مقعد، والاستقلال بــ 48 مقعد، وكان “احترام الإرادة الشعبية” يقتضي من الحزب أن يسلم للاتحاد الاشتراكي بقيادة العمل الحكومي، لكن باعتبار القناعة الحاصلة بأن الانتخابات كما تمت لا تعكس بالضرورة حقيقة “الإرادة الشعبية”، فقد قاد الحزب مشاورات انتهت بتجمع ضم أربعة أحزاب هي العدالة والتنمية والاستقلال والحركة الشعبية والحركة الوطنية الشعبية، والتي عبرت في بلاغ مشترك عن أن “بلادنا تتطلب حكومة قوية وفاعلة تتمتع بثقة الملك وسند الشعب المغربي وقادرة على تجاوز الأزمة الراهنة وتوفير شروط تنمية عادلة ومستدامة”. وأكد القيادي الاستقلالي حينها محمد العلمي أنه إذا وضعت الثقة في هذه الأحزاب الأربعة فلها القدرة على تشكيل الأغلبية البرلمانية إلى جانب ثقة جلالة الملك إن حظيت بتعيين وزير أول من أحد الأطراف الأربعة. في حين اعتبر سعد الدين العثماني نائب الأمين العام حينها أن التجربة الحكومية القريبة من الانتهاء غير ناجحة، وأن لا اعتراض لدينا مبدئيا على المشاركة في الحكومة. وتعرفون بقية الحكاية لقد عين الملك وزيرا أولا غير حزبي هو إدريس جطو وخرج حزب العدالة والتنمية للمعارضة بحيث لم يطلب منه أحد المشاركة في الحكومة. في حين شارك حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي بعد أن عاب في بيانه الشهير عدم احترام المنهجية الديموقراطية. من منا تحدث حينها على العبث ب “الإرادة الشعبية”؟ رجاء لا تذكروا في حجاجكم سياق ذلك الزمن.

2. في الانتخابات الجماعية لسنة 2003، كانت السنوات العجاف، وكانت الصحراء، وكان أيضا تقليص المشاركة والخضوع التام لاشتراطات وزارة الداخلية التي حددت لنا مواقع ونسب المشاركة، فالتزمنا بذلك بوعي وبمسؤولية وكان ذلك في إطار القرار الجماعي لمؤسساتنا التقريرية والتنفيذية، وقد عاب علينا “بعض الشعب” خضوعنا وانبطاحنا، وعيرنا بجبننا وخذلاننا له، فما التفتنا لذلك وما ظننا أننا بصدد خيانة “الإرادة الشعبية” دون احترام لقدسيتها ولسمو إرادتها. رجاء لا تذكروا في حجاجكم السياق التراجعي لسنة 2003.

3. حين جاء الربيع الديموقراطي، وتجلى مغربيا في حركة 20 فبراير، كان هوى الشعب في غير ما أردناه. فقد كان هواه الهادر خروجا واحتجاجا وإعلانا للحرب على الفساد والاستبداد، كذلك كانت الإرادة الشعبية. وكان مقتضى اتباعها واحترامها يفرض علينا أن نسلك مسلكها شبرا بشبر وذراعا بذراع، لكن عكس ذلك هو الذي حصل. وكان الفضل في ذلك يرجع لما قدرته مؤسساتنا وقادتنا، حينها وقف الزعيم وقفته الشهيرة مسنودا بأغلبنا، ورفعنا صوتنا نشازا ضد “الإرادة الشعبية”، وقدرنا أن نعدل المزاج الهادر للشعب، وأن نقنعه بأن لنا رأيا غير ما يراه هو، وأن خير الوطن هو في غير مطلق هواه. رجاء لا تذكروا في حجاجكم السياق، ولا تذكروا أيضا أن الزعيم أخطأ حينها.

4. يعرف كثير منا أن الانتخابات الجماعية والجهوية لسنة 2015، بوأت الحزب موقع الصدارة في عدد كبير من الجماعات والجهات، وكان مقتضى الوفاء للإرادة الشعبية وعدم خيانتها يتطلب منا التشبث بكثير من المواقع، ورفض كثير من التحالفات، خاصة وأننا كنا مضطرين في حالة قبولها، إلى القبول بالعمل المشترك مع كثير من الوجوه الموسومة بتهم الفساد والاغتناء غير المشروع المتأتي من ريع وفساد تدبير الشأن العام. لكن تشهد الوقائع والمواقع والتحالفات التي تمت تحت الإشراف المباشر للزعيم وبموافقته وأحيانا بناء على قراراته، أننا “خنا” الإرادة الشعبية في كثير من الأحيان، وأن الإجراءات العديدة التي أمضيناها، وكثير منها كان من مقتضيات الوفاء لحلفائنا في الحكومة، جميعهم دون استثناء، قد فرضت علينا القيام بما قمنا به من “خيانة”. رجاء لا تحاججوا بإكراهات السياق ولا تلصقوا ما قمنا به بالزعيم، فالقرار كان شورى بيننا واحتكاما لمؤسساتنا.

يمكن لمن شاء فيكم أن يبحث في تاريخنا الطويل عن كثير من مثل هذه الوقائع، لكنني أكتفي في هذا المقام بهذه الأمثلة فقط، وهي كافية للتدليل على تهافت المنطق الذي يريد أن يحمل مفهوم “احترام الإرادة الشعبية” أكثر مما يحتمله. هذه الأمثلة وغيرها تبين التناقض الذي نسقط فيه حينما نلزم أنفسنا بما لا يلزم، فتناقض أقوالنا الحالية أفعالنا المتتالية، وليس أشد على الفكرة والموقف وطأة وثقلا من التناقض الذي ما لازم أمرا إلا غلبه وأنهكه.

ختاما إن المعنى الحقيقي “لاحترامالإرادة الشعبية” هو الوفاء لها وذلك بالصدق مع الشعب ومصارحته، والتواصل الدائم معه توضيحا وبيانا، ومن ذلك ألا نغالطه ونغالط أنفسنا معه. فليس حزب العدالة والتنمية وحده المؤتمن على كل الوطن، وليس في وسعنا لوحدنا أن نعيش عنت حمل أثقاله وأعبائه التي تنوء بحملها الجبال. ومن الوفاء للشعب أن نصدقه وأن نصارحه بأن أطياف واسعة منه لم تنخرط بعد في معركة الإصلاح، وأن حجم الانخراط اليوم غير كاف لإنجاز المهام المتراكمة والمعقدة للإصلاح المنشود. وأن الحزب رغم تصدره للمشهد السياسي الوطني فإنه لم يحظ إلا بحوالي 31% من اصوات المشاركين في الانتخابات في نسبة مشاركة محدودة ولم تجاوز 43 %، ورغم الفضل الكبير لكثير من بنات وأبناء الوطن الذين تحدوا السلطوية وأجهزتها، وبوؤوا الحزب موقع الصدارة إلا أن ذلك لم يكن كافيا، في ظل مشهد حزبي عليل ومرتهن لفساد كثير وكبير، يزيد من حجمه وقوته مخططات السلطوية والعزوف الكبير للمواطنين، وهو الأمر الذي يعيق في العمق تحول وطننا من بلد هجين ديموقراطيا إلى بلد راسخ في ديموقراطية مكتملة الأركان.

ومن الوفاء للإرادة الشعبية الصدق مع الناس بالاعتراف لهم بأننا لم نكن في الموعد، فاختلفنا وتنابزنا. وأضعنا كثيرا من قوتنا في مناكفات لا تسمن ولا تغني من جوع. وكان الأولى بنا الاجتهاد في تدبير منحنى التراجع. لكن عوض القيام بما يلزم تصرفنا ببلادة ففتحنا بيتنا وأذرعنا لنستقبل “أزمة” السلطوية، التي تحولت بسبب ذلك من حقيقة موضوعية مرتبطة بالوضع السياسي العام الذي ينبغي أن يتحمل مسؤوليته جميع المغاربة، إلى أزمة ذاتية عميقة وغير مسبوقة، حيث قمنا من فرط “سذاجتنا” باحتضان أزمة السلطوية وأدواتها كما يحتضن جندي أحمق في أوج المعركة قنبلة عدوه.

أخيرا إن الشعب هو عمق كل الخيارات الإصلاحية، فهو موضوع الإصلاح وأداته، واحترام إرادته أصل واجب، لكن ذلك إنما يكون مهمة ناجحة للنخب والتنظيمات الإصلاحية عندما تقوم بمهام الشهادة والقيادة وما تقتضيه من حسن تدبير معارك الإصلاح بالحكمة اللازمة التي تجلب أكبر قدر ممكن من المصالح وتدفع أكبر قدر ممكن من المفاسد. وصمام الأمان لكل ذلك هو أن يضل المصلحون صالحون، وأن تظل أداة الإصلاح موحدة ومعتصمة بالعواصم الجامعة المانعة من القواصم وما أكثرها.
دمتم سالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *