وجهة نظر

تخليق العملية الانتخابية ورهانات التحصين الديموقراطي واستعادة الثقة المفقودة

رئيسة منظمة النساء الحركيات، خديجة الكور

في مغرب يشهد تحولات ديمقراطية عميقة، لم يعد من الممكن تاجيل عملية تخليق الممارسة الانتخابية. فكل انتخابات تُشكّل فرصة حاسمة لتعزيز شرعية المؤسسات وترسيخ ثقة المواطن فيها.

وقد احتلت مسألة تخليق العملية الانتخابية مكانة بارزة في خطابات صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله الذي أكد في أكثر من مناسبة على أن بناء ديمقراطية حقيقية لا يتم إلا عبر إرساء حكامة جيدة تقوم على الشفافية والمساءلة والمسؤولية .

واستمرارا لهذه الرؤية الواضحة، جاء خطاب العرش 2025 ليؤكد بجلاء على أولوية تخليق العملية الانتخابية كركيزة أساسية في بناء ديمقراطية قوية ومستدامة بالمغرب. و شدد صاحب الجلالة الملك محمد السادس على ضرورة ضمان سير الانتخابات في أجواء من النزاهة والشفافية،

وأبرز جلالته في خطابه السامي أن مكافحة الفساد الانتخابي، والمحسوبية، وشراء الأصوات ليست مجرد مطلب سياسي فحسب، بل هي مسؤولية وطنية تتطلب تضافر جهود جميع الفاعلين السياسيين والمؤسسات العمومية والمجتمع المدني على حد سواء.

وقد كلف جلالة الملك وزير الداخلية، عبد الوافي لفتيت، بالإشراف المباشر على هذا الورش الوطني الحيوي، مبرزًا أن هذا الإصلاح هو من أولويات السياسات العمومية.

ويعكس هذا التوجيه الملكي الواضح الإرادة الصادقة لبناء منظومة انتخابية نزيهة تحترم مبدأ التنافس الشريف وتضمن مشاركة شاملة وعادلة لكل فئات المجتمع المغربي، بهدف تعزيز الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة.

وتفاعلاً مع التوجيهات الملكية السامية، عقد وزير الداخلية عبد الوافي لفتيت لقاءً تشاورياً مع رؤساء الأحزاب السياسية حدد بمناسبته خارطة طريق لاصلاح المنظومة القانونية المرتبطة بتنظيم الانتخابات التشريعية لسنة 2026 و التي تطمح إلى إصلاح نظام تمويل الأحزاب واستقطاب النخب والكفاءات والرفع من تمثيلية الشباب والنساء وتطوير التواصل وتخليق الممارسة الحزبية بما يضمن استعادة ثقة المواطنين وتعزيز مبادئ الشفافية والمساواة والتنافس الشريف.

ورغم حجم المبادرات المتخذة والمكاسب المحققة في مجال تأطير وتدبير الانتخابات، تواجه العملية الانتخابية في المغرب عدة تحديات بنيوية تعرقل فعاليتها ونزاهتها.

ويشكل ضعف المشاركة في الانتخابات معطى بنيوياً في المشهد الانتخابي الوطني. ففي الانتخابات التشريعية لسنة 2021، لم يتجاوز عدد المسجلين في اللوائح الانتخابية 15 مليون ناخب من أصل حوالي 21 مليون مؤهل قانونياً، ما يعني أن نحو 30% من الناخبين المحتملين لم يتم تسجيلهم. ومن بين المسجلين، لم يصوت سوى حوالي 50% فقط، أي أن نسبة المشاركة الفعلية مقارنة بالسكان البالغين تبلغ حوالي 35% فقط.

وقد رصدت عدة تقارير وطنية صادرة عن المجلس الوطني لحقوق الإنسان والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي مجموعة من الاختلالات التي تؤثر على تخليق الحياة السياسية من أبرزها ضعف التنسيق بين الجهات المسؤولة عن مراقبة العملية الانتخابية، قصور آليات حماية الحقوق السياسية للناخبين ونقص الضمانات القانونية الكفيلة بمكافحة الفساد الانتخابي.

كما أبرزت هذه التقارير الحاجة إلى تعزيز دور مؤسسات الرقابة المستقلة، وتحسين فعالية آليات المتابعة والتتبع لضمان شفافية تمويل الحملات الانتخابية وسلوك الفاعلين السياسيين. وأكدت أيضاً على أهمية مشاركة المجتمع المدني كمراقب وفاعل أساسي في ضمان نزاهة الانتخابات وخلق مناخ سياسي يسوده الاحترام للحقوق والحريات.

ومن أبرز التحديات التي يعرفها مسلسل الانتخابات بالمغرب استمرار تفشي ظاهرة شراء الأصوات، واستغلال الموارد والخدمات العمومية و مبادرات الاحسان العمومي لأغراض انتخابية وغياب الشفافية في تمويل الحملات الانتخابية، مما يؤثر سلباً على المنافسة السياسية النزيهة.
و يعكس هذا الواقع قصوراً واضحاً في القدرة على ضمان التقيد بالقوانين وضعف آليات الرقابة وغياب آليات فعالة لمكافحة التجاوزات داخل الأحزاب نفسها، الأمر الذي يتطلب إصلاحات جذرية تعزز المساءلة والشفافية وتحمي العملية الديمقراطية من التشوهات.

كما تترسخ داخل الأحزاب السياسية نفسها ممارسات مقلقة يتم التطبيع معها مثل بيع تزكيات الترشح والمواقع في اللوائح الجهوية للنساء ولوائح الترشح للمسؤوليات العمومية، مما يفرغ هذه الآليات من مضمونها ويحولها إلى أدوات للمساومة السياسية ويقطع الطريق أمام النخب والكفاءات. وقد سجل تقرير بعثة مراقبة الانتخابات لمجلس أوروبا عام 2021 عدة شكاوى تتعلق بانعدام الشفافية في تدبير لوائح الترشح، واتُهمت بعض الأطراف بمنح امتيازات غير مستحقة لمرشحين معينين.

هذه الممارسات تشكل تهديداً خطيراً على مصداقية الأحزاب، التي يفترض أن تكون حاملة وحاضنة للقيم الديمقراطية ومبدأ تكافؤ الفرص.
كما تستفحل في المشهد الانتخابي الوطني ظاهرة الوسطاء في تنظيم عمليات شراء وبيع أصوات الناخبين، حيث تشكل شبكات منظمة ترتبط باتفاقات مالية مع المرشحين.

وقد أظهرت الدراسة الوطنية حول الفساد في المغرب لسنة 2023، الصادرة عن الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، أن نسبة 82% من المواطنين و80% من مغاربة العالم يرون أن التزوير الانتخابي هو من أكثر أشكال الفساد انتشاراً.

كما كشفت تقارير المجلس الأعلى للحسابات عن وجود عدة خروقات تتعلق بعدم ضبط النفقات بشكل جيد، واستخدام مصادر تمويل غير معلنة، ونقص الشفافية المالية، فضلاً عن ضعف الإجراءات العقابية الرادعة. كما أشار ت التقارير إلى غياب آليات فعالة لتتبع استخدام الأموال وتقييم تأثيرها على المنافسة السياسية، مما يتيح استغلال الأموال لشراء الولاءات والتأثير على نتائج الانتخابات، وهو ما يضعف ثقة المواطنين في المسلسل الانتخابي و الموسسات ويعيق ترسيخ ديمقراطية حقيقية.

كما يلاحظ على مستوى تدبير مالية الأحزاب، إسناد الصفقات المتعلقة بتنظيم الحملات الانتخابية، مثل إعداد البرامج الانتخابية وطباعة الوثائق وتأجير القاعات، وتدبير التواصل بطريقة التراضي، وهو ما يُشكّل مجالاً إضافياً للزبونية داخل الأحزاب السياسية.

وانطلاقاً من هذا التشخيص، فقد أصبح ضرورياً تبني استراتيجية متكاملة قابلة للتنفيذ، تُركز على بناء إطار قانوني متين وشفاف يجرم جميع أشكال الفساد الانتخابي، ويضع آليات رقابة مستقلة قادرة على متابعة كافة مراحل العملية الانتخابية. ويشمل ذلك تحديد سقف واضح للإنفاق الانتخابي وضمان الشفافية التامة في مصادر التمويل، مع فرض عقوبات صارمة على المخالفين. كما يجب أن تتضمن هذه التدابير تحيين القوائم الانتخابية باستخدام أحدث التقنيات الرقمية وبشكل منتظم لضمان تمثيل عادل لكل المواطنين وقطع الطريق أمام التزوير، بحيث تُعتمد آليات فعالة للتحيين الدوري والتأكد من صحة المعطيات الانتخابية. إضافة إلى ذلك، ينبغي إدخال تعديلات هيكلية على القانونين الأساسيين: قانون الأحزاب السياسية والقوانين الانتخابية، لاستبعاد الأشخاص الذين صدرت في حقهم أحكام قضائية نهائية في قضايا الفساد أو تبديد المال العام من الترشح أو التمثيل الانتخابي.

وبالإضافة إلى ذلك، يجب على الأحزاب السياسية الالتزام بمدونات سلوك أخلاقية ملزمة تضمن الشفافية والنزاهة، وتطوير هياكل تنظيمية داخلية مبنية على الاستحقاق تمنع ممارسات غير قانونية مثل شراء الأصوات أو فرض “ثمن الترشح”. ويُعد اعتماد هذه المدونات الأخلاقية جزءاً أساسياً من الإطار القانوني والتنظيمي الذي يهدف إلى تخليق الحياة السياسية وضمان نزاهة العملية الانتخابية.

ويجب كذلك وضع آليات واضحة وشفافة لمراقبة تمويل الأحزاب والحملات، مع فرض عقوبات صارمة على المخالفات، خصوصاً في ما يتعلق بظواهر شراء الأصوات أو التلاعب باللوائح.

ولا يمكن أن تقوم عملية تخليق المسلسل الانتخابي فقط على الإصلاحات التشريعية وجهود المؤسسات العمومية، بل تتطلب أيضاً وعياً والتزاماً فعّالاً من جانب المواطنات والمواطنين أنفسهم. فعندما يقبل الناخب ببيع صوته مقابل المال أو أي مكاسب أخرى، فإنه يساهم بشكل مباشر في استمرار نظام فاسد يضعف أسس الديمقراطية ذاتها. هذه الممارسة، التي غالباً ما تكون نتيجة لاحتياجات اقتصادية أو إحساس باليأس، تؤدي إلى تدهور جودة التنافس السياسي وتعزز ممارسات الزبونية التي تضر بالمصلحة الوطن.. لذلك، تتجلى مسؤولية المواطن في رفض الاستسلام لإغراءات الفساد الانتخابي، وفي ممارسة حق التصويت بحرية ووعي وبإدراك عميق للأبعاد الجماعية لهذا الاختيار. ولتعزيز هذا الوعي المدني، من الضروري ترسيخ التربية المدنية منذ الصغر، وتكثيف حملات التوعية بأضرار الفساد، وتشجيع قيم النزاهة والأخلاق السياسية لأن مكافحة الفساد في الانتخابات هي معركة جماعية، حيث لكل صوت قيمة ليس فقط داخل صناديق الاقتراع، بل وأيضاً في اتحاد المواطن القرار بان لايكون جزءاً من منظومة الفساد على حساب الوطن.

و يجب ان يلعب للمجتمع المدني دوراً أساسياً في عملية تخليق المسار الانتخابي وفي تعزيز حياة سياسية شفافة ومسؤولة. فهو يمكن ان يشكل قوة رقابية مستقلة تُراقب وتُحلل وتفضح الممارسات الفاسدة مثل شراء الأصوات والمحسوبية والتلاعب بالقوائم الانتخابية. من خلال مهامه في التوعية، وتعزيز الوعي الديمقراطي وتشجيع المشاركة الانتخابية. كما أن مشاركته في مراقبة الانتخابات يمكن أن تساهم في ضمان شفافية أكبر، مما يعزز ثقة المواطنين في النتائج. بالإضافة إلى ذلك، يُمكن للمجتمع المدني أن يضغط من أجل إصلاحات تشريعية ومؤسسية و ان يساهم بمدكراته في ورش الاصلاح ، وأن يدعم إنشاء هيئات رقابية مستقلة، ويعمل على صياغة مواثيق و مدونات سلوك أخلاقية توطر السلوك الانتخابي.وقد أثبتت التجارب الدولية أن العمليات الانتخابية التي يشارك فيها المجتمع المدني بشكل فعّال تكون دائما أكثر مصداقية وشمولية وعدالة.

كما تلعب وسائل الإعلام دورًا مركزيًا في تخليق العملية الانتخابية وفي بناء حياة سياسية شفافة ومسؤولة. فإلى جانب واجب تقيدها بالحياد التام والتوازن في تغطية الحملات الانتخابية، تتحمل وسائل الإعلام مسؤولية أن تكون فاعلاً نشطًا في تعزيز الحكامة الديمقراطية السليمة و فاعلا يقظاً يحقق في الممارسات غير القانونية أو المشكوك في أمرها مثل الفساد، الزبونية، وشراء الأصوات، وأن تكشف عنها أمام الرأي العام لتحفيز الوعي الجمعي. وبفضل قدرتها على التأثير، تساهم وسائل الإعلام في توعية المواطنين بحقوقهم وواجباتهم، وتزويدهم بمعلومات دقيقة حول برامج المرشحين وإنجازاتهم، مما يعزز جودة النقاش الديمقراطي. كما تلعب دوراً محورياً في توفير معلومات واضحة، متاحة وموثوقة، لا غنى عنها لمشاركة انتخابية مستنيرة.
إلى جانب ذلك، يجب على وسائل الإعلام أن تروّج لثقافة سياسية قائمة على الأخلاق والمسؤولية والشفافية، من خلال تسليط الضوء على الممارسات النموذجية وإتاحة فرصة البوح و الكلام للفاعلين المتصدين لمحاربة الفساد. ولا يمكن ضمان مراقبة ديمقراطية فعالة وتعددية آراء سليمة إلا عبر استقلالية تحريرية تامة بعيداً عن الضغوط السياسية والاقتصادية. باختصار، لا يمكن ان يقتصر دور وسائل الإعلام على الشاهد السلبي على العملية الانتخابية، بل ان يتعداه ليشكل الإعلام ركيزة حيوية وفاعلة ضرورية لتخليق الحياة السياسية واستعادة ثقة المواطنين في ممثليهم.

إن انتخابات 2026 تمثل فرصة تاريخية لإحداث نقلة نوعية في مسار الديمقراطية المغربية، بما يجعل من التنافس السياسي مجالاً عادلاً وشفافًا يعكس تنوع وتطلعات المجتمع.

إن تخليق العملية الانتخابية ليس مجرد هدف شكلي، بل هو مدخل ضروري لاستعادة ثقة المواطن في العمل السياسي، وتحقيق مجتمع يقوم على القيم الديمقراطية الحقيقية، حيث تُحترم حقوق الجميع ويُكرم التعدد والتنوع.

بناءً على ذلك، فإن الاستمرار في جهود الإصلاح والمساءلة والشفافية يشكل مسؤولية مشتركة لجميع الأطراف: الدولة، الأحزاب، المجتمع المدني، الاعلام وخصوصاً المواطنات والمواطنين أنفسهم. فالنهوض بالديمقراطية يتطلب التزامًا جماعيًا يقطع مع مظاهر الفساد والمحسوبية، ويعزز ثقافة المشاركة والوعي السياسي.

في هذا الإطار، يمكن لتخليق العملية الانتخابية أن يكون بوابة أمل حقيقية لتجديد المشهد السياسي المغربي، وترسيخ دعائم الاستقرار والتنمية المستدامة، بما يجعل من المغرب نموذجًا يحتذى به في التجربة الديمقراطية على الصعيدين الإقليمي والدولي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *