حزب مسؤول وحر الإرادة يستعصي على التحكم
كان قرار المجلس الوطني بعدم التمديد للزعيم حدث نهاية الأسبوع، ولربما سيكون من أهم الأحداث السياسية، فقد انشغل الناس مدة شهور بنقاش متنوع وغني وحاد أحيانا، فكانت نهايته تلك التي تعلمون.
من يعرف حزب العدالة والتنمية، لم يستغرب القرار، ولو أنه قد يكون فاجأه، فليست هذه هي المرة الأولى التي ننتج فيها ”مفاجآت”. أنا أتفهم أن كثيرين آلمهم هذا القرار، وهو قرار كبير وصعب، فكيف يمكن لحزب سياسي أن يتخذ قرارا يحرم بموجبه زعيمه ”الوحيد” الذي يذكر تعريفا ”الزعيم”، وهو في أوج قوته وعطائه، وهو من قاد الحزب منذ تسع سنوات من نصر إلى نصر، وبوأه مكانة وموقعا غير مسبوقين. كيف لقوم يتركون أحد أهم عنصر قوتهم ويتخذون قرارا مخالفا.
أتفهم أيضا شعورا ملأ الكثيرين، أعضاء ومتعاطفين وعموم المواطنين، غضبا وحزنا واستنكارا لقرار ”غير مفهوم”، وذلك لا يعيبهم في شيء، وكيف يعيبهم وموضوعه هو ”سي عبد الإله بنكيران” الذي ملأ حبه قلوب أغلب الناس، بما بذله من حب وعطاء لهذا الوطن ”بكل كفاءة واقتدار ونكران ذات”، إضافة إلى ما قام به من أدوار تاريخية عبر مساره الحافل والممتد إن شاء الله، فكان أن دخل مصاف رجال الوطن العظام، وزعمائه الكبار الذين سيخلدهم تاريخ الوطن، وسيذكره التاريخ كأول ”إسلامي” خرج غيابة الجب وما فيها من ضيق الطائفة إلى سعة الوطن، فأصبح رمزا تعلقت به آمال كثيرين تباعدت خلفياتهم السياسية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية، لكنها توحدت وانصهرت في ”الزعيم”.
لكن بالرغم من كل ماذكرته، فإن الحزب تحمل مسؤوليته، واتخذ قراره بعد تداول رفيع، وعقب تصويت سري حسم الأمر، وأنهى الكلام. ولأن كثيرين ممن لم يعجبهم القرار، أرادوا أن يصوروا أن الأمر متحكم فيه من فئات وأصناف داخل الحزب، سأسوق نموذجين لقياديين في الحزب على طرفي نقيض في الموقف، بيد أن المعطيات المرتبطة بهما تقتضي عكس ما عبرا عنه من رأي، وهما نائب الأمين العام سليمان العمراني، والمناضل الأبي عبد العزيز أفتاتي.
سأبدأ أولا بسليمان العمراني، الذي كان من المفروض فيه أن يكون مدافعا على قرار التمديد، لأسباب شتى، لعل أهمها أنه كان من أكبر المدافعين عن الزعيم سنة 2008، حين انعقاد المؤتمر الذي انتخب فيه عبد الإله بنكيران أمينا عاما للحزب خلافا لكل التوقعات. وهو من حينها نائبا له، بدأ ثانيا، وصار وحيدا وأولا بعد وفاة المرحوم عبد الله بها. لكن الذي حصل هو أن سليمان العمراني، عبر بوضوح تام عن رفضه التمديد للأمين العام. فهل هو وزير، أم سفير، أم عضو ديوان؟ وهل هو داعية مرسل من الحركة الدعوية؟ أم أنه ”خوَّاف” بحسب من سبنا جميعا حينما اعتبر أن الخوف فينا انتصر. وبالمناسبة لم يتسرب من أعمال المجلس ما جرى من حديث بين سي عبد الإله ونائبه سليمان العمراني، بيد أن ذلك وحده كفيل بمعرفة سموق هذا الحزب ومناضليه، لقد أخبرنا الأمين العام في سياق التدليل على حرية التعبير المطلقة المكفولة لأعضاء المجلس الوطني للتعبير عن رأيهم، أن سليمان العمراني استأذنه في إمكانية أخذ الكلمة للتعبير عن رأيه، وقال لنا سي عبد الإله، أنه قال له طبعا يجب أن تعبر عن رأيك إن رغبت في ذلك. وأخبرنا أيضا أنه كان يعرف أن لسليمان العمراني موقفا معارضا للولاية الثانية. وما حدث هو سليمان تحدث بأدب رفيع، والزعيم استمع بأناقة أرفع.
والآن ما هي قصة عبد العزيز أفتاتي، الذي ترافع مرتين، وبكل ما أوتي من قوة من أجل اعتماد الولاية الثالثة. أفتاتي هو ”المجدوب”، الذي قصفه الزعيم مرارا وتكرار، وهو من شكاه سرا وجهارا. أفتاتي هو من أمضى فيه الزعيم قرارات تأديبية متتالية، وكان منها تجميد عضويته في هيئات الحزب، وعزله من مسؤولية لجنة الشفافية والنزاهة، وليتذكر بعضكم القصف الذي تعرض له الزعيم حينها، قصفا أزرقا ”قانيا” بحمرة الغاضبين. فقد كان من المفروض أن يكون أفتاتي في الجهة الأخرى، وفي ضفة الرافضين، فإذا به بعد طول غياب، يحضر ويكون ”ناطقا رسميا” باسم الولاية الثالثة.
وصفوة القول في كل ماذكرته، هو أن حزب العدالة بخير، وليطمئن الجميع، وخصوصا أبناء وبنات العدالة والتنمية. فهو حر الإرادة، ومستقل القرار، وعصي عن التحكم، كل التحكم بإطلاق. فهو عصي عن تحكم السلطوية التي تريده حزبا خانعا؛ وهو عصي أيضا عن تحكم الصفحات الزرقاء و”جمجماتها” والتي تريده حزبا مستفزا أو مبتزا، وهو عصي كذلك عن ”الافتتاحيات” التي كادت أن تصير كلماتها أوامر واجبة الاتباع، والتي تريده حزبا لرجع الصدى.
وإن حزبا مجمع على حب الزعيم وعلى تقدير عطائه الاستثنائي، وقوته الرافعة، وتحت ضغط رهيب من كل حدب وصوب، يحسم قراره، شورى وتداولا وتصويتا حرا شفافا ونزيها، لينتصر لمبدإ سمو القانون ورفعته واضطراده وتعاليه عن الاستثناءات مهما كانت ولو كانت زعيما كبيرا واستثنائيا من حجم الأستاذ عبد الإله بنكيران؛ إن حزبا هذا قراره لن يكون إلا حرا مستقلا.
ختاما، إن الحزب الذي استطاع أن يدير نقاشا عميقا رفيعا لمدة تزيد عن عشر ساعات، تناول فيها وضعا شديد التعقيد، تتداخل فيه الزعامة الاستثنائية لتختلط بواقع سياسي شديد التعقيد، وما يقتضيه ذلك من الحديث عن الأشخاص والمواقع والمواقف والتقديرات السياسية، ومع ذلك لم يقاطَع متدخل واحد، ولم يسمع في كل ذلك الزمن الممتد سباب ولا فسوق ولا فجور في القول ولا في الفعل؛ إن حزبا هذا حاله وتلك إرادته لن يكون مستقبله إلا خيرا إن شاء الله رغم أنف المتحكمين جميعهم، دونما استثناء.
دمتم سالمين.
اترك تعليقاً