وجهة نظر

ماذا بعد الإعفاءات الملكية؟

ترحيب خاص

تلقى عموم الشعب المغربي الإعفاءات الملكية الأخيرة بتقدير خاص، واعتبرها أغلب المتتبعين بداية مبشرة بتحول جذري في التعامل مع المسؤولية العمومية؛ مهنية كانت أو سياسية، مما سيضع الجميع تحت مجهر المتابعة، والمساءلة، والحساب. كما اعتبروا وصول يد المحاسبة إلى نخب البلاد السياسية والمهنية، وكريزماته الحزبية، أمرا فريدا في مغرب ما بعد دستور 2011، ورسالة صريحة إلى كل الذين يشككون في قدرة من يهمهم الأمر على ململة معاقل الديناصورات والحيتان الضخمة التي ظلت تمارس امتدادها الحكمي، دون حسيب ولا رقيب، حتى حلت عليها عصا الإعفاء لتزيحها مِنْ على كَرَاسٍ ظن الجميع أن الموت هو الوحيد الذي يستطيع ذلك، بل حتى الموت سيترك لها بصمات من بنيها وبناتها يواصلون، بشكل أو بآخر، على خطى الآباء المتورطين !.

نعم، لقد استبشر الجميع بهذه الإعفاءات، وزاد من ارتياحهم أنها جاءت بعد خطب ملكية صارمة، ومزلزلة، مما جعل الشعب المغربي يستنتج أن هذا التفعيل المستعجل لمضامين الخطب إياها، دليل ملموس وحي عن قرب بزوغ زمن الحساب، ورد الاعتبار لهذا الشعب المهضوم الحقوق، المسلوب الإرادة من قبل حكامه، ومدبري شؤونه العمومية.

ماذا بعد الإعفاءات؟

بيد أن السؤال الذي ظل يؤرق الجميع، خصوصا متتبعي شؤون البلاد السياسية والاقتصادية، والمناضلين من أجل الحقوق السياسية، والاقتصادية للشعب المغربي، بعد مرور زمن لا بأس به عن صدور هذه الإعفاءات؛ هو: ماذا بعد هذه الإعفاءات ؟. وهل هذه الإعفاءات هي غاية الحساب الذي سيطال المقصرين في خدمة هذا الشعب، ومن تم تنتهي “الغضبة الملكية” عند حدود تغيير المواقع، دون محاسبة يكون للقضاء فيها القول الفصل؟ أم سيمتد التأديب إلى محاكمة المتورطين في الضحك على ذقون المغاربة، والاقتصاص منهم، وجعلهم عبرة لغيريهم. وهو ما يأمله كل مواطن مغربي ينشد انصلاح حال بلده، والقطع مع مثبطات مساره التنموي، الذي أفشلته السياسات الظالمة لجماعة من عديمي الضمير المهني، والحس الوطني؟

إن المتتبع لما تعرفه الساحة الوطنية، وما تعرفه تداعيات الإعفاءات السالفة الذكر، وما ينشر عبر مختلف وسائل الإعلام، الرسمية منها خاصة، وما يدلي به رئيس الحكومة من تصريحات حول الوضع الجديد الذي نتج عن هذه الإعفاءات، لا يكاد يحس بما يوحي بأن ثمة تحركا مَا قد يواصل تنزيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة إلى منتهاه، ويقدم كل المتورطين إلى العدالة. بل الذي بدأ يتبَدَّى في الأفق هو أن الحال ستبقى كما هي، وأن لا شيء سيتغير في القريب العاجل، وأن هذه الحلحلة لن تتعدى تداعياتُها المنظورَ الآني.

فالإعفاء، بالشكل الذي تَمَّ به، ورغم وقعه النفسي، و تداعياته الاعتبارية على أصحابه، لا يمكن أن نعتبره آلية عقابية/تأديبية كافية ما لم يكن له ما بعده، وما لم تتأسس عليه أحكام قضائية تُعمَّمُ على الحالات المماثلة، فيصير أسلوبا حُكميا جَزائيا قرينا بالمسؤوليات. إذ الإعفاء، الذي ينبني على نتائج التقصي والافتحاص، ليس سوى مقدمة عادية وطبيعية على عتبة المحاسبة التي تشكل مع المسؤولية قرينة الحكامة المواطنة التي قررها دستور المملكة، وأكد عليها الملك في أكثر من خطاب.

فما نلاحظه اليوم من عدم اكتراث الحكومة بمتابعة هذا الملف، وتوقف المتابعات عند حدود بلاغات الإعفاءات، دون ترتيب لأي أحكام، أو قرارات صارمة عليها، لا يبشر بأن رجاء المغاربة بحدوث تغيير في الممارسة الحكمية في المغرب سيتحقق، وأن عهدا جديدا لترتيب الأوراق، وإعادة تشكيل الهيكلة الحكمية على قواعد النزاهة والكفاءة، وعلى تعاقدات محددة المهام والمخرجات، على قاعدة مقتضيات دستور 2011، سيرى النور في مغرب أخذ على نفسه أن يقطع مع العقليات البائدة، ومع نموذج تنموي فاشل كانت من نتائجه التي راكمها لسنوات من الظلم الاقتصادي، و”الحكرة” الاجتماعية، هذا الجيش العرمرم من المعطلين، و”الحراكة”، والفقراء، والمهمشين، والذين أظهرت حوادث متفرقة عرفها المغرب مؤخرا، وليس آخرها ما عرفته بالأمس فاجعة الصويرة الأليمة، أن واقعا مزريا يتخفى عليه المسؤولون، يتشكل في سراديب المعاناة والحاجة، ويهدد – لا قدر الله !- بانفجار الأوضاع، وتحول الهبَّات المعزولة، إلى حراك عام قد يأتي على الأخضر واليابس.

إن الإعفاء من المهام وحده لا يكفي. هذا ما أجمع عليه المغاربة كلهم جميعا، بعد صدور بلاغ الإعفاءات. فالجميع ظل ينتظر خطوات جديدة تلي هذه الخطوة الكبيرة التي أثلجت صدور كادحات وكادحي هذا الشعب؛ ولا خطوات !. والجميع ينتظر تفعيل المبدأ الدستوري، “أيقون” دستور 2011، “ربط المسؤولية بالمحاسبة”، والذي يعني عند عامة الناس: تقديم المسؤول أمام القضاء. لكن لا شيء حدث !.

فاجعة الصويرة والمطالبة بالمحاسبة

والآن فاجعة الصويرة تعيد موضوع المطالبة بالمحاسبة إلى الواجهة، وتسائل كل مدبري الشأن العمومي؛ من سلطات محلية، ومنتخَبين، وجمعيات مدنية، ومؤسسات حكومية وشبه حكومية، وكل المسؤولين عن حقوق المواطن الاجتماعية والاقتصادية.

فوجود هذا الجيش العرمرم من الفقراء المتلهفين، حدَّ الموت، لكسرة الخبز في نقطة من هذا الوطن، واصطفافهم في طوابير لعدة ساعات، من أجل قنينة زيت، وحفنة دقيق، مؤشر صادم على أن المعاناة قد وصلت مداها، وأن السياسات المعتمدة في محاربة الفقر قد فشلت. وأن الحاجة اليوم قد أصبحت ملحة لتسجيل وقفة حقيقية من أجل إعادة ترتيب الأوراق، وتحديد المسؤوليات، وتقديم الحساب.

كما أن هذه الحادثة تجعلنا نشك في الإحصائيات التي تنشرها الحكومة المغربية والتي ظلت تقلل من الأرقام المخيفة للفقراء في المغرب، خصوصا في القرى وهوامش المدن الكبرى، لتغطي على فشل سياساتها المتعاقبة في تدبير أساليب ناجعة وجريئة للقضاء على الفقر. والذي أشارت المندوبية السامية للتخطيط إلى أحد أسبابه الرئيسة في تقريرها الأخير والمتمثل في ” النمط الجزافي لاستهداف محاربة الفقر”. رغم أنها، من جهتها، قللت من أعداد الفقراء المغاربة، حينما حصرتهم في أربعة ملايين فقط (المقصود هاهنا الفقر المتعدد الأبعاد)، في الوقت الذي وصل فيه عدد المستفيدين من نظام “راميد”، الذي يعتمد معيار الفقر كشرط أساس في الاستفادة من خدماته، 11 مليونا (بالضبط 10ملايين و400 مستفيد سنة 2016) !!.

فمن نصدق يا ترى؟ هل نصدق هذا الجيش من الفقراء الذي يضحي بنفسه من أجل مواد غذائية لا تتجاوز قيمتها 160 درهما، والذي أثبتت الفاجعة أنه واقع موجود لا يمكن إخفاؤه، ولا الالتفاف عليه؟. أم نصدق إحصائيات الحكومة المغربية التي فشلت في وضع سياسة تنموية شاملة ومندمجة قمينة بمحاربة حقيقية للفقر والقضاء على مسبباته؟. أم نصدق هؤلاء الذين يتاجرون بجوع الفقراء، لمصالحهم الانتخابية والحزبية الضيقة، عبر المساعدات الغذائية الاستعراضية؟. أم ماذا..؟

إن حادثة الصويرة، وقبلها حوادث عرفها المغرب، وحركت الشعب بالاحتجاج، تستدعي فتح تحقيق نزيه ومسؤول، يقطع مع سياسة “عفا الله عما سلف”، ويقدم المسؤولين عن هذه الكوارث المهينة، إلى العدالة.

خلا هذا، سنظل ننشد مغربا جميلا؛ بلا فساد، ولا تبذير، ولا نهب للثروات،… ولكن في الأحلام، ولا شيء غير الأحلام !!

دمتم على وطن.. !!

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *