وجهة نظر

تأملات في واقع الأمة: تراثنا الفقهي وإشكالية الاجتهاد (2)

تراكمت على الأمة الإسلامية اليوم مستجدات وقضايا معاصرة متنوعة، منها ما جاء عبارة عن فتاوى، ومنها ما جاء عبارة عن نوازل (النوازل المعاصرة)، فأمام هذه المتغيرات انقسمت الأمة إلى عدة فرق، منهم من يحاكم واقع الأمة بتاريخ المتقدمين الذين سبقونا، وينسى أن الحياة تغيرت وواقع الأمة في تجدد مستمر، ومنهم من يختزل تراثنا الفقهي في دائرة الحلال والحـرام دون التفكير في مقاصدية الشريعة، ويتضح هذا من خــلال الإجابات التي يقدمها بعض العلمـاء عند طلب فتواهم في بعض القضايا المعاصرة، فلا تتعدى هذا حلال وهذا حرام، دون البحث عن جوهر الشريعة الإسلامية ومقاصدها.

واليوم تزداد حاجتنا إلى مراجعات نقدية من أجل إعادة النظر في تراثنا الفقهي، وعندما أقول المراجعة والنقد لا يجب أن يفهم القارئ (ة) أننا بصدد فك الرهان مع الماضي، وإنما من أجل تجديد الفقه وتطويره، وجعله يخدم الإنسانية فدين الله جاء للناس كافة.

وعلى من يطرق باب الفقه أن يدرك مقاصدية الشاطبي، وظاهرية ابن حزم، ورقائق الجنيد، واجتهاد الغزالي، وفقه أبي حنيفة، وأثرية ابن حنبل، ويضيف إليه ما جد من العلوم الإنسانية الجديدة على الأمة من علم الاجتماع وعلم النفس …

التأمل الأول: تقويم تشخيصي للواقع الفقهي المعاصر:

إن الناظر بعقل المتأمل في واقع الأمة الإسلامية اليوم سيجد اللوائح المطلبية المطروحة أمامها في تزايد مستمر ومتنوع، فمن الفقه الخاص كقضايا الفقه الجزئي المرتبط بالشؤون الفردية، إلى الفقه العام المتعلق بالفقه الكفائي بمجموع الأمة، فقضايا الأمة اليوم في تجدد مستمر ويقابل ذلك غياب الوعي الجمعي للعقلية الفقهية للأمة، حيث يعيش المفتي وطالب الفتوى في حيرة وريبة، وتضارب الفتاوى أحيانا، فمن الفقهاء من يعتمد النظر المصلحي ويبالغ في تغليبه حتى يتحول إلى مفاسد، ومنهم من يطوي النص حتى يجعله ضيقا كثقب الإبرة، فيضيق على نفسه والناس سعة الإسلام، فكتب الفقه الإسلامي مليئة بالمسائل الخلافية فقد تجد في المسألة أكثر من خمسة أقوال ، كمسألة الوضوء من أكل لحم الجزور، قال النووي رحمه الله: (اختلف العلماء في أكل لحوم الجزور فذهب الأكثرون إلى أنه لا ينقض الوضوء، وممن ذهب إليه الخلفاء الأربعة الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي بن كعب وابن عباس وأبو الدرداء وأبو طلحة وعامر بن ربيعة وأبو أمامة وجماهير التابعين ومالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم). فهذا نموذج واحد من المسائل الخلافية الكثيرة التي استهلاكها علماء الأمة مدة من الزمن، وأظن أن الأمة الإسلامية في حاجة إلى تعميق الوعي بالجمعي أكثر من تكريس ثقافة الاختلاف في فقه الفروع .

زد إلى ذلك بعض المسائل المعاصرة التي كثر فيها الكلام وتشدد فيها من تشدد علما أن الأمر لا يستحق ضجة كبيرة ولا إلى أقوال الفقهاء ويتعلق الأمر بحكم قيادة المرأة للسيارة في دولة السعودية، ومن المسائل المعاصرة التي كثر فيها الكلام البنوك التشاركية بين مضيق وموسع.

لقد كان الفقيه قديما يدلي برأيه في المسألة ويتبعها (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب)، بل إن بعضهم يجتهد في إخراج الحكم الفقهي وبعد ذلك يظهر له رأي غيره أقوى من قوله فيعدل عن اجتهاده ولا يجد في ذلك حرجا، لكن اليوم مع كامل الأسف يعرف الفقه الإسلامي نوع من الاختطاف فنجد بعد الفقهاء يحتكرون الفتوى ولا حكم بعد حكمهم، ولا أحد يملك ملكة الاجتهاد في التفسير والتحليل للقضايا المستجدة، وهنا لابد أن أوضح كلامي أكثر حتى لا يفهم في غير محله، فإني لا أتهجم على علماء وفقهاء الأمة، لكن أن يتم احتكار الفقه في يد فئة معينة فهذا غير مقبول أخلاقيا، كما لا يصح أن يذهب إليها كل من هب ودب كما يفعل بعض المنسبين للدين، وهنا يجب أن أطرح إشكالية مهمة في إمكانية تعديل شروط المجتهد نظرا لظهور نوازل معاصرة تحتاج إلى مجموعة من العلوم العصرية التي لم يعرفها الفقهاء قديما، وهذه الإشكالية هي التي ستكون موضوع المحور التأملي الثاني.

التأمل الثاني: شروط المجتهد وإمكانية الاجتهاد في تعديلها: من المتقدمين إلى المعاصرين.

إن الإسلام لا يعترف بالتحجر والجمود، بل يحث الإنسان على إعمال العقل والاجتهاد، ولأن الدين يستوعب الزمان والمكان، فإن باب الاجتهاد سيضل مفتوحا إلى أن يرث الله الأرض من عليها، وعلى هذا الأساس وضع العلماء للاجتهاد قوانين قالوا بضرورة احترامها حتى تتحقق في المجتهد صفة الاجتهاد التي رسموا له، لكن هل هذه الشروط التي وضعها المتقدمين يمكن أن تبقى صالحة لكل زمان؟ وهل يمكن أن نعزز شروطهم بشروط أخرى معاصرة نظرا لتطور نظرية العلوم؟

وقبل الاسترسال في التأمل الثاني يستحسن أن أقدم للقارئ(ة) تعريف معنى المجتهد مادام الأمر يتعلق به وإليكم بعض التعارف:

يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: هو من استفرغ وسعه في تحصيل العلم، أو الظن بالحكم.(أنظر الموافقات )

وأما الإمام الشوكاني رحمه الله فقال: بأنه الفقيه المستفرغ لوسعه لتحصيل ظن بحكم شرعي. ( أنظر إرشاد الفحول)

وينبغي التنبيه إلى أن هناك تقسيمات بالنسبة لأنوع المجتهد وسأكتفي بالإشارة إليها دون التفصيل في ذلك:

1 ـ المجتهد المطلق
2 ـ المجتهد المنتسب
3 ـ مجتهد المذهب
4 ـ مجتهد الفتوى والترجيح
5 ـ الحافظ للمذهب المفتي به

شروط المجتهد:

وسوف أذكر للقارئ(ة) شروط المجتهد كما حددها بعض العلماء، مكتفيا بما أشار إليه الإمام القرضاوي في كتابه (الاجتهاد في الشريعة الإسلامية) وبشكل مختصر على أساس أن أعبر عن موقفي في وجهة نظر كتعليق عن الموضوع.

حدد العلماء شروط المجتهد في ما يلي:
1 ـ العلم بالقرآن الكريم
2ـ العلم بالسنة النبوية
3ـ العلم باللغة العربية
4 ـ العلم مواضع الإجماع
وهناك من يضيف الأمور التالية:
ـ معرفة أحوال عصره
ـ معرفة أصول الفقه

وجهة نظر:

عندما يتتبع القارئ(ة) الكتب الأصولية سوف يجد أنهم اختلفوا في تحديد شروط المجتهد لأن الأمر يعد نسبيا ولا يمثل المطلق، بمعنى أنه لا يمكن أن نجمد على شروط محددة، لأن الأمكنة والأزمنة تتغير، وهذا يعني أن شروط المجتهد لابد أن تخضع للتعديل والإضافة، لأن الظرف فرضت علينا مجموعة من العلوم الأخرى، يمكن أن يستعملها المجتهد في تقديم الإجابة على مشكلات الأمة، ومن هذه العلوم ما يعرف (بالعلوم الإنسانية)، فأعتقد أن الفقيه أو المجتهد يجب أن يكون ملما بعلم الاجتماع، لكي يقدم الأجوبة عن غالبية النوازل الاجتماعية التي تعترض الناس، فعندما يطلب السائل الفتوى عن السرقة على سبيل المثال، فهل يكفي أن يذكر له المجتهد أن الحكم فيها هو قطع اليد مع التفريعات التي ذهب إليها الفقهاء؟ فلا يليق أن نقف عند ذكر الآية فقط، لأن ظاهرة السرقة منتشرة بالأمة، فعلى هذا الأساس يتعين على المجتهد أن يكون ملما بعلم الاجتماع ليدرس ظاهرة السرقة اجتماعيا، ويقدم مساهمة ايجابية للمجتمع.

إذن فالاكتفاء بالشروط التي حددها المتقدمين ضرب من الجمود الفكري، فلابد من إضافة مجموعة من العلوم الإنسانية والمعارف الأخرى ومنها:

ـ علـم النفس: فهذا العلم يساعد المجتهد في فهم سلوك طالب الفتوى، ويضبطه ويقدر على توجيهه لأن الإنسان معجزة خالدة يمثل أسرار الخالق …

ـ علـم الاجتماع: يساهم هذا العلم بمناهجه في تحليل وتشخيص المشاكل الاجتماعية التي يعرفها المجتمع، كما يقدم الحلول المناسبة قصد علاج مختلف الظواهر التي تعاني منها الأمة، كالمخدرات، والتشرد، العقوق …

ـ العلـوم القانونية الوضعية: القانون هو الذي ينظم علاقة المجتمع، ويرسم له خارطة الطريق من حقوق وواجبات، لذلك فمن الواجب على المجتهد أن يكون ملما بالقواعد القانونية التي تنظم حياة الناس، وينظر في مدى مواكبتها للنص الشرعي …

ـ علـم اللغـات: إضافة إلى شرط اللغة العربية، يستحسن أن يكون المجتهد ملما بلغتين أجنبيتين على الأقل، لأن الواقع يفرض على مجتهدي الأمة التكلم بلغة الآخر، فلا ينبغي أن يكون المجتهد محدود المعرفة باللغة، فكلما تعددت اللغات تعددت المعارف وكان المجتهد أكثر موسوعيا …

فقد اكتفيت بالإشارة إلى هذه العلوم نظرا لأهميتها، لكن بعض الفقهاء مع كامل الأسف قالوا بتحريمها لأنها ليست من الدين، ونسوا بأن الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق بها، وأن العلم لا يقتصر على العلوم الشرعية المعرفة فقط، بل كل علم يتوصل به إلى نتيجة ايجابية تخدم الإنسان والدين فهو علم شرعي …

التأمل الثالث: مزايا الرجوع للأصل في الاجتهاد:

إن العودة إلى الأصل في الاجتهاد تساعدنا في الحصول على فوائد هامة في حياتنا اليومية، لكن مشكلة بعض المنتسبين إلى الاجتهاد، يتركون الأصل ويدورون حول كتب التراث الأخرى دون تصفية ما فيها من أقوال وفتاوى ووجهات النظر، فبعودتنا إلى القرآن الكريم والسنة الصحيحة يمكن أن نقدم كل الأجوبة على ما قد يطرح علينا من الأسئلة في قضايانا الفكرية المعاصرة، فمن أهم هذه المزايا ما يلي:

أ ـ سلامة فهمنا للدين من الغلو:

فالناس قليلا ما يسلمون من الغلو في الدين سواء مسلمين أو غير مسلمين، ما لم يعصمهم من ذلك وحي مقدس، ينير دروبهم ويسدد خطاهم ويأخذ بهم من الجهل إلى العلم، ومن الظلمات إلى النور، فالمسلم عندما يردد في كل صلاة ( اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم)، وكما جاء في الحديث أن العبد إذا قال الآية السابقة أن الله عز وجل يقول: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل. وقوله تعالى :(صراط الذين أنعمت عليهم) مفسر للصراط المستقيم، وعلى اختلاف العلماء في تفسيريهم لكلمة (الصراط)، فإنه يرجع إلى حاصل واحد وهو المتابعة لله ولرسوله.

فكون الأمة متّبعة للصراط المستقيم يعني سلامتها من الغلو والتطرف، لكن كيف يمكن أن يتحقق هذا الإتباع؟

إن الأمة قلما تسلم من الغلو في الدين بسبب سوء الفهم لمقاصد الدين، فكلما غابت المقاصد خضرت المفاسد وانتشر التطرف والغلو في الأمة، لهذا فالإتباع في الدين يعني الإبداع في فهم النص، وأخذ روح النصوص وليس قشورها، ولقد تبث عن الحسن أنه قال: (إنما يضيع هذا الدين بين الغالي فيه والجافي عنه)، ونلاحظ اليوم غلو الغالين ممن استحلوا دماء الناس، وأموالهم، وسبي نسائهم، وغير ذلك من أشكال العنف والترهيب، وكل هذا تحت راية الله أكبر، وهؤلاء هم الخوارج الجدد (داعش)، يقرؤون القرآن ولا يتجاوز حناجرهم.

فعودة الأمة إلى الأصل الصافي لفهم الدين سبيل النجاة للقضاء على التيارات المتطرفة، فلا يمكن أن ننكر أن الفهم المشوه للدين عند بعض المسلمين، كان سببا في نعث الإسلام بالغلو والتطرف.

ب ـ المقاصدية والرسالية في الفهم والدعوة:

لقد يسر الله تعالى القرآن الكريم للذكر، وجعله هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، يقول الله تعالى: ( يأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا)، فكل من القرآن والسنة قدما حقائق جليلة وتوجيهات واضحة تراعي البعد المقاصدي، فمن يرجع لقراءة القرآن بعين متفتحة، وعقل واعي، وقلب منشرح، سيجد أن الدين بعيد عن العدائية لكل ما في الكون من الكائنات، يقول الله تعالى: (قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين)، ومن قرأ السنة الصحيحة سيجد صدقا بأن محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن أبدا من المتكلفين، بل كان نبي رحمة للأمة والإنسانية جمعاء، فمشكلاتنا اليوم تكمن في غياب النظر المقاصدي الذي يرتبط بالنص القرآني وبنصوص السنة الصحيحة.

وجهة نظر:

عندما تسري روح النظر المقاصدي في العمل الدعوي والفقهي، فلاشك أن الأمة سوف تبعث من جديد، فالدعوة بدون مقاصد ضرب من العشوائية والغوغائية، فالله تعالى يقول: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين) سورة يوسف الآية 108، فالبصيرة في الآية تشير إلى الفهم الدقيق والعميق للنص والواقع على السواء، والبصيرة تعني هنا كذلك البعد المقاصدي في الدعوة إلى الله، لذلك لابد من عمق البصيرة لأهل الدعوة في تبليغ الرسالة بعيدا عن السطحية، ولا أكون مبالغا إذا قلت أن لا صحة للصلاة إلا باستقبال القبلة، فكذلك صحة الاجتهاد لا تكون صحيحة إلا باستقبال قبلة المقاصد.
صفوة الكلام:

لا أود أن أقول للقارئ(ة) أني انتهيت من هذا الموضوع، ولكن هي البداية لسلسلة من التأملات حول واقع الأمة، فكل فرد يساهم حسب قدرته بروح ايجابية في معالجة ما يمكن معالجته من ما تعاني منه الأمة من أمرض مادية ومعنوية، وأود أن أذكر القراء الكرام أنني لا أدعي المعرفة والعلم، فمقالاتي ومساهماتي بين أيديكم فاقبلوها بما يعتريها من نقص، فأخوكم ما هو إلا طالب علم يكتب بروح ايجابية من أجل بناء وعي فكريم سليم ووسطي يخدم الإنسانية، فالله تعالى أسال التوفيق والسداد، وأن يهيئ للأمة أمر الرشد والصلاح.

في انتظار مقال آخر لكم مني خالص المودة والتقدير.

هشام البشري.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *