وجهة نظر

قراءة في “مفهوم الاعتدال” الإسلامي الأمريكي

لقد أصبح “الاعتدال” أهم سمة تحدد استراتيجية التعامل الأمريكي مع المسلمين، ولكن هل يتعلق الأمر بالاعتدال كما هو في المفهوم الإسلامي، أم هو مفهوم جديد تنسج أمريكا خيوطه وتحدد معاييره لا لتوصيف وتمييز المسلمين المعتدلين من المتطرفين. بل من أجل الحكم على جميع المسلمين الذين يؤمنون بالإسلام الحقيقي الذي يعتمد على القرآن والسنة والإجماع بالتطرف والإرهاب والمروق عن نهج الاعتدال والابتعاد عنه.

فما هو الاعتدال الذي تريده أمريكا، وتريد به أن تمحصنا وتقيس به منسوب فهمنا للإسلام الذي يتعارض مع إسلامها؟

يغيب عن الكثير من المسلمين أن أمريكا ما عادت تقبل منا شهادة حسن السلوك التي نقدمها انطلاقا من فهمنا للإسلام، لأنها تريد منا أن نقدم شهادة تتأسس على إسلام جديد هو الإسلام الأمريكي.

فما هو الإسلام الأمريكي إذن؟ وما هي معايير الاعتدال بالشكل الذي تراه أمريكا؟

عندما نطلع على العديد من المخططات الاستراتيجية الأمريكية، والبحوث والدراسات التي تجريها أهم المراكز المعتمدة لديها، نجد إطراء ومدحا ورضا وانشراحا وفرحا بنوع خاص من المفاهيم والأطروحات الإسلامية المتداولة في الوطن العربي، كما نجد ترحابا وتطبيلا وتهليلا لكتاب مسلمين دون غيرهم.

لقد اعتبرت مراكز البحوث الأستراتيجية الأمريكية الكاتب المصري جمال البنا، مثلا، رجلا مسلما معتدلا لكونه يقول بجواز إمامة المرأة للرجال في الصلاة،

وقد ألف في ذلك كتابا سماه” جواز إمامة المرأة للرجال” جاء هذا الكتاب ردا على واقعة أمينة ودود عندما أمت مجموعة من الرجال والنساء لصلاة الجمعة في إحدى الكنائس بنيويورك، بعدما رفضت المساجد أن تقام هذه الصلاة فيها.

ويدافع البنا في هذا الكتاب عن السيدة أمينة ودود معتبرا أنها قامت بفعل حضاري إسلامي متميز لكونها بينت واقعيا وعمليا أن الإسلام يقوم على المساواة بين المرأة والرجل.

ولذا نجد أن كتب جمال البنا تطبع في مطابع خاصة وبأثمنة رمزية تشجيعا على هذا النوع من الإسلام المعتدل وفق المعيار الأمريكي.

كما تعتبر محمد شحرور رجلا مسلما معتدلا ومستنيرا بنور الإسلام، لأنه لا يعترف بالحديث الشريف، ولا يؤمن سوى بالقرآن الكريم، الذي يعتبره كما يقول: “مكتف ذاتيا أي لا يحتاج لإضافة من خارجه لتفهمه، ومفاتيح فهمه من داخله لا خارجه، ولكي نفهمه لسنا في حاجة لأبي هريرة وابن عباس” وهو من الذين يبيحون الزنا والعلاقات الجنسية بين الشباب والشابات خارج نطاق الزواج، وهو الذي يقول بمقولة “الأصل في الحياة الإباحة” أي أن الله تعالى وحده من يحرم وأن المحرمات قد أغلقت نهائيا في الرسالة المحمدية، وأن كل إفتاءات التحريم لا قيمة لها.

كما تعتبر البروفيسور السوري الكبير بسام طيبي مسلما معتدلا، فلماذا اعتبر الدكتور طيبي معتدلا في رأي الأمريكان، واعتبر أنموذج الإنسان المسلم المنفتح والمتحضر؟

لنترك البروفسور يتحدث عن نفسه لنفهم السر في ذلك، في حوار له مع الصحيفة السويسرية “بالسر تسايتونغ” في دجنبر 2016، وبما أن الدكتور طيبي كان من الذين ورثوا أثناء إقامته ببلده سوريا العداء للصهاينة وإسرائيل، وبما أنه انقلب على موقفه هذا، رأسا على عقب، فأصبح مناصرا لإسرائيل في سياستها القمعية والعنصرية، سألته الصحيفة عن السبب الذي أدى به إلى التغلب على معاداة السامية، فكان رده كالتالي:” كنت محظوظا بما فيه الكفاية أنني تعلمت من اثنين من الفلاسفة اليهود الكبار في فرانكفورت وهما ماكس هوركهايمر وتيودور أدورنو، لقد غير أدورنو حياتي وشفاني من معاداة السامية، ،فبعد قراءتي لأدورنو تغيرت نظرتي عن اليهود وكنت أول السوريين الذين سافروا إلى إسرائيل وأعلن علنا حق الشعب اليهودي في إسرائيل، وبالتالي اعتبروني في سوريا خائنا”.

ونحن نقول للبروفسور طيبي: لست خائنا بل أنت مسلم معتدل في نظر أمريكا، فكل الذين يعتقدون بأن فلسطين هي من حق الشعب الفلسطيني المسلم فهم متطرفون ولا علاقة لهم بالاعتدال الإسلامي الأمريكاني.

ومن مثل هؤلاء المسلمين المعتدلين وفق المفهوم الأمريكاني للاعتدال نذكر السوداني عبد الله النعيم، والتونسي محمد شرفي، والتركي فتح الله كولن، والمصري نصر حامد أبو زيد، والمغربي أحمد عصيد …وأما على مستوى الدول فقد اعتبرت أندونيسيا دولة أنموذجا في الاعتدال لأن منظماتها الإسلامية وعلماءها ممن يدعون إلى إسلام وديع يعتمد على الدعوة إلى المساواة بين الجنسين بشكل خاص، ومن أشهر البرامج الإعلامية والإذاعية الإندونيسية التي تدعو إلى الإسلام الأمريكي نذكر برنامج “الدين والتسامح” الذي تبثه (الشبكة الإسلامية الليبرالية) الذي يستقطب خمسة ملايين مستمع عبر أربعين محطة إذاعية مبثوث في كل أرجاء البلاد، أما المحطة التلفازية الوطنية (TPI) فتبث برنامجا أسبوعيا حول المساواة بين الجنسية من منظور ليبرالي أمريكي يستقطب أزيد من ربع المليون مشاهد في منطقة جاكارتا وحدها. وبرامج أخرى عديدة تعتمد في أكثرها على موضوع حقوق المرأة على أساس أن هذا الموضوع يعد من الموضوعات المركزية في حرب المفاهيم والأفكار التي تحارب بها أمريكا المد الإسلامي (الأصولي).

كما أن كل الدعوات إلى المناصفة والمساواة بين الرجل والمرأة، والدعوة إلى تحريرها من جميع القيود بما فيها رفع القوامة عن الرجل والولاية في الزواج، والقول بالمناصفة في الإرث، وتجريم تعدد الزوجات، وإدخال عمليات الإجهاض في الحقوق الشخصية وضمن نطاق الحرية، فضلا عن الحرية الجنسية، ومنح جميع حقوق الشواذ والمثليين، والسماح بأكل رمضان علنا…كل هذه الأمور يعتبر العمل بها ضمن نطاق الاعتدال الأمريكي المطلوب.

لقد وضعت أمريكا اختبارا حصرته في إحدى عشر سؤالا، وهذه الأسئلة هي وحدها من تحدد إن كان المسلم معتدلا أم لا، وهذه الأسئلة هي:
1- هل يتقبل الفرد أو الجماعة العنف أو يمارسه؟ وإذا لم يتقبل أو يدعم العنف الآن، فهل مارسه أو تقبله في الماضي؟
2- هل تؤيد الديموقراطية؟ وإن كان كذلك، فهل يتم تعريف الديموقراطية بمعناها الواسع من حيث ارتباطها بحقوق الأفراد؟
3- هل تؤيد حقوق الإنسان المتفق عليها دوليا؟
4- هل تؤمن بأن تبديل الأديان من الحقوق الفردية؟
5- هل تؤمن بأن على الدولة أن تفرض تطبيق الشريعة في الجزء الخاص بالتشريعات الجنائية؟
6- هل تؤمن بأن على الدولة أن تفرض تطبيق الشريعة في الجزء الخاص بالتشريعات المدنية؟
7- هل تؤمن بوجوب وجود خيارات لا تستند للشريعة بالنسبة لمن يفضلون الرجوع إلى القوانين المدنية ضمن نظام تشريعي علماني؟
8- هل تؤمن بوجوب أن يحصل أعضاء الأقليات الدينية على نفس حقوق المسلمين؟
9- هل تؤمن بإمكانية أن يتولى أحد الأفراد من الأقليات الدينية مناصب سياسية عليا في دولة ذات أغلبية مسلمة؟
10- هل تؤمن بحق أعضاء الأقليات الدينية في بناء وإدارة دور العبادة الخاصة بدينهم (كنائس أو معابد يهودية) في دول ذات أغلبية مسلمة؟
11- هل تقبل بنظام تشريع يقوم على مبادئ تشريعية غير مذهبية؟

إن هذا الاختبار من شأنه أن يحول جميع المسلمين الذين يؤمنون بالله ربا وبمحمد نبيا ورسولا، ويقيمون معتقداتهم وحركاتهم وسكناتهم على أساس القرآن والسنة والإجماع وما يليه من تفريعات تشريعية واجتهادات العلماء عبر العصور، كدينامية إسلامية تعتبر جزءا من الإسلام وما يقتضيه، إلى متطرفين وأصوليين يعادون أمريكا، وهم متعصبون ومتطرفون لأنهم يخالفون مفهوم الاعتدال الأمريكي الذي لا يعبر إلا عن مصالح أمريكا.

كما أن خطورة هذا التعريف وهذه المعايير تكمن في قابليتها إلى التحول إلى منظومة قيمية ومفاهيمية تدخل ضمن حقوق الإنسان العالمية، كحقوق القليات والشواذ، واعتبار العمليات الاستشهادية في فلسطين جريمة وإرهابا يعاقب عليها القانون الدولي، والتمكين للأقليات من احتلال أماكن مرموقة داخل الدول ذات الأغلبية المسلمة.

إننا أمام محاولة لإعادة تعريف مفهوم الاعتدال بحيث لا يستند التعريف، من الآن فصاعدا، إلى مبادئ الوسطية والتراحم التي حثت عليها الشريعة الإسلامية، وإنما أن يتحول مفهوم الاعتدال إلى مجموعة من المسلمات الغربية الليبرالية التي تقدم للعالم على أنها مبادئ دولية.

ومن المتوقع لاحقا في حالة إقرار هذه التوجهات ودفعها في الساحات الفكرية الدولية أن تفرض على دول العالم المصادقة عليها كمواثيق دولية يعاقب من تجاوزها أو أخل بها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *