مجتمع

كاتب جزائري: خطر الزوال يهدد اللهجات الأمازيغية في شمال إفريقيا

الأمازيغية أو البربرية أو تامازيغت من اللغات الأفروآسيوية التي تتحدّثها شعوب تعرف باسم الأمازيغ أو البربر أو الليبيين أو الأفارقة، الشعوب الأولى التي استوطنت شمال إفريقيا. ويُرجَّح أن تكون تسمية «البربر» إغريقية أو رومانية، وتعني مَن لا ينتسب إلى تلك الحضارة. وتكتب الأمازيغية أصلا بحروف التيفيناغ وهي حروف من أصول فينيقية.

وإن اعتنقت القبائل الأمازيغية الديانة الجديدة الإسلام، فإنها لم تتخلّ عن لسانها، ولم تستبدله بأي لسان، ولا حتى بالعربية لغة القرآن. وهكذا صمدت الأمازيغية لقرون طويلة في وجوه الغزاة الذين تعاقبوا على ترابها، من رومان وعرب وأتراك وفرنسيين… واليوم، رغم ترسيمها في عدد من البلدان كالمغرب والجزائر، وإنشاء المعاهد والأكاديميات لدعمها، وفتح المدارس لتعليمها، وتأسيس القنوات الإذاعية والتلفزيونية لنشرها، فالأمازيغية في قائمة اللغات المهددة بالانقراض مثلما أكد تقرير اليونسكو لعام 2009. ومن اللهجات المهددة: أمازيغية صنهاجة أسراير في شمال المغرب وغرب منطقة الريف، وأمازيغية غمارة في تطوان والشاون، وأيضا أمازيغية بني يزناسن في المغرب. وبعضُ اللهجات الأمازيغية يُعدُّ منقرضا مثل لغة الغوانش في جزر كناري، التي فقدت نفوذها نتيجة هيمنة اللغة الإسبانية، وأمازيغية آيت روادي في تادلة أزيلال، وكذلك اللهجة الأمازيغية اليهودية في وارزازات وبولمان دادس وإيميني وتنغير في المغرب. وهو ما يدعونا إلى التساؤل: ما الذي أضعفها وآل بها إلى مثل هذا الوضع؟ وقبل ذلك:

هل الأمازيغية لغة أم لهجة؟

السؤال الذي يطرحه كثيرون وأول ما يتبادر إلى ذهن الباحث وهو يسعى لفحص الأمازيغية هو ما إذا كانت الأمازيغية لغة أم لهجة. وهذا السؤال يدعونا إلى التساؤل عما يميِّز اللهجة من اللغة. واللغة كما جاء في معجم كولينز الإنكليزي «نظام تواصل يتألف من أصوات ورموز مكتوبة، يستخدمها شعب في بلد ما أو منطقة ما للحديث أو الكتابة».

إن فحصنا اللغة الأمازيغية وجدناها غير ذلك. فهي أساسا ليست لغة واحدة، وإنما مجموعة من اللغات الصغيرة أو الفروع المنبثقة عن اللغة الأم، تتشابه في خصائص وتتباين في أخرى، تماما مثل اللغات الرومانسية المنبثقة عن اللغة الأم اللاتينية. فالإسباني على سبيل المثال لا يجد صعوبة كبيرة في فهم اللغة الإيطالية أو تعلمها وذلك أمر طبيعي لما بين اللغتين الشقيقتين المنبثقتين من لغة واحدة اللاتينية من تشابه. فالأمازيغية في الواقع مجموعة من اللهجات بكل ما تحمله كلمة لهجة من معنى. إذ جاء في تقريرمعهد الأساتذة لجامعة كولومبيا في موضوع اللهجة: «يعرِّف اللغويون اللهجة على أنها فرع من لغة يختلف عن الفروع الأخرى للغة نفسها من حيث النطق والقواعد والمفردات… وغير ذلك من الخصائص اللغوية».

انقسام الأمازيغية على نفسها:

هذا التعريف ينطبق بكل تأكيد على فروع اللغة الأمازيغية التي يتكلمها الأمازيغ في مناطق متفرقة متباعدة ضمن رقعة جغرافية شاسعة تمتد من البحر الأحمر شرقا إلى جزر كناري والمحيط الأطلسي غربا، ومن البحر المتوسط شمالا إلى تشاد والنيجر وأعماق القارة الإفريقية جنوبا. وهذه التنوعات كثيرة، نذكر منها في المغرب اللهجة السوسية، واللهجة الزناتية واللهجة الريفية واللهجة الزيانية. وفي الجزائر نجد اللهجة القبائلية، والشاوية، والميزابية، والتارقية، والشنوية والشلحة. وفي ليبيا نذكر التماشق، والغدامسية، ونفوسي، والسوكنية والأوجلية. وفي مصر اللهجة السيوية… فليس من شك في أنَّ انقسام الأمازيغية إلى كل هذه اللهجات من أسباب ضعفها وسيرها نحو التلاشي والانقراض واحدة تلو الأخرى.

اختلاف اللهجات الأمازيغية:

ليس من ينكر أنَّ لعامل التباعد والاختلاف البيئي أثرا في نمط حياة الإنسان وعاداته وتقاليده وطريقة تفكيره ولغته. فقد أدى تباعد الشعوب الأمازيغية بعضها عن بعض إلى اختلاف لهجاتها، إلى حد يجعلنا نتحدث عن ألسنة مختلفة مستقلة. فاختلاف اللهجات الأمازيغية لا يقتصر على مسميات الأشياء وحسب، وإنما يمتد ليشمل النظام الصوتي ومخارج الحروف. وهو ما أكّده الباحث اللغوي مرزوق الحقوني في قوله: «المقام الكلامي في اللغة الأمازيغية يختلف من لهجة لأخرى، فعلى سبيل المثال كلمة «أخرج» بالأمازيغية: رق ـ فغ ـ أقلا، وهذه الأخيرة تطلق على شيء معيب لا يمت بصلة مطلقا إلى المعنى «أخرج» في أمازيغية أهل الريف، كما أنه من اللافت للنظر أن بعض الكلمات مثلا عند أمازيغ الريف في المغرب لا يفهمها أمازيغ زيان ولا أمازيغ سوس».

التقسيم السياسي:

الأمازيغ شعوب مشتتة تخضع لسيادة بلدان متعددة لها أنظمتها السياسية المختلفة. وهذا ما يبرر ارتكاز نشاطات الحركات الأمازيغية ضمن حدود تلك الدول. وسياسات هذه البلدان مختلفة وهذا ما أكدته الباحثة اللغوية المغربية نورة الأزرق: «سياسات البلدان التي توجد فيها الأمازيغية متضاربة». وهذه الحواجز السياسية تعيق الجهود الرامية إلى حماية الأمازيغية وترقيتها وتوحيدها.

هيمنة اللهجات المحلية المجاورة:

اللهجات الأمازيغية في بلدان المغرب العربي تتركز في مناطق محددة متباعدة، محاطة بلهجات عربية. فلا نكاد نجد أثرا للهجات الأمازيغية خارج هذه المناطق. ورغم وجود أعداد من الأمازيغ في مدن مختلفة إلاَّ أنّ لغة الشارع والمدرسة ومكان العمل تبقى دائما خاضعة للهجات العربية السائدة فيها. فيضطر هؤلاء الأمازيغ إلى استخدام هذه اللهجات في حياتهم اليومية وتصبح لغة الحديث الأولى للأطفال الذين ينشأون في هذه الديار بعيدا عن المناطق الأمازيغية. وها هي صحيفة «أزيلال أون لاين» تقرع ناقوس الخطر من خلال منشور بعنوان (أفورار ـ اللغة الامازيغية مهددة بالانقراض)، حيث تقول: «ظاهرة التعريب استفحلت وبلغت مستويات شاذة تستدعي منا إثارة الانتباه على الأقل، لاستبيان خطورتها على مستقبل ومصير لغة تجر معها حضارة إنسانية عظيمة، تتلاشى أمام أعين الجميع وتتعرض لذوبان سريع لم يعرفه تاريخ الحضارة الأمازيغية منذ آلاف السنين… تتراجع الأمازيغية يوميا بشكل مثير في التخاطب اليومي، داخل البيوت، في الشوارع، في المقاهي، في المدارس وفي كل الأمكنة والأزمنة…». وتصف الصحيفة واقع مدينة أفورار الأمازيغية اليوم: «كانت الأمازيغية هي لغة الشارع والمنازل والسوق بامتياز، إلا في حالات محدودة، والناس يعرفون بعضهم كثيرا بحكم صغر المدينة. لكن مع مرور الأيام والسنوات أصبحت الأمازيغية تتوارى وتحل محلها الدارجة التي تزحف وتهيمن».

اختلاف تصورات علماء اللغة:

من الأخطار الأخرى التي تهدد الأمازيغية وتعرقل مساعي حمايتها وترقيتها، اختلاف علماء اللغة الأمازيغ في تصوراتهم لقواعد هذه اللغة ومصطلحاتها وفشل الحركات الأمازيغية في عرض مشروع واحد واضح مقنع توافق عليه كل الفصائل الأمازيغية. وخير مثال على ذلك الجدل القائم اليوم في موضوع الحروف التي يجب أن تكتب بها هذه اللغة، بين مطالب بكتابتها بالحرف الأصلي والحرف اللاتيني والحرف العربي. وبينما اختار قسم من أمازيغ القبائل المتأثرين بالثقافة الفرنسية في الجزائر كتابتها بالحرف اللاتيني، فإن قسما معتبرا من أمازيغ بني مزاب المحافظين في جنوب الجزائر، ما انفك يكتبها بالحرف العربي، ومن غير شك لن يقبل هيمنة حروف أجنبية لا تمت لتاريخه وثقافته بصلة، ولا فرض قبائل أخرى قراراتها عليه. وبينما يستمر هذا الجدل في الجزائر، فإن اختيار بلدان أخرى مثل المغرب وليبيا قد وقع على حروف تيفيناغ وهي الأبجدية الأصلية التي اختارها الأجداد الأمازيغ ولم يسعوا لتغييرها.

التوجهات المتصارعة:

ولعلّ أكبر خطر تواجهه الأمازيغية اليوم هو خطر التوجهات المتصارعة ونوايا بعض الناشطين السيئة ومحاولة بعضهم استغلال هذه اللغة وتسيير مشاريع تطويرها خدمة لمصالحهم وتوجهاتهم، وليس خدمة لهذه اللغة والتراث الأمازيغي العريق، كدعوة بعضهم لكتابة الأمازيغية بالحروف العربية لأجل الدين أو دعوة القبائل في الجزائر إلى كتابتها بالحروف اللاتينية لأجل الغرب، بخلاف أمازيغ المغرب وليبيا المتشبثين بأبجدية الأجداد.

البساطة والعجز عن مواكبة العصر:

رغما أن اللهجات الأمازيغية عريقة إلاَّ أنها لا تملك تاريخا طويلا من التأليف وإنتاج المعرفة مثل جارتها اللغة العربية ولغات أخرى، وهي في شكلها الحالي لا ترقى إلى مستوى الثقافة العالِمة للإحاطة بالعلوم والطب والتكنولوجيا والفلسفة وغير ذلك، وتبقى متأخرة في حقل التدوين، يقتصر استعمالها على اللغة الشفوية، حيث يبقى الطفل الأمازيغي عاجزا عن كتابة لغته التي يستمر الجدل في الأحرف التي ينبغي الكتابة بها. هذه كلها نقاط ضعف تبرر تقرير اليونسكو المنذر بانقراضها. وهذا ما يبرر أيضا جهود الحركات الأمازيغية التي تسارع إلى حمايتها وترقيتها، في ما أضحى يُعرف اليوم باسم «معيرة الأمازيغية» وهو موضوعنا المقبل.

٭ مولود بن زادي: كاتب جزائري / بريطانيا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *