وجهة نظر

العلامة الحجوي.. أول فقيه مغربي يجيز تولي المرأة كتابة العقود العدلية

مع بروز الحديث عن تولي المرأة خطة العدالة وتوثيق العقود ، يتبادر السؤال عن شرعية هذا العمل وهل سبق القول به من أحد العلماء قبل اليوم ، خصوصا في هذه البلاد المغربية التي تميزت بتاريخ وتراث زاخر في علم التوثيق وفن صناعة الوثائق والعقود.

وقد اخترت أن أدلي بدلوي في هذا الموضوع انطلاقا من موقف أحد علماء المغرب البارزين خلال القرن الرابع عشر الهجري هو العلامة الفقيه محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي.

ولد الفقيه الحجوي بمدينة فاس عام 1291 هجرية ، وفيها درس بجامع القرويين على جهابذة العلماء وشغل بعد تخرجه عدة مناصب فقام بالتدريس بداية ثم عين فيما بعد مندوبا لوزارة المعارف لمدة عشرين عاما قبل تسميته وزيرا للعدل كما عرف عنه ممارسة التجارة في أوقات من حياته ، خصوصا حين يقع إعفاؤه من الوظائف الرسمية ، وقد انعكس هذا الجمع بين مدارسة العلم وتولي الوظائف العامة مع السعي للإصلاح ، على منهجه وعقيلته ، فكان ميالا إلى الروح الإصلاحية والنظرة التجديدية التي طبعت مجمل أعماله ، وأبانت عن سبقه لكثير من معاصريه بفترة طويلة .

وضع الحجوي عددا كبيرا من أمهات الكتب والمؤلفات على رأسها كتابه المرجعي : ” الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي ” ، وتفسير سورة الإخلاص ، والدفاع عن الصحيحين دفاع عن الإسلام ، و حكم ترجمة القرآن العظيم ، و رسالة في تعليم البنات ، إلى غير ذلك.

تميز هذا الفقيه الإصلاحي بدعوته إلى تجديد الفقه وتحريره من الآصار والأغلال التي تقيد انطلاقه ، كما دعا إلى تعليم البنات وكانت محاضرته المعروفة ب ” المحاضرة الرباطية في إصلاح تعليم الفتيات في الديار المغربية ” حدثا بارزا وأدت إلى تقدم مدهش في إقبال النساء على التعليم داخل المغرب وتونس غيرهما ، وانتقل عدد التلميذات في فاس وحدها من ثلاثمائة وأربع وسبعين تلميذة إلى ألف وأربعمائة رغم معارضة بعض أعيان المدينة آنذاك لدعوته ، كما عمل الحجوي من موقعه في وزارة المعارف على تحديث نظم التدريس بالقرويين شكلا وجوهرا ، لكنه قوبل بمعارضة دعاة الجمود وتم صرفه من منصبه .

لقي العلامة الحجوي إعجاب وثناء كثير من أعيان العلماء ، فقال عنه الشيخ الطاهر بن عاشور : ” ومن أبهر الكواكب التي أسفر عنها أفقنا الغربي في العصر الحاضر وكان مصداقا لقول المثل كم ترك الأول للآخر الأستاذ الجليل والعلامة النبيل وصاحب الرأي الأصيل الشيخ محمد الحجوي ” واختاره الشيخ عبد الفتاح أبو غدة ضمن مجموعة من أنبغ العلماء في القرن الرابع عشر في كتابه ” تراجم ستة من فقهاء العالم الإسلامي ”

كانت وفاة هذا الإمام الكبير بالرباط يوم الاثنين ثالث ربيع الأول عام 1376 هـجرية الموافق لـثامن أكتوبر 1956 ميلادية ، عن سن تناهز (85) عاما.

المرأة وتوثيق العقود :

وبالعودة إلى موضوع تولي المرأة لمهام التوثيق العدلي ، نجد العلامة الحجوي يشير بطريقة ذكية ومختصرة إلى جوازها ، ففي كتابه ” الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي ” الذي انتهى من تأليفه في أربعة أجزاء عام 1336 هجري الموافق لسنة 1918 ميلادية ، عمد الحجوي إلى تقسيم تاريخ الفقه إلى مراحل وأطوار ، وفي كل طور يتحدث عن حال الاجتهاد فيه وعن الفتوى وأنواع العلوم وبعض الميادين التي يتجلى فيها حال الفقه ومدى تطوره ، ومن ذلك علم التوثيق أو ما يسمى بالشروط عند بعض القدماء ، وذلك بدءا من عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلّم ، حيث عقد فصلا سماه : صناعة التوثيق في العهد النبوي ، صدره بقوله : ” غير خفي أن التوثيق من مستتبعات الفقه ” ثم يورد نماذج من الوثائق والعقود وما تتضمنه من شروط وأحكام ، وكذا شكليات الصياغة ليستخلص من كل ذلك حال الفقه وتطوره .

وهكذا عقد فصلا في سياق الحديث عن حال الفقه في القرنين الثالث والرابع بعنوان ” صفة التوثيق ” أورد فيه نماذج لعقود انتقاها من سنن النسائي، منها وثيقة عقد من كتاب المزارعة في باب سماه النسائي ” تفرق الزوجين عن مزاوجتهما ” هذا نصه الكامل للفائدة :

(تَفَرُّقُ الزَّوْجَيْنِ عَنْ مُزَاوَجَتِهِمَا، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } هَذَا كِتَابٌ كَتَبَتْهُ فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ فِي صِحَّةٍ مِنْهَا وَجَوَازِ أَمْرٍ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ : إِنِّي كُنْتُ زَوْجَةً لَكَ وَكُنْتَ دَخَلْتَ بِي فَأَفْضَيْتَ إِلَيَّ، ثُمَّ إِنِّي كَرِهْتُ صُحْبَتَكَ وَأَحْبَبْتُ مُفَارَقَتَكَ عَنْ غَيْرِ إِضْرَارٍ مِنْكَ بِي وَلَا مَنْعِي لِحَقٍّ وَاجِبٍ لِي عَلَيْكَ، وَإِنِّي سَأَلْتُكَ عِنْدَ مَا خِفْنَا أَنْ لَا نُقِيمَ حُدُودَ اللَّهِ أَنْ تَخْلَعَنِي فَتُبِينَنِي مِنْكَ بِتَطْلِيقَةٍ بِجَمِيعِ مَالِي عَلَيْكَ مِنْ صَدَاقٍ، وَهُوَ كَذَا وَكَذَا دِينَارًا جِيَادًا مَثَاقِيلَ، وَبِكَذَا وَكَذَا دِينَارًا جِيَادًا مَثَاقِيلَ أَعْطَيْتُكَهَا عَلَى ذَلِكَ سِوَى مَا فِي صَدَاقِي، فَفَعَلْتَ الَّذِي سَأَلْتُكَ مِنْهُ فَطَلَّقْتَنِي تَطْلِيقَةً بَائِنَةً بِجَمِيعِ مَا كَانَ بَقِيَ لِي عَلَيْكَ مِنْ صَدَاقِي الْمُسَمَّى مَبْلَغُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَبِالدَّنَانِيرِ الْمُسَمَّاةِ فِيهِ سِوَى ذَلِكَ فَقَبِلْتُ ذَلِكَ مِنْكَ مُشَافَهَةً لَكَ عِنْدَ مُخَاطَبَتِكَ إِيَّايَ بِهِ وَمُجَاوَبَةً عَلَى قَوْلِكَ مِنْ قَبْلِ تَصَادُرِنَا عَنْ مَنْطِقِنَا ذَلِكَ، وَدَفَعْتُ إِلَيْكَ جَمِيعَ هَذِهِ الدَّنَانِيرِ الْمُسَمَّى مَبْلَغُهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي خَالَعْتَنِي عَلَيْهَا وَافِيَةً سِوَى مَا فِي صَدَاقِي فَصِرْتُ بَائِنَةً مِنْكَ مَالِكَةً لِأَمْرِي بِهَذَا الْخُلْعِ الْمَوْصُوفِ أَمْرُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ، فَلَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيَّ وَلَا مُطَالَبَةَ وَلَا رَجْعَةَ، وَقَدْ قَبَضْتُ مِنْكَ جَمِيعَ مَا يَجِبُ لِمِثْلِي مَا دُمْتُ فِي عِدَّةٍ مِنْكَ وَجَمِيعَ مَا أَحْتَاجُ إِلَيْهِ بِتَمَامِ مَا يَجِبُ لِلْمُطَلَّقَةِ الَّتِي تَكُونُ فِي مِثْلِ حَالِي عَلَى زَوْجِهَا الَّذِي يَكُونُ فِي مِثْلِ حَالِكَ، فَلَمْ يَبْقَ لِوَاحِدٍ مِنَّا قِبَلَ صَاحِبِهِ حَقٌّ وَلَا دَعْوَى وَلَا طَلِبَةٌ، فَكُلُّ مَا ادَّعَى وَاحِدٌ مِنَّا قِبَلَ صَاحِبِهِ مِنْ حَقٍّ وَمِنْ دَعْوَى وَمِنْ طَلِبَةٍ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ فَهُوَ فِي جَمِيعِ دَعْوَاهُ مُبْطِلٌ وَصَاحِبُهُ مِنْ ذَلِكَ أَجْمَعَ بَرِيءٌ، وَقَدْ قَبِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا كُلَّ مَا أَقَرَّ لَهُ بِهِ صَاحِبُهُ وَكُلَّ مَا أَبْرَأَهُ مِنْهُ مِمَّا وُصِفَ فِي هَذَا الْكِتَابِ مُشَافَهَةً عِنْدَ مُخَاطَبَتِهِ إِيَّاهُ قَبْلَ تَصَادُرِنَا عَنْ مَنْطِقِنَا وَافْتِرَاقِنَا عَنْ مَجْلِسِنَا الَّذِي جَرَى بَيْنَنَا فِيهِ. أَقَرَّتْ فُلَانَةُ وَفُلَانٌ ) اه.

ثم يعلق الحجوي بعد ذلك فيقول : ” وهي وثيقة قريبة الألفاظ والمعاني مما قبلها ، وفيها دلالة أن النساء كن يكتبن بأيديهن ، ويعقدن عقودهن بأنفسن ” (الفكر السامي : 175/3) .

وهو كما نلاحظ ملمح لطيف واستنباط حصيف ، يظهر سبق هذا العلامة الجليل ونظرته الاجتهادية المتحررة من التقليد والجمود .

فالوثيقة التي أوردها الحجوي من سنن النسائي هي عبارة عن إشهاد كتبته امرأة ليكون أولا حجة في يد مفارقها على حصول الطلاق وما يتبع ذلك من انتهاء حقوقها عليه سواء في حياته كالنفقة والسكنى أو بعد مماته في الميراث والعدة ، وليكون أيضا حجة في يدها على خروجها من عصمته وشرعية زواجها من غيره بعد انتهاء عدتها .

تتضمن الوثيقة المشار إليها جميع عناصر شهادة الطلاق :

– اهليتها للتعاقد : باستعمال عبارة “في صحة منها وجواز أمر “.
– الإشارة إلى قيام العلاقة الزوجية الصحيحة بين الطرفين والإقرار بالدخول بها .
– نوع الطلاق : هو طلاق خلع ، ردت فيه الزوجة الصداق المسمى بينهما للزوج مع قدر مالي إضافي ، نظرا لاعترافها بعدم حصول اي ضرر من جانبه نحوها .
– الإشهاد على الزوج بأنه طلقها تطليقة واحدة بائنة صارت بها مالكة لأمرها ، لا حق له في ارتجاعها.
– إشهاد الزوجة على نفسها بسماعها لهذا الطلاق وعلمها به ودخولها في العدة الشرعية ، مع حصولها على جميع ما هو من حقها وتبارء الطرفين معا من جميع التبعات .
– إقرار الطرفين معا ، الزوج والزوجة ، بما في هذه الوثيقة وافتراقهما على ذلك .

هذه إذن هي خلاصة الوثيقة التي احتج بها العلامة الحجوي منذ حوالي مائة عام على رأيه في تمكين المرأة المسلمة من القيام بما يحقق مصلحتها ونيل حقوقها إلى جانب أشقائها الرجال في جانب من جوانب الحياة التي يهتم الفقه بتنظيمها ، وهو جانب كتابة العقود وتوثيقها .
وأخيرا ، ما أحوجنا إلى إحياء ذكرى هذا الفقيه العبقري ومنهجه في البحث العلمي والإصلاح الاجتماعي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *