وجهة نظر

برلمان شارد

((يضمن الدستور الحق في الغباء))
مارك توين

يعرف البرلمان المغربي نوعا من الشرود السياسي، لا هو قادر على ممارسة دوره كأغلبية، ولا هو قادر على إنتاج مواقف حقيقية كمعارضة، فقط أصبح البرلماني تائها في دروب وممرات وردهات المجلسين، جسديا وسياسيا.

ففي البرلمان تلاحظ أولئك الذين يعرفون من أين تؤكل الكتف، لا لون لهم ولا رائحة، وقد انزووا إلى زاوية ملتزمين الصمت و الحذر إلى حين الانقضاض على أول فرصة تبدو في الأفق، ثم الذين في مواقع المسؤولية لا ينتجون سوى إيحاءات لإيهام الآخرين بأنهم يشتغلون، في حين هم فقط يخفون عجزهم وترددهم، ليصبح واقع البرلمان المغربي مريرا، و أمسى يعيش نقيض ما تعرفه برلمانات العالم، ذلك أن الاتجاه السائد داخل الدول الديمقراطية هو أن السلطة التنفيذية تستند على البرلمانيين لبناء حركية سياسية داخلية وعلاقات دولية أفضل وأقوى، وليس العكس.

إن المسؤولين في الغرب كثيرا ما يلاحظون على السياسيين والوزراء في العالم العربي عموما، والمغرب خصوصا، تغييبهم للبرلمانيين أمام القضايا الكبرى الداخلية أو أثناء زياراتهم الخارجية، كما أن برلمانيي الاتحاد الأوربي ورؤساء هيئاته كثيرا ما يتساءلون وباستمرار خلال لقاءاتهم بالمسؤولين الحكوميين المغاربة، أين هم نواب الأمة المغربية؟ ولماذا لا يحضرون الاجتماعات المشتركة؟ بل في فرنسا مثلا لا يتنقل وزير خارجيتها إلى الخارج إلا ومعه نائبين برلمانيين من الجمعية الوطنية الفرنسية أو أكثر، بل في نفس التجربة الفرنسية نجد مثلا أن رئيس لجنة الخارجية بالبرلمان الفرنسي، يتلقى نفس المعلومات ونفس برقيات الإخبار التي يتلقاها وزير الخارجية في الحكومة الفرنسية من طرف السفارات الفرنسية في الخارج، كما أن تقارير الخارجية الأمريكية توجه نسخا منها إلى مكتبة الكونغرس قصد الإطلاع عليها من طرف أعضائه، علما أن الكونغرس هو من يضع الميزانية العامة السنوية للدولة وليس الحكومة، وهو من يناقشها ويصادق عليها ، وفي بريطانيا فإن وزير خارجية حكومة الظل الذي هو نائب برلماني من المعارضة، يتوصل بنفس التقارير التي يتوصل بها وزير خارجية الحكومة البريطانية، وهناك نماذج دولية أخرى كثيرة.
إن البرلماني المغربي يعيش اليوم تهميشا واضحا من الحكومة، وحتى حينما يلتقي بنظيره الفرنسي أو الإسباني أو حتى البريطاني، ناهيك عن برلماني الدول الاسكندينافية، يفاجأ البرلماني المغربي بحجم المعلومات التي يملكها البرلماني الآخر عن المغرب وعن قضاياه وعن سياسته الخارجية، بينما البرلماني المغربي فغالبا ما يكون خاوي الوفاض، لا علم له بالمعطيات، وما عليه سوى أن يجتهد بصفة شخصية، ويجمع معلومات مما قرأه من الجرائد ووسائل الإعلام، ليكون قد حصل على مجموعة أفكار قد تنفعه في الحوار وفي لقاءاته الدبلوماسية وهو لا يعلم بمدى صحتها.

وإذا كانت لجان الخارجية في برلمانات العالم تعرف اختصاصات واسعة في مجال الدبلوماسية والتشريع، فإن لجنتي الخارجية في مجلسي البرلمان المغربي لا تقوما سوى بالمصادقة على الاتفاقيات الثنائية بين المغرب وباقي دول العالم بطريقة ميكانيكية مستفزة، بل إنها مفتوحة في وجه كل نائب يريد الانتماء إليها بدون أدنى مواصفات، ولا تجتمع هاتين اللجنتين مع وزير الخارجية إلا ناذرا، ويكون الاجتماع إما حول اتفاقية دولية، أو حول موضوع وطني تعودنا خلاله سماع لغة الخشب.
والواقع أن جعل البرلمان هو الغائب الكبير في العمل السياسي، توجه غريب في واقع الأمر، لأن البرلمان أصلا هو صنيعة السياسة نفسها، ورغم ذلك لا يستطيع أن يلعب أي دور لدعم سواء الدبلوماسية الموازية أو العمل الحكومي، أو حتى القيام بمعارضة قوية، فتجد البرلمان يدار بشعار “لم آمر بها ولم تسؤني” أو “كم حاجة قضيناها بتركها”.

في الحقيقة إن عطب البرلمان لا يمكن فصله عن أعطاب البرلماني نفسه، ذلك أن عقدة البرلماني أحيانا ليس في التصور السياسي الذي للدولة على الديمقراطية كمؤسسات، ولكن في ذاته كذلك، خاصة حينما يوازي حضوره غيابه، يحسب حسابات ذاتية ويغيب معها مصلحة الأمة، معتقلا في دهاليز تصور حزبي ضيق، ومديرا ظهره لقضايا الأمة، فتجده إما مصطفا أو محتجا، وناذرا ما تجده منتجا فكريا. وبالتالي فهذا الوضع المبهم الذي يعيشه البرلمان، يجعل المرء يتساءل مع نفسه: في آخر المطاف إذا لم نكن جديين في خلق مؤسسات صنعها الغرب لقرون غابرة، لماذا نريد أن نقلدهم؟ هل لنشوه تجربتهم؟.

يبدوا أننا ارتمينا سياسيا على شيء ربما هو أكبر منا، فالديمقراطية لها كلفة سياسية ومعلوماتية وبشرية، لعل الحكومة لا تدرك أن البرلمان من المفروض هو من يصنعها وليست هي من تصنعه، والمفروض هو من يراقبها وليس في خدمتها، فالبرلمان ليست مهمته تقديم خدماته للحكومة وفق الطلب.

إن ما يحز في النفس هو أننا أحيانا نرفع شعارات كبيرة ونمارس سياسة صغيرة، نتقن خلق الشعارات قبل اغتيالها، كأننا نحب الديمقراطية ونكره ممارستها، نعشق الكلام، ونمارس اللغة، نلغي الأفكار التي قد تنفع البلاد، لأن حساباتنا صغيرة جدا في حين مصائب بلادنا كبيرة جدا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *