منتدى العمق

صاحبة الجلالة وسؤال الغاية

ليس غريبا أن نجد عكس ما نريده وما نتغياه أساس من الصحافة، خصوصا وأن والجي هذه المهنة قد دخلوها من أبواب متفرقة، وهنا تختلف مقاصد وغايات الصحافيين من هذه المهنة، فمن الممارس المهني عن جدارة واستحقاق، له رسالته وغايته من مهنته، لا يساوم ولا يبيع مهنته بأبخس الأثمنة، لا يرضى لنفسه الذل ولعق الأحذية، إلى الصحافي “البراني/الذخيل/التكسبي” إذا جاز هذا التعبير، والذي أصبح صحافيا بقوة الأشياء من غير تكوين ولا خبرة، بحثا عن “الوجاهة” وعن “السيولة النقدية”، فهي وسيلته للارتزاق وممارسة الألاعيب والأكاذيب، فصارت بذلك الصحافة مع كامل الأسف وسيلة تخدم مصالحهم عن طريق ابتزاز الجمهور والإيقاع به أو تحقيق منافع لمن يعملون معهم ولو على حساب الآخرين.

لا أزعم أنني من المتمرسين والمحترفين لمهنة “الصحافة”، ولا أدافع على أي منبر إعلامي، إلا أنني وبعد اهتمام بسيط وتتبع للوسائل الإعلام بشكل عام والصحافة على وجه التحديد، بدا واضحا أن هناك خرق متواصل لهذه المهنة وإهدارها، وأعتقد أن الذي جعل الصحافة تتحول من مهنة شريفة إلى وسيلة للارتزاق، هو انفتاحها أمام القادمين إليها من كل حدب وصوب، وغياب الالتزام بمبادئ وأخلاقيات وسلوكيات المهنة، والتي تعبر في محتواها عن العلاقات بين ممارسيها من ناحية، والعلاقات بينهم وبين جمهورهم من ناحية ثانية، وبينهم وبين المجتمع الذي ينتمون إليه من ناحية ثالثة. فهل يمكن أن نتحدث عن صحافة رسالية، عن صحافة شريفة، عن صحافة نبيلة؟ و بأي معيار تصبح الصحافة وسيلة للارتزاق والتكسب؟ وهل بإمكاننا أن نؤسس لصحافة التحقيق والتحري بدل صحافة التسويق و “البوز” الإعلامي؟ ثم ما هو الدور الذي ينبغي أن يلعبه الصحافي داخل مجتمعه؟

من المؤسف جدا أن جل الصحافة بمختلف تلاوينها وتعددها استحالت إلى وسيلة للدعاية والوجاهة، ففي ظل غياب الضمير الصحفي، والأخلاق المهنية التي تواضع عليها البشر في مختلف بقاع العالم والمهنيين فيما بينهم، نجد هناك تلاعبا وإهدارا لهذه المهنة، بعدما تخلى الصحافي عن دوره الحقيقي وانفسخت أخلاقه وأريق ماء وجهه، فوجد نفسه ملقى في أتون الهزيمة والخيبة، فلا هو قادر على إرجاع مكانته وكرامته الأخلاقية التي فقدها، ولا هو يستطيع أن يكف عن تسويق الوهم والتفاهة والكذب، دونما حاجة للتمحيص وأخذ الوقت اللازم للتحري والتأكد من صحة الخبر أو بطلانه، وبذلك فهو خائن لمعشوقته التي هي المعلومة، وهذه هي مشكلة كثير من الصحافيين مع كامل الأسف في واقعنا المعاش، مظهر آخر أكثر بشاعة وفظاعة وهو أن يتماهى الصحافي مع “المال” حيث وجده، تماما كما القط الذي يبحث عن قطعة لحم أنى وجدت وكيفما كان حالها وبأي وسيلة من أجل إشباع بطنه ولو ترك أهلها جياع، فيتحول بذلك الصحافي إلى ألعوبة في يد الأنظمة المستبدة الغاشمة وأصحاب النفوذ يستطيعون أن يشتروه بأبخس الأثمنة ليملوا عليه ما يريدون، فالذي يعطي المال للعازف حتما سيملي عليه الأغنية التي يريدها، صحيح أن الصحافي يحتاج إلى المال كي يعيش ويتمتع هو الآخر، لكن ذلك لا ينبغي أن يكون هو هدفه وهمه، عليه أن يستشعر بنبل المهنة والمهمة التي ألقيت على عاتقه.

إن الصحافي الذي يظل أسيرا لهواه ورغباته، يصير منبوذا ومرفوضا اجتماعيا لا طائل يرضى منه، لأن الصحافي الذي لا يوافق بين ما يتطلبه المجتمع ومعاناته وبين ما ينتجه من مواد صحفية يجعل صداقته للصحافة عقيمة، فحري به إذن أن يكون لسان حال مجتمعه، يدافع عن قضاياه وينقل الأخبار بدقة وتحري، محاولا دفع التهم عن نفسه أولا وعن مجتمعه ثانيا، بعيدا عن الأحكام المرتجلة والتشيع والتعصب للآراء المسبقة، بعيدا عن التسطيع والتمييع. هكذا فإن الصحافي الذي يدعم السلطة ويلهث وراء المال والكسب الوفير، يكون بذلك قد باع مهنته وخان مجتمعه وجمهوره، ولا يتورع عن تدمير المجتمع بأفعاله.

ومن هنا، تأتي أهمية دور الصحافي في توجيه سفينة المجتمع إلى بر الأمان، وإلا فسيكون عالة على مجتمعه، يفسد في الأرض ولا يصلح، فلسنا بصدد أزمة صحافيين، فهم كالفطر في كل مكان، غير أننا أمام أزمة خانقة للصحافي “المناضل” إلى الصحافي “الرسالي” بما تحمله الكلمة من معنى. بدا واضحا إذن أن مهمة الصحافي ليست هينة، فواقع الحال يتطلب صلابة وقوة وإصرارا مستمرا على الصمود أمام كل التحديات والصعوبات والإغراءات والمساومات. فلا صحافة في غياب الضمير الأخلاقي، ولا صحافة في غياب الكرامة الإنسانية، ففي غياب هذين الوازعين والمحددين المؤسسين لصحافة نبيلة، سيكون التناقض والنفاق والتسويق لخطاب خسيس منحط فضيع، هي السمة العامة للمشهد الصحافي وهذا هو واقع ما نعيشه ما كامل الأسف.

بدا واضحا إذن، أن أخلاقيات العمل الصحافي أصبحت مهمة في واقعنا الراهن، فالتزام الصحافي والمشتغلين في المجال من منابر ومؤسسات إعلامية، يعد التزاما ضمنيا بالمسؤولية الإعلامية النبيلة الملقاة على عاتقهم، ومنه نستطيع فعلا تأسيس عمل إعلامي جاد وهادف، وبالتالي المساهمة في بناء مجتمع المعرفة ينعم بالحرية والعلم والمعرفة، وإلا فلنشيع إعلامنا إلى مثواه الأخير.فإلى أي مدى وإلى أي حد نستطيع أن نلتزم بالأخلاق الصحافية الإعلامية المهنية؟ وهل بإمكاننا أن نتخلص من هذا الداء العضال الذي أصاب وسائل الإعلام؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *