منوعات

عزاء الجزائر في مصيبتها، قول المثل”إذا عمت خفت”..

أمام الفاجعة وجب التحلي بالصبر و الرضا بالقدر .

 

يقول المثل ” إذا عمت خفت”، وهي عبارة تُستَحْضَر حال حلول المصائب أو المشاكل الجماعية أبعدها الله عنا وعنكم، التي تحل بقوم من الاقوام او شريحة ما من شرائح المجتمع فيتفاعل معها الناس بصبر و احتساب و تعاطف لم يسبق له مثيل، مثل هذه المصيبة التي حلت يوم الأربعاء الماضي بسقوط الطائرة العسكرية الجزائرية خاطفة أرواحا بريئة من مختلف الرتب العسكرية و الاجتماعية و من أعمار متقاربة إذ أغلبهم في سن الزهور و العطاء و الفتوة. أما جغرافيا فالمصيبة عمت كل جهات الوطن جنوبا وشمالا شرقا وغربا، و بالتالي لا أظنُّ أن هناك جزائريا واحدا في الداخل أو في المهجر لم يشعر بأن الذين استشهدوا في كارثة سقوط الطائرة العسكرية ببوفاريك لم يكونوا جزءا منه، أو من عائلته الصغيرة أو الكبيرة، لقد شعر الجميع بأنهم معنيون بالمأساة التي حَلَّت بِنا، بَكوا وتألموا، وانقبضت قلوبهم، وتضامنوا مع بعضهم البعض وكأنهم عائلة واحدة.

لقد كان ذلك بالفعل أمرا محسوسا ملموسا، رغم المسافات الجغرافية التي بيننا من قارة لأخرى بالنسبة للمقيمين في الخارج، ورغم اختلاف الظروف الاجتماعية لكل مِنَّا، ورغم كل تلك المشكلات اليومية التي نعيشها هنا أو هناك… في لحظة واحدة تبدَّدت كل تلك الفروق وتصرَّفنا بطبيعتنا كشعبٍ واحد متضامن متراص، صهرته المِحن والتجارب ومَكَّنته من تحقيق الانتصار على الشدائد، و الصبر عند الصدمة الأولى على قسوتها و فجاءتها ..

لقد كانت بالفعل أياما عصيبة تلك التي مرَّت بعائلاتنا على إثر هذا الحادث الأليم، عاشها بحرقة أبناء الجزائر في الشتات عبر الفضائيات و وسائل التواصل الاجتماعي مع جاليتنا المسلمة المؤازرة لشعب الجزائر، حاملة لنا معها دلالات ما كُنَّا لننتبه إليها من غير تلك الصدمة الكبيرة. مَكَّنتنا من معرفة أننا شعب من طينة خيرة، مازلنا نمتلك وحدة الشعور الأخوي والوطني، وما زلنا نُقدِّر قيمة التضحية، ومازلنا نتألم لمصائب بعضنا البعض.

و بالمناسبة، لم تتخلّف بعض عائلات الضحايا حتى في أوروبا، عن أداء صلاة الغائب على شهداء حادث تحطم الطائرة العسكرية يوم الجمعة الماضي، ما يؤشر ليس فحسب أن الصدمة كانت كبيرة والمصاب جللا، بل يعكس أيضا الهبة التضامنية وروح التآزر والمواساة المُفعمة بمشاعر التعاطف الصادق المعبّر عنها داخليا وخارجيا تجاه عائلات ضحايا أفراد الجيش الوطني الشعبي، وعليه، ليس أمامنا إلا أن نقف لحظة تأمُّل ووعي في هذه الظرف الأليم، وبقدر ما نفتخر بتضحيات أبنائنا و اخواننا وندعو لهم بالرحمة، علينا أن نُدرِك أن هناك أيضا من يجب محاسبته أو إجراء تحقيق معمق حول سبب الكارثة، من باب ” ليطمئن قلبي”خاصة نحن في عصر التكنولوجيا، و بالتالي يحاسب الاشخاص أو الجهة كانت مقصرة، حتى تصل الكارثة إلى حد العظم في دقائق دون مبالاة و لا رقيب، وهذا يعد تحصينا لجيشنا الوطني لكي لا تتكرر الفاجعة مرة أخرى لا قدر الله!!

وكغيري من الملاحظين، قرأت الكثير من منشورات الترحم على ضحايا سقوط الطائرة، وهذا طبعا شيء جميل و له أثر ايجابي على الروابط الاجتماعية و يدل على رقة قلوب الشعب الجزائري وطيبته، لكني ما توقعت أن لا أجد منشورا أو اثنين يتحدثان عن المحاسبة ، أي من سيحاسب من كان وراء هاته الفاجعة ولو حتى غير مباشر كالتسيب أو الاهمال، لاسيما ما تعلق بالعوامل والأسباب التي أدت إلى سقوط الطائرة فور إقلاعها؟ صحيح أن مثل هذه التحقيقات تكون سرية ما دام الطائرة عسكرية، لكن على الأقل تطمينا للعائلات، على الجهات الرسمية أن تعطي تفسيرا واضحا لملابسات ما وقع بالقرب من أكبر مطار عسكري في البلاد!!

أو يصدر بيان على الأقل، على سبيل المثال، يخبرنا باستقالة جهة من الجهات المعنية الرسمية بالقضية حتى و لو كانت بريئة، لضخامة فاجعة هذا المصاب الجلل لتقصيرها في جانب من مهمتها، حتى و لو كانت مسؤوليتها غير مباشرة على ما جرى، لا ننسى أنه في الدول الغربية حتى ولو كان المسؤول بريء،و ليس له ناقة و لا جمل في الحادثة، يقدم استقالته إراحة لضمائر عائلات الضحايا و إراحة لضميره هو لأنه يشعر بالذنب أنه مقصر بطريقة أو بأخرى وهذا معنى مفهوم المسائلة أو المسؤولية في تسيير شؤون البلاد وخدمة العباد!!

لأنه في الدول الغربية خصوصا التي تحترم نفسها، المهندس المعماري مثلا الذي لا يحترم مقاييس العمران عند اصغر رجة زلزال تهتز الارض يعد غاشا للأمة، أو الطبيب مثلا الذي يخفق في تقديم الإسعاف أو الدواء المناسب للمريض يعد غاشا للمهنة و للشعب، ويحال كل منهما رأسا على عدالة البشر قبل عدالة رب البشر، ليستريح القوم من تأنيب الضمير وبالتالي يبرئ الجاني نفسه حتى ولو لم يكن متعمدا، وبالتالي من الواجب أخلاقيا، اذا كان هناك صاحب ضمير مهني أو انساني و حس وطني ..بأن يستقيل لوحده او يقدم للعدالة المتسبب في كارثة طائرة إليوشن إي أل-76 التي راح ضحيتها اكثر من 257 عسكري ومدني وعائلات بأكملها، كما يجب تعويض هذه العائلات التي فقدت من كان يقوم على خدمتها، بل و يسلم نشان ” الشهادة” للعائلة كعربون وفاء لتضحية الفقيد. ..

وأمام هذه الفاجعة المؤلمة، فقد نشر عدد من المغردين والمعلقين مجموعة من التدوينات التي حاولت البحث عن الخلفيات الحقيقية لهذا الحادث الاليم، الذي تسبب في هلاك 257 شخصا، حسب المصادر الرسمية، وترددت كلمة “اليوشين” (اسم الطائرة المنكوبة) في عدد من التعليقات التي تم تداولها على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ قدّم البعض تفسيرات تقنية خاصة بهذه الطائرة المصنعة في روسيا منذ عقود، و قال بعضهم أنها مؤامرة من الداخل دبرت بليل ضد مؤسسة الجيش الوطني، و قال آخرون أنه عمل تخريبي مدبر من الخارج، و قال آخرون إنه لا يعد ان يكون قلة صيانة و إهمال متعمد ، كما ربط مدونون آخرون بين حادثة السقوط والحمولة الزائدة التي كانت موجودة على متن الطائرة قبل إقلاعها.. حيث أنه حسب الوثائق الرسمية للطائرة، اقصى حمولة اليوشين 76 هي 225 راكبا إضافة للطاقم المكون من 10افراد، فلماذا زيادة عدد الركاب إلى 247 راكبا كما أعلن، واعتبر مدونون أن هذه الزيادة في الوزن “سببا رئيسيا في الكارثة، إضافة إلى اهتراء الطائرة وقدمها، وهو الموضوع الذي تتجنب الصحافة الجزائرية الخوض فيه” حسب ما جاء في تدوينات المعلقين. و من الإعلاميين من ذهب أبعد من ذلك أمثال الأخت ليلى بوزيدي التي كتبت تقول “لا يمكن إلصاق الكارثة بالقضاء و القدر، دون التحقيق في أسباب سقوط الطائرة، التي تعود لحقبة الاتحاد السوفياتي، والجزائر من أغنى دول المنطقة”!!

وأمام هذه التخمينات، العبد لله لا يدعي علما في مسألة ميكانيك الطيران و لا استطيع أن أجزم أن الطائرة “هرمت” مثل ما قال بعضهم عن أسطول الطائرات الروسية في دول العالم الثالث، و لا أدعي وصلا بالفنون العسكرية المعاصرة علما أني ركبت هذه الطائرة تحديدا مرة واحدة في حياتي ذهابا في رحلة “سياحية” شاقة من العاصمة إلى تمنراست مسافة ألفي كلم، اذ يلاحظ المرء للوهلة الأولى أن الطائرة هي طائرة لحمل البضائع و السلع وتحول إلى طائرة ركاب عند الاقتضاء بالنسبة للعسكريين خاصة، والراكب فيها كالمسافر في حافلة باص، يشد دائما يده إلى الأعلى، ولا يركبها إلا العسكري الشاب المتمرس، وليس العائلات، لان كبير السن و المريض يصل مهشم الاوصال لا قدر الله.. رغم ذلك كأحد أبناء هذا الوطن تؤلمني هذه الخسارة الكبيرة في أرواح عائلات برمتها، دون معرفة المتسبب و السبب!!

وكملاحظ أيضا بعيد نوعا ما عن الساحة العسكرية، أعرف الجيش من الداخل منذ أزيد من ربع قرن، لما كنا في الخدمة الالزامية! و لكي لا يزايد علينا بعض المنتسبين والمنتفعين بلبن البقرة الحلوب، لا أبوح سرا أني أبن عائلة ثورية من منطقة “الرصاصة الأولى للثورة الجزائرية” من الأوراس الأشم، كما يحلو لبعض بارونات العشائر تسميتنا.. و لا ابوح سرا أيضا ان قلت، أن عائلتنا قدمت الشهداء إبان الثورة المباركة على مذبح الحرية، وإلى يوم الناس هذا من عائلتي القريبة جدا، أعمامي و أبناء عمومتي، منهم من ترقى في السلك العسكري إلى آخر رتبة عسكرية جزائرية حالية، أي رتبة جنرال، في القوات الثلاث البرية والجوية والبحرية، ومن هذه الأخيرة أي القوات البحرية، تخرج العبد لله كضابط، وامضيت 24 شهرا، في الخدمة العسكرية الاجبارية كباقي أبناء “شعيب لخديم”، وكان ذلك في عهد الجنرال بن يلس، متعه الله بالصحة.. وكانت تلك الفترة بفضل الله و قوته من أحلى أيام عمري، إذ يسر الله لنا عمل الخير قدر المستطاع – تدريسا وتأطيرا- بالمدرسة العليا للبحرية (خير الدين بابا عروج) بتامنتفوست، قرب برج البحري بالعاصمة، كما يسر لنا الله مع بعض الاخوة الضباط فتح أول مصلى للطلبة والمساهمة في تدريس الطلبة الضباط العاملين وصف الضباط التابعين لمدرسة جيجل ، قلت تعليمهم علوم “الدنيا والدين” كما يحلو لبعض الضباط تسميتها لان التعليم في الجيش تكوين و انضباط و التزام وهي المدرسة العليا الوحيدة في هذا المجال.. كما رافقنا أيضا بعض الدفعات الجديدة للتمرن في مخابر المدرسة العسكرية المتعددة التقنيات “إنيتا” في الثلاثيات الأخيرة من تخرجهم فجعل الله منهم طلبة ضباطا متفوقين، بل نماذج مؤمنين ملتزمين وطنيين حد النخاع، رهبانا في الليل فرسانا في النهار!! كما يسر الله لنا أيضا رفقة دفعتنا المساهمة في تأسيس وتأثيث “متحف المجاهد” بمقام الشهيد بالعاصمة، وكان كاتب هذه السطور هو من أحضر المدافع التي تزين حاليا مدخل رياض الفتح، فسميت من طرف زملائي -داخليا بيننا – باسمي “مزاحا” لأنها كادت هذه التحف العثمانية النفيسة أن تقع في مرتفعات المدنية و تنكسر عشية التدشين الرسمي من طرف الرئيس الشادلي بن جديد -رحمه الله- وهي في طريقها لمقام الشهيد لولا حفظ الله وستره .. وهذا غيض من فيض.. لكي لا يقال أن “السيد” غريب عن مؤسسة الجيش و”يهرف بما لا يعرف”..

إذن الكارثة وقعت و صار ما صار، و لا يسعنا الا ان ندعو الله السلامة للجزائر و لشعب الجزائر و لجيش الجزائر، و لا نقول الا خيرا، فالشعوب في هذه الدنيا معرضة لصنوف من البلاء، والاختبار، وما ذلك إلا ليعلم الله ـ تعالى ـ من العبد صبره ورضاه؛ وحسن قبوله لحكم الله وأمره، قال الله تعالى:{ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً }.
والإنسان عندما يصاب بمصيبة كمثل عائلات ضحايا طائرة “بوفاريك”، فإن له أحوالاً في تقبل تلك المصيبة كما يقول اهل العلم، إما بالعجز والجزع، وإما بالصبر وحبس النفس عن الجزع، وإما بالرضا، وإما بالشكر. أو كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى:( والمصائب التي تحل بالعبد، وليس له حيلة في دفعها، كموت من يعزُّ عليه، وسرقة ماله، ومرضه، ونحو ذلك، فإن للعبد فيها أربع مقامات:
أحدها: مقام العجز، وهو مقام الجزع والشكوى والسخط، وهذا ما لا يفعله إلا أقل الناس عقلاً وديناً ومروءة.
المقام الثاني: مقام الصبر إما لله، وإما للمروءة الإنسانية.
المقام الثالث: مقام الرضى وهو أعلى من مقام الصبر.
المقام الرابع: مقام الشكر، وهو أعلى من مقام الرضى؛ فإنه يشهدُ البليةَ نعمة، فيشكر المُبْتَلي عليها). وقد علق على هذه المقامات الأربع أحد المشايخ بقوله: “للإنسان عند حلول المصيبة، أربع حالات: الحالة الأولى أن يتسخط، و الثانية أن يصبر، والثالثة أن يرضى، والرابعة أن يشكر”.

من جهتنا.. أمام هذه الفاجعة الكبرى التي ألمت بشريحة من أبناء الجزائر وهم في طريقهم إلى أداء واجبهم الوطني، وحماية حدود البلاد وأمنها العام، في وقت عصيب تحيط بها ظروف إقليمية ودولية في غاية الدقة والتقلب والخطورة ، لا يسعنا الا التعبير لعائلات الضحايا عن صدمتنا وحزننا العميق لهذا المصاب الوطني الجلل، متضرعين لله بنفوس راضية بقضاء الله وقدره، داعين الله تعالى أن يتغمدهم بواسع رحمته ويرفعهم لمقام الشهداء، وأن يسكنهم فسيح جنانه، وأن يلهم ذويهم وإخوانهم في الجيش الوطني الشعبي الصبر والسلوان، وأن لا يحرمنا أجرهم، وأن لا يفتننا بعدهم، و(إنا لله وإنا إليه راجعون).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *