وجهة نظر

بؤس الخطاب

(أغبى الناس من ضل في آخر سفره وقد قارب المنزل) ابن القيم

يقولون أن الفعل السياسي هو الكلمة، والكلمة القوية تحمل قدرة سحرية على توجيه الشعوب وبناء صرح التاريخ، وكثير من السياسيين دخلوا التاريخ فقط لأنهم يتقنون صنع الكلمات، ويحسنون ترتيبها، ومن خلالها صنعوا الأحداث، كما أن العديد من الكلمات العميقة صنعت السلم في التاريخ، وأخرى شاردة صنعت الحرب.

إن الكلمات التي تصدر عن أفواه القادة السياسيين لها دلالات سياسية، كما لها تأثير اجتماعي أوسع، لذلك فالناس ينتبهون كثيرا للكلمات التي يستعملها المسؤولون السياسيون، يفسرونها وفق إحساسهم ورغباتهم، وفي كثير من الأحيان يكتشفون فيها توجهاتهم وأنفسهم، بل حتى صورهم.

علمنا التاريخ أن الكلمة سلاح، وأن بعض الكلمات تقود في الكثير من اللحظات إلى الدمار والهلاك، فكتب نيرون الشعر ومجموعة من الكلمات ولأجلها أحرق روما بكاملها، أما هتلر رفقة وزيره في الدعاية “باول جوزيف غوبلز”، فإنه أشعل النار في الدنيا بكلمات تثير الحماس النازي، وما زالت الكلمات لها نفس التأثير ولها نفس الوجود والحضور السياسي في زمن الإعلاميات.

لذلك حينما يفقد المسؤول السياسي بوصلته، أو حينما يغرق في مشاكل ذاتية لا أول لها ولا آخر، سرعان ما يتدثر بالكلمات لعلها تنقذه من ضغط المحيط، فيفوه بأي كلام يحشوه بالاتهامات تارة، وتارة أخرى بتحليلات هلامية، معتقدا أنه يتحدى الجميع أو أنه يهزم الجميع، ناسيا أن القوة ليست فقط في الكلمات، بل في مشروعية صاحبها، وفي مدى قدرته على أن يكون مصدرا لإثارة حماس الناس من خلال مصداقيته والإلمام بالوضع العام للبلاد والوضع الخاص للدولة. أما أن يطلق الزعماء السياسيون الكلام على عواهنه، فإنهم في حقيقة الأمر لا يؤذون إلا أنفسهم، بل قد يدمرون تجربتهم.

قد يعتقد البعض من هؤلاء القادة أن الناس يستمعون إليه بإمعان وهو يتكلم، وهم في حقيقة الأمر لعجز مخياله وفقر كلماته يتألمون له، فيخرج من فيه فقاعات لا يتعدى صداها المتكلم نفسه.

إن السياسي الماهر، هو من يملك القدرة على صناعة كلماته من خلال الاستماع إلى الناس أكثر من الاستماع إلى صوته، بالإنصات إليهم أكثر من الحديث والخطابة فيهم بلغة الخشب، فالسياسي هو الذي يستطيع صناعة الكلمات المؤثرة من قدرته في السماع إلى الناس ليبني المستقبل وليس ليهدم الماضي والحاضر.

إن أيأس مرحلة يمكن أن يعيشها المسؤول السياسي هي حينما يتوهم أن الناس يستمعون إليه بإمعان، في حين هم يسخرون منه وفي صمت، وحتى الدولة نفسها عند معالجتها للمشاكل والقضايا المتشابكة التي عمرت لعقود، لا تحتاج إلى التحديات اللغوية وإلى الخطابات المدبجة، الركيكة والوهمية، بل إلى بناء مواقف حقيقية مبنية على الصدق، لتصنع لغة وكلمات تنبع من الواقع، وتخاطب الناس من أجل مصلحة الوطن وليس من أجل مصلحة الذات او الرغبة في إنقاذها،
إن توظيف اللغة لإثارة مشاعر البعض ولاستفزاز البعض الآخر، أو حتى لرفع تحد ما، لا يعبر عن نضج سياسي أو تمكن من الكلمات، بل هو في حقيقة الأمر هروب بئيس نحو مجموعة من الجمل، بلغة تمويه لن تنقذ المسار كيفما كان ذويها، لأن محتواها وعمقها فارغ ومثير للشفقة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *