وجهة نظر

ماذا يقع في الصحراء؟

“طريق الموت” لقب تطلقه ساكنة العيون و أقاليم الجنوب عامة على الطريق الرابطة بين “الداخل” و الصحراء. انطلاقا من كلميم وصولا للداخلة و حتى الكويرة، تسلك طريقا لا تحمل سوى الاسم، مقصوصة الأطراف كأن فأرا قضمها. تشعر أنك تسلك طُرقات ليبيا أيام موسوليني VS عمر المختار!

طريق حصدت و تحصد أرواحا الناس بمعدلات قياسية، تقتل الأب و الابن، الصغير و الكبير، الابنة و الأم، رجل الأعمال كما الموظف و الصحفي و الطالب. تحصد الأرواح أفرادا و جماعات، عائلات و أصدقاء، مدنيين و عساكر. ديمقراطية كالموت!

عديد أصوات نادت و تُنادي بمد طريق آدمي لوصل الجنوب بالشمال بغض النظر عن ما هو سياسي، و عما إذا كانت التنمية تُسهم في تقوية جبهة الوحدويين أو تضعف خندق الانفصاليين. الصحراوي يبقى إنسانا مواطنا من حقه بنية تحتية مريحة تصون كرامته، تُسهل معاشه و تحفظ حياته و حياة أهله و عشيرته.

بعيدا عن الكلمات الرنانة من نموذج تنموي للأقاليم الجنوبية، جهوية متقدمة أو حكم ذاتي موسع، ما يلحظه المواطن في الصحراء تخلف يضرب في الأعماق كل مناح الحياة: في الخدمات و التعليم و الصحة، و البنية التحتية. بنية تمشي بسرعة السلحفاة، فترى العمال يشيدون جزء من “رون بوان” ليختفوا حتى تظن الأعمال توقفت، ليفاجئونك باستئناف العمل برهة ثم يختفون!

30 ميليمتر من أمطار كفيلة بعزل العيون عن العالم، غرق أُناس بكلميم و حصد أرواحهم دون إنذار. يوم قالوا أن الجنوب فاض و لم يعترفوا أن الأمطار فضحت الفساد و التلاعب في الصفقات. عديدون ماتوا غرقا لأن طرقات و قناطر “كلميم” مهترئة لا تصلح حتى لتنقل الدواب.

مواطنون لم يكرموا أمواتا و لا أحياء، فحملت جثامينهم فوق شاحنات أزبال كُتب لها إهانة المواطن حيا و ميتا: #طحن_مو!

تحقيق مُعمق أفضى أن المخطأ مواطنون أساؤوا تقدير علو الأمواج فاستعجلوا أجلهم و كل نفس ذائقة الموت! نفس التحقيق المُعمق قال أن الجاني في وفاة 33 طفلا احتراقا في الطريق صوب العيون كانت “بوطة غاز صغيرة” لسائق شاحنة يحب طهي طعامه طازجا، و ليس مُلاك شاحنة مُحملة بمحروقات، مشكوك في قانونيتها، و محسوم عدم مطابقتها لمعايير سلامة حمولة تُعتبر قنبلة موقوتة.

مخطئة هي الدولة إن ظنت أن حل نزاع الصحراء يكمن في تجميع أُناس داخل رقعة جغرافية ، تزويدهم بمصاريف الجيب و شراء ولاء كبارهم، إشغال صغارهم بملاعب القُرب و نسائهم بساحات واسعة، شبابهم ببطاقات إنعاش و رخص قيادة سيارات الأجرة، مع كف الأعين عن “كويرات البوطوة لكبيرة”!

حل أي نزاع يبدأ بصناعة المواطن و صيانة كرامته، تعميم دولة القانون، فلا يُصبح مصير الإنسان قابلا للبيع و الشراء في مزاد كأي أثاث بالٍ.
تعليم ذي جودة يُنتج مواطنا صالحا مُصلحا مبدعا لا اتكالي! دولة تتحمل مسؤولياتها في تحسين التعليم، فلا تتركه تجارة رابحة لإخفاء مصادر الأموال و بيع النقط لمن يدفع طيلة السنة!

سيادة القانون، و الضرب بيد من حديد على يد كل سارق كبيرا كان أم صغير. الهاتف في العيون أثناء قيادة السيارة فريضة، لباس الخوذة جريمة، و الامتثال لتعليمات شرطة المرور عار و جُبن لا مثيل له.

قانون يُطمئن الناس، فلا يدخلون “دار القضاء” متحسسين جيوبهم حذر سماسرة الأحكام، يأتونهم من حيث لا يحتسبون. يحز في نفسك كثيرا سماع شباب الصحراء يسمون محاكم العدالة “محلبات” الداخل مفقود و الخارج مولود.

ذات يوم سلم القاضي محمد قنديل وزير “العدالة و الحريات” سابقا “الرميد” تسجيلا يدين فساد محكمة بالعيون، فما كان من الرميد، المنادي بالملكية البرلمانية، قبل أن يتذوق رواتب الملكية التنفيذية، ما كان منه إلا أن طلب من قنديل الاستمتاع بعطلته، ليرجع المسكين فيتفاجأ بقرار عزله. إييييه أوليدي يا رميييد التاريخ لا يموت!

جاذبية المُدن حول العالم تكون بطُرقاتها و قناطرها، إبداع شبابها و قوة تكنولوجيتها، تسامح سكانها و سيادة القانون فيها. المبعوث الأممي “كولر”، رئيس ألمانيا السابق أول دولة أنشأت طريقا سريعا قبل 80 سنة، سيكون سعيدا حقا لو دخل المحاكم و رأى أمور الناس قد حُلت، لو انتقل بين مدن الصحراء بسيارته بكل أمن و أمان و راحة، لا بطائرة تنزل من السماء كأنه يزور جزرا معزولة.

“كولر” سيسعد لو التقى الشباب و أكدوا له تكافؤ الفرص بينهم، كفاءة تعليمهم و تمتعهم بحقهم الطبيعي في التعبير عن رأيهم دون مزايدة من هذا و لا ذلك. ليست الساحات و لا ملاعب القرب، و لا “كؤوس الشاي” ما سيفرح” كولر”!

* باحث مغربي في الجغرافية السياسية و كاتب رأي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *