وجهة نظر

المروري يكتب: المسار السياسي لبنكيران .. محاولة لفهم التحول (4)

2008-2003

عرفت هذه المرحلة قضايا صعبة ومحطات عنيفة، داخلية وخارجية، أكسبت الحزب قوة تنظيمية وخصوبة فكرية، وقوة اقتراحية، وتعاطفا شعبيا، وتمددا تنظيميا متنوعا، دون أن يخلو هذا التعاطف من بعض الانتقادات الحادة نتيجة بعض التنازلات التي قدمها الحزب إبان تلك المرحلة.

لقد شكلت أحداث 16 ماي الإرهابية نقطة تماس متوترة بين الحزب وبعض لوبيات الدولة العميقة التي نادت بحل الحزب، بتواطئ مع بعض قوى اليسار وخاصة الاتحاد الاشتراكي الذي دعا كاتبه العام محمد اليازغي بتحميل العدالة والتنمية المسؤولية المعنوية.

لقد اهتز الوجدان المغربي بجميع أطيافه لهذا الحدث الإجرامي، وتعالت الأصوات واختلطت الاتهامات، ونادى الجميع الفاعلين السياسيين والمجتمع المدني بمسيرة مليونية وطنية بالدار البيضاء.

هذه المسيرة التي من المفترض أن يساهم فيها جميع من ندد بتلك الجريمة، ومن بينهم حزب العدالة والتنمية، لكن تأتي المفاجأة الصادمة والإقصاء الممنهج بحرمان الحزب من المشاركة في هذه المسيرة من طرف الدوائر الرسمية وإقصاؤه منها. وهنا بدأت بوادر التحول في الموقف الرسمي للدولة من الحزب، وبدأ مسلسل الضغط المنهجي لإضعاف الحزب وإرغامه على تقديم تنازلات وإفقاده شعبيته وبريقه السياسي والاجتماعي.

إلا أن الحزب والحركة لم يقفا مكثوفا الأيدي، بل بادرا إلى تنظيم مسيرة موازية بالرباط تعبيرا منهما عن موقفهما المندد بهذه الجريمة، وكان لي حينها شرف توثيق وتصوير هذه المسيرة بجميع تفاصيلها بمبادرة شخصية مني، بعد أن لاحظت غياب صحفيي ومصوري جريدة التجديد، وسلمت جميع الصور التي توثق لهذه المسيرة إلى الأخ مصطفى الخلفي، التي نشرها بالجريدة، ولولا تلك الصور لما تم توثيق المسيرة.

إن مسلسل الضغط لم يقف عند حد معين، بل امتد إلى البرلمان بصياغة “قانون الإرهاب” ودعوة الجميع بالتصويت عليه قسرا رغم جميع العيوب التي يتضمنها، واضطر الحزب إلى التصويت عليه كرها، وهو تصويت سياسي على حد تعبير الأستاذ المصطفى الرميد، وذلك قصد إبعاد فتيل التوتر بين الحزب والدولة التي ضغطت بكل ثقلها على الحزب.

وامتد هذا الضغط إلى مطالبة الحزب بتقليص ترشحه في الانتخابات الجماعية لسنة 2003، حيث تم تخفيض عدد الدوائر التي يؤذن له فيها بالترشح، بل أكثر من ذلك تم تحديدها له، هذا القرار تسبب في نقاش حاد داخل الحزب، وحرب كلامية داخلية وخارجية، بين رافض ومؤيد ومبرر ( وكان لي في الموضوع نقاش طويل مع المرحوم عبد الله ليس هنا مجال بسطه)..

واستجاب الحزب لهذا القرار الأليم وكان ذلك من أصعب التنازلات التي قدمها في تلك الآونة، وتلك المرحلة السياسية الحرجة (مرحلة انتخابات محلية)، وبرغم مرارة القرار، فإنه لا يخلو من حكمة وتعقل لم ندرك حقيقتهما في إبانه.

هذا الضغط لم يزد الحزب إلا قوة ومناعة، ولَم يزد الشارع إلا تعاطفا واحتضانا، فحقق الحزب في تلك الانتخابات نتائج جيدة، بوأته المقدمة في العديد من الجماعات والمقاطعات.

ويأتي المؤتمر الوطني للحزب سنة 2004، الذي توج الدكتور سعد الدين العثماني أمينا عاما للحزب.
كان العنوان الأبرز خلال هذه الفترة، هو لعبة شد الحبل بين المخزن وحزب العدالة والتنمية، الذي رفع صوته عاليا في مواجهة حملات الضغط والتضييق الممنهج الذي كان يمارس عليه في حكومة إدريس جطو. وظهر الحزب وحيدا في الساحة السياسية والإعلامية في مواجهة قوى التحكم بزعامة الرجل القوي فؤاد عالي الهمة، هذه المواجهة كانت تقتضي حكمة وصبر وذكاء.

إلا أن هذه المرحلة لم تخلو من بعض الانزلاقات الكبرى (في تقديري الشخصي) التي سقط فيها الحزب، وأخص بالذكر هنا تعامل بعض قياداته مع أحداث سيدي إيفني خلال صيف 2005.

فأمام ازدياد التهميش الذي كانت تعيشه المدينة، وارتفاع نسبة البطالة، وغياب مشاريع تنموية، علما أن المنطقة تزخر بالعديد من الإمكانيات والمقومات، أسس شباب المدينة “سكرتارية” محلية ضمت كل ألوان الطيف السياسي والمدني من أجل فتح حوار مع الدوائر الرسمية وإيجاد حلول للمنطقة، والاستجابة لمطالبها الاجتماعية الصرفة.

وكان من ضمن هذه السكرتارية حزب العدالة والتنمية وأحد أهم وأقوى مكوناتها، وممثلة بكاتبها المحلي آنذاك الأستاذ ابراهيم سبع الليل وبعض الإخوة أذكر منهم الأخ محمد عصام.

وأمام إغلاق الأبواب الرسمية، أخذت المدينة تعرف غليانا وغضبا تجاه موقف التجاهل الرسمي، وكانت المدينة على أبواب حركة احتجاجية اجتماعية، وهنا طرح السؤال، هل تشارك الكتابة المحلية وعموم أعضاء الحزب في هذا الحراك الاجتماعي أم تقاطعه وتنسحب من السكرتارية؟

سؤال أجج النقاش الداخلي في الحزب، ووضع محلية سيدي إيفني في حرج كبير أمام الساكنة وباقي مكونات تلك اللجنة، خاصة وأن الحزب كان أهم فاعل ومؤثر سواء في المدينة أو بالسكرتارية.
وانتهت الأمانة العامة إلى منع الحزب من المشاركة في تلك الاحتجاجات بعد أن منعت الداخلية المسيرة المبرمجة.

وأمام هذا القرار الذي لم يُرضِ عموم أعضاء الحزب وساكنة المدينة التي بدأت تلوح بفقد ثقتها في الحزب، ارتفع إصرار عموم الأعضاء على المشاركة ومن ضمنهم الكاتب المحلي إبراهيم سبع الليل وباقي مكونات المكتب المحلي، وإصرارهم على البقاء في السكرتارية المحلية، والخروج في المسيرات الاحتجاجية، فاضطرت الأمانة العامة إلى اتخاذ قرار طرد إبراهيم سبع الليل من الحزب.

وخرجت المدينة عن بكرة أبيها في احتجاجات اجتماعية محددة في مجموعة من المطالَب الاجتماعية الصرفة، وكانت مواجهات عنيفة بين رجال الأمن وقوات التدخل السريع التي استعملت الهراوات والقنابل المسيلة للدموع، والساكنة التي بادلتهم برشق الحجارة.

وفِي ظل هذا الاحتقان الاجتماعي، وأمام توتر الأجواء بين ساكنة المدينة والدوائر الرسمية التي صمت آذانها عن سماع أنين وآلام الساكنة، يخرج الأستاذ عبد الإلاه بتصريح بجريدة التجديد قائلا إن هذه الاحتجاجات وراءها انفصاليين (هكذا)، ولمن أراد التأكد فليذهب إلى أرشيف جريدة التجديد يوليوز 2005.

هذا التصريح أجج سخط الساكنة على ابن كيران حينها، وتم تصوير مئات النسخ لهذا التصريح وتوزيعه في المنازل والمقاهي، وتصاعدت موجات الغضب، أدت بانسحاب جماعي من حزب العدالة والتنمية بمدينة سيدي إفني.

على إثر ذلك، ومن أجل إيجاد حل لهذه الأزمة الداخلية، اضطر الدكتور سعد الدين العثماني التوجه شخصيا إلى مدينة سيدي إيفني وعقد لقاء مع جميع أعضاء الحزب في بيت أخينا المرحوم الدكتور عبد الله برو، وبحضور الأخ محمد عصام الذي كان قد استقال من الحزب سابقا، وكذا الأخ إبراهيم سبع الليل المطرود من الحزب، (وشاءت إرادة الله أن أكون من ضمن الحضور، بل كنت شاهدا على كل هذه الأحداث والتي ستأتي بعدها سواء سنة 2007 أو 2008 التي انتهت باعتقال جميع أعضاء السكرتارية ومحمد عصام وإبراهيم سبع الليل، وربما سآتي إلى تفاصيل هذه الأحداث إذا كانت هناك ضرورة).

كان هذا اللقاء صاخبا ومتوترا من طرف أعضاء الحزب، الذين كالوا فيه لقيادة الحزب العديد من التهم واللوم على قراراتهم وتصريحاتهم التي لم تكن مقبولة أو مستساغة لديهم، فضلا عن أنها وضعتهم في عزلة اجتماعية بين الساكنة اضطرتهم إلى التبرؤ من تصريحات ابن كيران وموقف الحزب.

قابل كل ذلك العثماني بهدوء تام وتفهم كبير وابتسامته المعهودة، محاولا تخفيف حدة هذا الغضب والاحتقان، ومحاولا شرح السياق السياسي الذي اتخذ فيه الحزب هذه القرارات.

لقد كنت من ضمن الذين أغلظوا القول إلى العثماني، وطرحت العديد من الأسئلة على خلفية قرار منع الإخوان من المشاركة في المسيرة الاحتجاجية، وقرار طرد سبع الليل، وسبب تماهي الحزب مع قرار الداخلية القاضي بالمنع، وتصريح ابن كيران، وطبيعة تدخل الأمن في فظ هذه الاحتجاجات.

هذه المداخلة لم ترق الدكتور العثماني الذي لامني عليها عندما التقيته في الرباط، وعلمت بعدها أن ما قاله خلال لقاء بيت عبد الله برو رحمه الله، ليس قناعة شخصية بل هو تصريف لموقف الحزب الرسمي، لذلك لم يكن مقنعا كفاية حينها (هذا تقديري الشخصي الذي لا ألزم به أحدا)، وللأسف الشديد لم تكتب لمهمة العثماني إلا نجاحا جزئيا، وظلت القطيعة بين الحزب والساكنة إلى غاية الانتخابات البرلمانية التي نجح فيها الأخ محمد عصام بعد خروجه من السجن وعودته إلى حضن الحزب.
ولربط الماضي بالحاضر، ولفهم جزء من تحول خطاب ابن كيران بين احتجاج حاضرة أيت بعمران (سيدي إيفني) واحتجاج حاضرة الريف (الحسيمة)، يمكن طرح الأسئلة التالية:

– إني أتفهم قرار رفض أمانة الحزب الإذن لأعضائه بالمشاركة في المسيرة، وأتفهم قرار طرد إبراهيم سبع الليل من الحزب بعد إصراره على المشاركة، رغم ألم القرار وصعوبته على نفسية أعضاء الحزب والانكسار الذي تسبب لهم فيه، ولكن الذي لم أَجِد له أي تفسير إلى حدود كتابة هذه السطور؛ هو تصريح ابن كيران لدعاة الحركة الاحتجاجية بايت بعمران أن وراءهم انفصاليين! فهل كانت هناك ضرورة لهذا التصريح؟ وهل هو رسالة لجهة ما؟ وما الفائدة السياسية التي جناها الحزب من خلال هذا التصريح؟

– أليس من الصواب أن يدعم ابن كيران مطالبهم الاجتماعية، بصرف النظر عن الموقف من الخروج إلى الشارع، علما أن الحزب يتزعم المعارضة آنئذ، وان الحكومة (وليس الدولة) التي يعارضها هي المسؤولة عن تردي الأوضاع الاجتماعية هناك؟

– ما الذي أحجم ابن كيران عن إعطاء أي تصريح، لا مع ولا ضد حراك الريف الحالي، علما أن المطالَب الاجتماعية متشابهة، والأسباب متشابهة، والاحتجاجات متشابهة، إلا أن الثاني كان على خلفية مقتل المرحوم محسن فكري.

– لماذا لم يبد أي تصريح أو موقف من خرجات زعماء الأغلبية التي اتهمت وشككت بعضها بالنوايا الانفصالية للحراك؟

إن الإسراع في التصريح القاضي في التشكيك في من كان وراء حركة الاحتجاج بسيدي إيفني، والانكفاء عن أي تصريح في أحداث الحسيمة ليس عبثيا أو مصادفة، وكلنا يعلم أن ابن كيران دقيق الحسابات، يضبط تصريحاته حسب الموسم السياسي ودرجة سخونته.

فلن يصرح بأنه مع هذه الاحتجاجات لأن ذلك ضد منهجه في الإصلاح، ولن يصرح أنه ضدها، لأنه بذلك سيكون ضد مصالح الساكنة الاجتماعية التي اعترفت أعلى سلطة في البلاد بأن هناك تقصير في إنجاز الأشغال، والكل تابع ما آلت إليه الأمور.

إذا كان لأحزاب الأغلبية المشكلة للحكومة حرج في التعامل مع حراك الريف أدى بها في إطار الحفاظ على التوازن (المعيب) بين الدولة والحكومة – وهو حرج غير مبرر قطعا وإن كان متفهما على مضض – من أجل إصدار ذلك البلاغ، فهل كانت هناك من ضرورة من أجل إعطاء تصريح من طرف ابن كيران يشكك في احتجاجات سيدي إيفني 2005 علما أن حزبه يقود المعارضة؟ وليس أي معارضة.

إنه تحول دقيق ورفيع في الموقف والخطاب، سنجليه فيما سيأتي إن شاء الله.

يتبع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *