وجهة نظر

شيء ما ينقصنا :الإختبارات بدل الإنتخابات

فــــي المغرب ، بلـــد الغرائب و العجائـــــب . الكل يكتب .و الكل ينظّــــــر . فمـــا إن تظهر مشكلة ما، تهم واقع المغرب المرير، حتى تتساقط كغيث ،أتى بعد انحباس السماء ،المئات مــــن مقالات الرأي على أرض وسائل الاتصال على اختلاف أنواعها.فهناك من يشجب ،و هناك من ينظّر ،و هناك أيضا من يكتب، فقط، لكي ينسى أو يتناسى .

لكــــــــن السؤال الذي يطرح نفسه هنا وبشكل ملحّ ،يكمن في ما إذا كانت تلك الآراء و الأفكار،تؤخذ بعين الاعتبار، أم أنها تبقى مادة خام، تنتظر،لتظهر ، قدوم عصر غير هذا العصر، الذي غلب فيه الشر على الخير،و الانحدار على الارتقاء؟

من المؤكد أن رؤية الأمور عند من يتابعها عن بعد، تختلف عن تلك، التي تكون لدى من يعنيه الأمر بصفة خاصة. من هنا و لهذا السبب ،جعلت الحكمة ،و جعلت الفلسفة ،و ازدهر الفكر .فكانت قصور الحكّام و الملوك و الأباطرة على مرّ العصور ،تؤثث و تجمّل بذوي الحكمة ،و أصحاب الرأي السديد .

في كتابه “الديمقراطية في أمريكا “،يحكي الفيلسوف و المنظّر الفرنسي،” أليكسيس ذي توكفيل” ما رآه و عاينه في سفره،لآكتشاف العالم الجديد ،”الذي يقصد به أمريكا “،عند بداية تشكّلها على أنقاض إبادة و طمس معالم جنس بشــري كان يعيش على الطبيعة الأولية .إنهم الهنود الحمر . يحكي “ذي توكفيل “، أنه أخذته الدّهشة حينما كان يجد في كل شارع من شوارع مدنها المبتدئة..جماعات من الناس ،متحلّقة حول نفسها ،تناقش الأفكار ،و تبدي الآراء ،و تقترح المقترحات ..وهكذا أصبح العالم الجديد قوة عظمى ،تتحكم عن بعد في كل العالم القديـــــــــم، الذي هو نحن .

كذلك كانت روما ،و كذلك كانت الدولة الإسلامية ،و كذلك كانت إسبرطة ،و كانت مقدونيا .. و لا غرابة إن نظّر أفلاطون، لمدينته الفاضلة.التي لم يكتب لها الإكتمال ..و تبعه في ذلك أرسطو و أفلوطين و هيجل و ابن رشد و ابن خلدون .. و القائمة طويلة .

الكل يجمع على أن المغرب مثله مثل العديد من الدول اللاديمقراطية إن لم نقل المستبدة ،يعاني الويلات والشرور .و الكل يقرّ على أن شيئا ما، ليس على ما يرام .و أن خير ما فينا،منهزم ومسلوب أمام شرّ ما فينا .

حتى ملك البلاد، خرج ذات يوم، و أقرّ بذلك.أقرّ بمأساوية الواقع،التي تظهر من دون تصحيح لنظر البصر و البصيرة .فقال: أيها الملأ، إن شيئا ما ينقصنا. فأختلف الملأ، و قالوا،ما نحن بحبائل السياسة بعارفين..ليعطى الأمر ،و ينحى باللائمة على رهط منهم ،أن استفيقوا من سباتكم .لكن رغم هذا الإيقاظ الميكانيكي ،الذي طالما تكرّر ،بقي الأمر على ما هو عليه ..لننتظر إيقاظا جديدا بعد سبات دبّي طويل .

هذه الواقعة ،نجدها تذكّرنا ،برؤية الملك الفرعوني ،المذكورة في القرءان الكريم .تلك القصة الجميلة.. التي أنقدت شعبا بكامله من الهلاك المبين .و التي لا تخلو من دروس و عبر للآخرين. المتقدمون منهم و المتأخرين..ليقع الإختيار بحكم ربّاني ،على مختار .جمع الحكمة و تسلّح بالعفة ،وارتوى من بحر العلم و صان العهد وحافظ على الأمانة .

قال الصدّيق، يوسف عليه السلام ،للملك .إجعلني على خزائن الأرض ،إني حفيظ عليم . ذكاء الملك الوقّاد ،حضّه على التقاط الإشارة بسرعة، بعدما رأى من شمائله ما رأى .فجعله هذا الذكاء لا يتوانى قيد أنملة على الموافقة . ليلبي الطلب ،و يستودعه مفاتيح خزائن الأرض .لأنه علم بصدقه و أمانته و عفته .

قد يكون هذا الأمر وحي منزل من عند الله.و أن من اختصّه، كان نبيّ يوحى إليه ،يسير وفق أمر سماوي . لكن الله سبحانه و تعالى ،لم يجعل هذا الأمر وقفا على من يوحى إليهم فقط. بل جعله مطلقا، بدليل قوله تعالى: و كذلك نجزي المحسنين . أي أن من تأسّى بتلك الصفات و الشمائل التي وجدت في النبي الكريم يوسف عليه السلام و غيره من الرسل و الأنبياء الكرام.فإنه يجزى بنفس الجزاء و الإحسان .الذي هو الحكمة و فصل الخطاب.و ما على الناس إلا الإعتبار .

لكن هل من معتبر ؟
لو تمعنّا جيدا في الحالة،حالة المغرب طبعا . لما استطعنا حصر النقائص . لكن هذه النقائص،تجتمع كلها عند نقطة واحدة .تختزل في عدم الإكثراث والإهتمام بالمحسنين من ذوي الفكر الراجح و الحكمة المبصرة . فإبعادهم عن دوائر القرار ،و عدم إشراكهم ،ربما هو جوهر ما ينقصنا .

العرف السائد في العالم ،في اختيار أولي الأمر ، يعتمد فيه على ما تسفر عنه صناديق الإقتراع . و هو العرف الذي نظّر إليه العديد من الفلاسفة و المفكرين .أمثال “جان جاك روسو” في العقد الإجتماعي ، و مونتيسكيو في “روح القوانين “..هدفه كان، هو تفادي الوقوع في براثن الإستبداد و التعسف و الحكم المطلق .

و المغرب بدوره ابتغى هذا العرف الديمقراطي ،لأسباب متعددة ..من أجل إعطاء الشعب الكلمة ،في اختيار من يحكمه ،و من يسيّر أموره . غير أنه على الرغم من ذلك ،فقد أظهرت هذه “العملية الديمقراطية “،سلبيات كثيرة ،خاصة في المغرب ،جعلت القول فيها ،قريب إلى القول بعدم نجاعتها.استعمال المال و اعتماده بالدرجة الأولى في الانتخابات ،أبعد كل شيء ،له علاقة بالفكر و روحه . فجعل العزوف السياسي ،و انعدام الثقة في السياسة و السياسيين ،عرفا واقعا ،و حقيقة ظاهرة .

قد نجد من المسؤولين من يسيّر أكبر المدن المغربية ، قد وصل إلى ذلك عن طريق صناديق الاقتراع ،و ما تعرفه من ملابسات ،و هو في غفلة عن العلم و أصحابه. في حين نجد أن من بين من يسيّرهم هؤلاء الغافلون، و يتحكم في أمورهم ،أشخاصا ذوي فكر رفيع . أفنوا أعمارهم في التحصيل و الدرس،مكتفين بوظائف،وصلوا إليها عن طريق الإنتقاء و الإختبار.لكنهم لم يجرؤوا على تجريب حظّهم مع صناديق الاقتراع ،لأنه في اعتقادهم ،النتيجة محسومة لأصحاب الحقائب المالية .فتركوا المسؤولية ،وآووا إلى أركان قصية ،مكتفين بالمشاهدة و إلى ما حكم به الواقع.واقعنا نحن.

و لعلّ هذا يدخل ضمن المفارقات العجيبة،التي لا يقبلها عقل و لا تستوي و المنطق السليم . فكيف إذن، لمن يتحكم و يسيّر مدنا بها ملايين من الناس ،أن لا يخضع لآنتقاء واختبار في ميادين مختصة ،مثلما يحصل في باقي الوظائف ؟ هذا على الرغم من أن هاته المسؤولية تعتبر أكثر جسامة من باقي المسؤوليات التي تخضع لفحص و انتقاء دقيق ؟

إن ذلك ،أي جعل الإمتحانات بدل الإنتخابات في اختيار المسؤولين ،ينطوي على إيجابيات عديدة .منها أنه سيردّ الاعتبار إلى أصحاب الفكر ،و سيجنّب ميزانية الدولة خسائر فادحة، متمثلة في الدعم المخصص للمرشحين لتمويل حملاتهم الإنتخابية،و ما يسفر عنها من قلاقل و نزاعات.. و سيجعل الناس تقبل على ممارسة السياسة بشكل مكثّف،كما تجعلهم يتخلّون عن استعمال المال ،و يتسلحون بالعلم الذي يعتبر الطريق الصحيح لكل أمة تحترم نفسها .و بدل أن تصبح الأحزاب السياسية مرتعا للمسترزقين ،ستضحو مكانا للمتعلمين .و بدل أن يسيّر الناس أناس جاهلون ،سيتولاّها من هم بها عالمون .أي من يتفوقون في تلك الإختبارات .عندها سنجد ،رئيس مجلس بلدي مثقف ،و رئيس جهة مثقف ،و وزير مثقف و برلماني مثقف ..

ربما هذا القول ،قد لا يتقبله الكثير ،خاصة أولئك الذين يبغونها عوجا .لكن رغم ذلك، فإن الفكر لا يقف عند حد. و ما قد يصلح لهذا البلد،قد لا يصلح لذلك البلد.
و إلا، فما الذي ينقصنـــــــــــــــــا ؟

عبد الغاني بوز
محام بهيئة القنيطرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *