وجهة نظر

ليلة القبض على اللغة العربية:

علَّق صديقٌ عزيز على عبارة لي سابِقةٍ، فقال :« العربية لن تُعدَم أبدًا مهما اجتهدوا في الكَيْد لها والمَكر بأهلها».

كتبتُ تعليقًا على التعليق، فقلتُ :
أُقدِّر هذا الشعورَ النبيل، وأحترم كلَّ من يقول بذلك. وكلُّنا يأمل ويتمنّى. لكنْ، (وما نَيلُ المَطالب بالتَّمَنّي ….) كما قال شاعرُ العربية الخالد. إذا كانوا كلَّ يومٍ يَبتُرون منها عُضوًا، ويَقطَعونُ شِلْوًا، فلن يبقى منها شيءٌ يصلح ولو للمَجامِر والبَخُور. فاللغاتُ لا تبقَى بالدُّعاء والبَرَكة، لكنْ بالعمَل المفيد للحفاظ عليها وتنمِيَّتها وتطويرها والحرص على استعمالها وإقحامها في كل المجالات. تعيشُ اللغاتُ وتحيا بالاستِعمال وتَضِيع وتَفْنَى بالتفريط والإهمال. كلامٌ قلتُه وكتبتُه وشرحتُه عشرات المرّات، وهو قاعدةٌ معروفة ليس لي فيها سوى إعادة الصياغة. لا فائدةَ من عربية لا تصلح إلا قطعةَ آثارٍ في مُتحَف العادِيات، أو لمجرد سَردٍ أدعيةٍ وترتيل آياتٍ، في المساجد والأضرحة وقبور الآباء والأولياء، كشأن اللاتينية التي انتهى أمرُها وتحوَّلت إلى لغة طُقوسية في الكنيسة الرومانية الكاثوليكية. لا بارَك اللهُ فيها ولا في أهلها حينذاكَ.

اليوم قرَّروا رسميًّا وبشكل استِباقي واحتفاليّ التراجُع عن استعمال العربية في تدريس جميع المواد العلمية، ومواد أخرى (؟) في كل أسلاك التعليم العمومي والخصوصي (بالطبع)، بالجملة لا بالتقسيطكما زعموا من قبل. تراجعوا حتى عن هذه الفكرة البسيطة الأخيرة.

فقد قال مسؤول التعليم الأول في كلمة صارِمة جازِمة حازِمة، لا مجاملةَ فيها ولا مساحيقَ تجميلٍ وتَرطيبٍ:« اعتماد اللغات الأجنبية لتدريس بعض المواد ولاسيما العلمية والتِّقنية منها ».

ثم قرّروا أيضًا أن تصبح اللغةُ الأجنبية الأولى(الفرنسية طبعًا) إلزاميةً في كل الأسلاك التعليمية، أي بما يشمل مرحلةَ التعليم الأوَّلي (روض الأطفال في أولى سنوات عُمرهم الغضِّ الطرِيّ) كما جاء في مشروع (رؤيتهم الاستراتيجية، البيان رقم: 6،الفقرة: 86). وهذا الأمر الأخير، جديدٌ كل الجدة في تاريخ المغرب الحديث.وإن كان الاستعمار قد حارَبَ التعليم الأوّلي المتمثِّل يومذاك في الكتاتيب القرآنية لسبب واحد هو كونُها تُعلِّم العربيةَ بالقرآن.

بدأوا تنفيذ خطة (رؤيتهم الاستراتيجية) حتى قبل أن يُصادق عليها البرلمان وتتحوّل إلى قانون ساري المفعول، في خطوة استِباقية مدروسة تُكبِّل يديه وتفرضَ عليه الأمرَ الواقع الذي لا رجعةَ فيه. ما عساك أيها البرلمان أن تفعل الآن؟ وماذا سيناقِشُ نواب الشعب المحترمون؟ الفكرة الأخطر والأهم في (الرؤية الاستراتيجية) مرَّت وانتَهت. جفَّت الأٌقلامُ ورُفِعت الصحفُ. لم يبقَ هناك موضوع جدّي للمناقشة. لا حاجة لحضوركم أيها السادة النواب(قُضِيَ الأمرُ الذي فيه تَسْتَفتِيان).

إعدامُ العربية أو شَنقُها واغتيالُها، كان عن قصد وإصرار وترصُّد. والتُّهمةُ جاهزةٌ ومعروفةٌ من قبل. لقد قبَضوا على العربية وهي في حالة تلبُّس لا ينفع معها سَتْرٌ ولا غِطاء. أليست السببَ الأول والأخير في فشَل منظومة التعليم؟ ثَبَتَت التُّهمة ولو بدون حجة أو دليل أو حضور شُهودٍ. يكفي تقرير ُالمجلس الأعلى.

القاضي أصدرَ الحُكمَ، وفضيلةُ المُفتي اطّلَع على كل الحيثيات حسب التكييف القانوني الذي أرادوه وحبَكوه وقدّموه إليه في غشاء حرري ناعِم مُتقَنٍ، وعباراتٍ شَهيّة لذيذة لا تُرفَض ولا تُردُّ، فدعا بالخير والتوفيق وقال آمين. والخبرُ زُفَّ للناس في احتفالية كبيرة باذِخة تليق بالمقامالجليل للضحيّة المسكينة التي قُدِّمت قُربانًا لمعبد الفرنكفونية العظيم، في مقايَضةٍ وصفقة متفَقٍ عليهما (على مبدإ: كلّ شيءٍ بمقابِل)، وذلك حتى يبارك الله لنا في تعليم أولادنا وأحفادنا وما تبقَّى من أعمارنا.

الحُكم صدر، والتنفيذُ غدًا قبل طلوع الشمس. ومن له قدرةٌ أو جرأةٌ على الاستئناف فليتقدَّم داخلَ الآجال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *